Thursday 11 December 2025
كتاب الرأي

عبد الحي السملالي: المال العام في فرنسا.. بين الحلال واللائكية، حياد ام تقييد؟

عبد الحي السملالي: المال العام في فرنسا.. بين الحلال واللائكية، حياد ام تقييد؟ عبد الحي السملالي
تثير مسألة تقديم وجبات حلال أو كاشير في المدارس الفرنسية جدلاً متجذراً في عمق الهوية الجمهورية. فهي قضية تتجاوز الجانب اللوجستي للتغذية المدرسية، لتكشف عن صراع فلسفي وقانوني بين مبدأين: الحياد الصارم للدولة من جهة، وضمان المساواة الفعلية بين المواطنين من جهة أخرى. ولا تأتي هذه القضية معزولة، بل تمثل نموذجاً مصغراً لجدل أوسع يمتد إلى الفضاء العام كله، من المسابح إلى الملاعب الرياضية. وهو ما يدفع إلى التساؤل عن حدود حرية الضمير في مواجهة المصلحة العامة كما تُعرِّفها الدولة.
 
اللائكية الفرنسية: إرث صراع وتفرد قانوني
غالباً ما يُساء فهم النموذج الفرنسي خارج سياقه التاريخي الفريد. فقد نشأت اللائكية كردّ فعل على الهيمنة التاريخية للكنيسة الكاثوليكية، التي جعلت من فرنسا “الابنة الكبرى للكنيسة”. لذلك فهي ليست مجرد فصل بين الدين والدولة، بل خيار قانوني وسياسي صارم هدفه تحييد الفضاء العام.
 
ولفهم هذا المفهوم يجب التمييز بين مستويين:
العلمنة: ظاهرة اجتماعية تاريخية عالمية تُضعف الهيمنة الدينية تدريجياً.
اللائكية إطار قانوني فرنسي واضح المعالم يفرض هذا الفصل و يضبطه.
هذا الإرث الصراعي يفسر التشدد المُرافق للنموذج الفرنسي، حيث يُنظر إلى أي حضور ديني داخل فضاء ممول من المال العام كإمكانية لعودة النفوذ الديني وخرق لمبدأ المساواة.
 
 
التدين في الفضاء العام: بين الحرية الشخصية والارتياب المؤسسي
يدفع الطلب الفردي على وجبات تراعي المعتقدات إلى قلب الإشكال: هل احترام هذا التنوع ضمان للمساواة أم مساس بالحياد؟ من منظور، يُعد التدين جزءاً من حرية الضمير الشخصية. ومن منظور آخر، يخلط الخطاب العام الفرنسي بين الممارسة الفردية والتهديد الجماعي، مما يضفي على النقاش طابعاً وجودياً.
 
ويظهر هذا الارتياب في صعوبة حصول الجمعيات الإسلامية—مقارنة بنظيراتها الكاثوليكية أو اليهودية—على شراكات أو اعتماد كامل من الدولة. وهنا يبرز سؤال نقدي جوهري: هل يتحول “الحياد” أحياناً إلى آلية لضبط دين محدّد أكثر من كونه ضماناً للمساواة بين جميع المعتقدات؟
 
 
 
اللائكية تحت المجهر: توسعات وتحديات معاصرة
يتعرض المبدأ الفرنسي اليوم لتحديين متوازيين. فمن جهة، تشير الأبحاث إلى أن الجيل الفرنسي الشاب أكثر معرفة باللائكية، ولكنه أيضاً أكثر استعداداً لتحدي تفسيراتها المتشددة دفاعاً عن التنوع والحرية الفردية. ومن جهة أخرى، تتوسع مجالات تطبيق الحياد إلى ميادين جديدة، كما حدث مع مشروع القانون الذي وافق عليه مجلس الشيوخ في فبراير 2025، والذي يحظر الرموز الدينية الظاهرة في المنافسات الرياضية الرسمية.
 
هذا الاتساع المستمر لفضاءات “الحياد” يثير سؤالاً مركزياً: أين تنتهي حرية الفرد وتبدأ سلطة الدولة في فرض الحياد؟ ويبدو أن الخط الفرنسي يميل إلى دفع هذه الحدود باستمرار إلى الأمام، مما يثير نقاشاً حول ما إذا كانت اللائكية تحمي المجتمع أم تقيد الأفراد.
 
المقارنة الدولية: خطابات مختلفة وتهديدات متخيَّلة
تكشف المقارنة بين فرنسا ودول أوروبية كبرى أن الاختلاف لا يقتصر على السياسات، بل يشمل الخطاب العام الذي يصوغ طبيعة المشكلة ويحدد الحلول:
 
فرنسا: يتركز النقاش على الخوف من الطائفية والانقسام. يُتعامل مع الدين—خصوصاً الإسلام—كتهديد محتمل، مما يدفع نحو حلول “محايدة” مثل تقديم وجبات نباتية أو خالية من لحم الخنزير.
بريطانيا: يستند النموذج إلى التعددية الثقافية. التهديد يُرى في “أوروبا القارية” أكثر منه في الإسلام، مما يفتح المجال لتقديم وجبات حلال أو كاشير رسمياً.
ألمانيا: مقاربة براغماتية محلية، تتأثر بالتركيبة الديموغرافية لكل منطقة. بعض المدارس تقدّم وجبات حلال حصراً نظراً للأغلبية، بينما تتبع أخرى حلولاً مختلفة.
الخلاصة الفلسفية والسؤال المفتوح
 
تجد فرنسا نفسها أمام مفترق فلسفي دقيق. فمن منظور الدولة، تمثل اللائكية الضامن الأخير لحرية الفرد من أي هيمنة جماعية، دينية كانت أو غيرها. ويُنظر إلى تقييد التعبير الديني في الفضاء العام كخطوة ضرورية لحماية حياد الخدمات العامة التي يجب أن تبقى فضاءً آمناً للجميع.
 
أما المنظور النقدي فيرى أن اللائكية المتشددة قد تتحول إلى أداة لتقييد حرية التدين الشخصي، فتنتج شعوراً بالإقصاء، خصوصاً لدى بعض الفئات الدينية. فرفض تقديم وجبة تحترم معتقد التلميذ يرسل رسالة ضمنية مفادها أن هويته الدينية “مشكلة” تتعارض مع الانتماء للجمهورية.
 
يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً:
هل يمكن للمطالب الفردية البسيطة—كوجبة تتماشى مع المعتقد أو لباس مخصص للسباحة—أن تكون فرصة لتعزيز العيش المشترك عبر الاعتراف بالتنوع؟ أم أن قراءة هذه المطالب كتهديد طائفي هي التي تقود، فعلياً، إلى الانقسام الذي تُفترض اللائكية أنها تحمي المجتمع منه؟
 
إن الإجابة عن هذا السؤال ستحدد، إلى حد كبير، مستقبل النموذج الفرنسي في عالم يتجه نحو تعددية أعمق.