Friday 28 November 2025
كتاب الرأي

منير الطاهري: مستقبل السلم الاجتماعي في المغرب على المحك

منير الطاهري: مستقبل السلم الاجتماعي في المغرب على المحك منير الطاهري
تبدو ملامح المرحلة المقبلة في المغرب مرشحة لسيناريوهات اجتماعية وسياسية متعددة، بفعل تراكم اختناقات مركبة تمس تنظيم الاقتصاد وتوزيع الثروة ووظائف الدولة. فالمؤشرات الصادرة عن مراصد وطنية مستقلة، وتقارير دولية مثل تقارير البنك الدولي ومنظمة الشفافية الدولية، والبارومترات الدولية لقياس جودة مناخ الأعمال تكشف عن تفاقم الإحساس العام باستشراء الفساد داخل المؤسسات، وعن استمرار حضور الريع والامتيازات كآليات منظمة للعلاقات الاقتصادية والسياسية، وعن تردد المستثمرين في إقامة مشاريع بالمغرب لأن الوضع العام لا يبعث على الاطمئنان والثقة، فرغم الخطاب الرسمي الذي يروج لتحرير المبادرة الخاصة وتكافؤ الفرص أصبح المغرب معروفا على الصعيد الدولي بأنه دولة مازالت تتشبت بموروتها الريعي وثقافة الامتيازات والحضوة والعودة القوية للفساد و تضارب المصالح والزبونية مع حكومة رجال الأعمال التي كرست ثقافة جديدة لمحاصرة المبادرة الحرة وتركيزها في أيادي فئات وعائلات من داخل الوسط التقليدي للدولة والعلاقات الاجتماعية المرتبطة بحلقات ضيقة. هذا التناقض الهيكلي بين خطاب الدولة وممارستها يعمق الهوة مع المجتمع، ويضعف ثقة فئات واسعة في مسار الإصلاح.

يتفاقم هذا الوضع كذلك، بسبب انهيار الوساطة السياسية التقليدية وتراجع فعالية الأحزاب والنقابات، مقابل اتساع قاعدة الإحباط لدى الشباب، خصوصاً جيل Z الذي يعيش “قطيعة رمزية” مع النخب السياسية. كما أن هشاشة الحماية الاجتماعية واتساع رقعة الاقتصاد غير المهيكل ترفعان منسوب الاحتقان و التوتر، وتزيدان احتمالات الاحتجاج.

ضمن هذا السياق، يمكن للعلاقة بين الدولة والمجتمع أن تتخذ إحدى ثلاث صيغ كبرى في المرحلة القادمة:
أولا، احتمال بروز ثورة اجتماعية غير مؤطرة، تندفع إليها الفئات الأكثر هشاشة: العاطلون، عمال القطاع غير المهيكل، والشباب المحروم من خدمات التنمية والحماية. مثل هذه الحراكات تتغذى من مؤشرات الغلاء ومن ضعف سياسات الإدماج الاجتماعي، وتذكر بما سماه الفيلسوف بيار روزنفالون “تمرد البسطاء العاديين على اللامساواة الاجتماعية”.

ثانيا، احتمال تشكل موجة احتجاجية جديدة لجيل Z. هذا الحراك الذي لا يشبه حراك 2011  يقوم على تكتيكات الكر والفر، وعلى الاحتجاج اللامركزي، وعلى الاستفادة من لحظات التوتر الاجتماعي للعودة إلى الشارع. إنه حراك يرفض الوساطة، ويميل إلى ما يسميه زيغمونت باومان “السيولة السياسية”، حيث يصبح الاحتجاج فعلا سريعا ومتقطعا لكنه قابل للانتشار مثل موجات رقمية متلاحقة.

ثالثا، احتمال بروز حراك مجتمعي شامل ومتعدد الفاعلين، قد تنخرط فيه بعض الحركات الإسلامية وجانب ما تبقى من النقابات والجمعيات الجادة، وبقايا اليسار المشتت. هذا السيناريو قد يشكل نسخة مغربية جديدة من “الاضطراب المنظم” الذي شهدته بلدان الجنوب سنة 2011، مع اختلاف في السياقات.
هذه السيناريوهات لا تمثل تنبؤات حتمية، لكنها تعكس ما وصفه يورغن هابرماس بـ“الأزمات التواصلية وآثارها” بين الدولة والمجتمع، حين تفشل المنظومة السياسية في إنتاج شرعية قائمة على المشاركة والشفافية والمساءلة. كما يجد جزء من هذا التحليل صدى في أعمال نوربرت إلياس حول تحول الدول الحديثة عندما تتآكل بنياتها الوسيطة وتزداد الفوارق الاجتماعية.

إن مستقبل الاستقرار في المغرب مرتبط بمدى يقظة الدولة واستباقيتها لإحدات تغييرات جوهرية على العلاقات الاقتصادية والقطع مع منظومة الفساد والريع و إعادة بناء تعاقد اجتماعي جديد يقوم على العدالة في توزيع الفرص وربط المسؤولية بالمحاسبة ومحاربة الفساد . فمرحلة ما بعد الجائحة والغلاء العالمي لم تعد تحتمل الحلول التقنية المعزولة عن سؤال الديمقراطية وفعالية المؤسسات. 

إن خيارات الدولة اليوم، كما يحددها عدد من الباحثين المعاصرين، ستحدد ما إذا كان المغرب سيتجه نحو توازن سياسي جديد، أو نحو موجة احتجاجات أكثر عمقا واتساعا.