Wednesday 19 November 2025
Advertisement
كتاب الرأي

محمد السباعي: المقاربة التشاركية.. ين الطموح الديمقراطي ورهانات الفعل العمومي في المغرب

محمد السباعي: المقاربة التشاركية.. ين الطموح الديمقراطي ورهانات الفعل العمومي في المغرب محمد السباعي
يشهد المغرب، خلال السنوات الأخيرة، دينامية متجددة في مجال التفكير في أساليب إنتاج القرار العمومي، حيث تصاعدت الحاجة إلى إعادة بناء جسور الثقة بين الدولة والمجتمع عبر آليات تضمن مشاركة واسعة وفعّالة للمواطنين في صياغة السياسات العمومية. وفي هذا السياق، تبرز المقاربة التشاركية كأحد أهم المنعطفات المؤسِّسة لحكامة ديمقراطية حديثة، تجعل من المواطن والفاعل المدني والسياسي شريكاً في القرار، لا متلقياً له. ويكتسب هذا التوجه راهنية مضاعفة في ظل النقاش الوطني الدائر حول التنمية الترابية، والتمثيلية السياسية، ومصداقية العملية الانتخابية.
 
فالمقاربة التشاركية، في جوهرها، ليست مجرد تقنية إدارية ولا "منهجية استشارية" تُفعّل عند الحاجة، بل هي فلسفة متكاملة تعيد بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس التفاعل والتفاوض وصناعة التوافقات. وهي بذلك تشكل مدخلاً لإنتاج سياسات أكثر توازناً وشرعية، لأنها تستند إلى المعرفة المحلية وتجارب المواطنين وحاجاتهم الفعلية، لا إلى تصورات تقنية مغلقة أو قرارات أحادية مهما كانت وجاهتها.
 
إحدى النقاط المحورية في هذا النقاش تتمثل في ضرورة إشراك جميع الأطياف والمرجعيات الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية داخل مسار التشاور، بما في ذلك الأصوات النقدية أو المعارضة للتوجهات الرسمية.
 
فالتجارب الدولية والمغربية على السواء تؤكد أن أي عملية تشاورية يغيب عنها التنوع تفقد جزءاً كبيراً من قيمتها الديمقراطية، وتتحول بسهولة إلى مسطرة شكلية. إن حضور المعارضة، بمعناها الواسع، ليس تهديداً لمسار التشاور، بل هو ضمانة أساسية للتوازن، ومصدر لإغناء النقاش، وكابح لأي انحياز أو تضييق لرؤية القرار العمومي.
 
ومع انطلاق اللقاءات التشاورية الجارية الآن عبر مختلف جهات المملكة، تتسع مساحة النقاش العمومي حول مدى قدرة هذه اللقاءات على تجسيد روح المقاربة التشاركية في عمقها الحقيقي. وقد رافقت هذه اللقاءات موجة من التدوينات القوية التي ينشرها فاعلون سياسيون ومدنيون بشكل يومي، يعبرون فيها عن مخاوف متنامية من أن ينزلق هذا الورش الوطني إلى ممارسات صورية. فعدد من هذه التدوينات يذهب إلى القول إن بعض اللقاءات تُدار بمنطق بروتوكولي أكثر منه تشاركي، وإن تمثيلية المدعوين لا تعكس دوماً التعددية الحقيقية للمجتمع، وإن النقاشات تُحاصر أحياناً بخطاب رسمي يحول دون بروز الرؤى النقدية أو البديلة.
 
وتشير تدوينات أخرى إلى غياب المعلومات الكافية لدى جزء من المشاركين، وإلى ضيق الحيز الزمني المخصص للحوار، وإلى غموض آليات تتبّع المخرجات وإدماجها في صياغة التقارير والسياسات النهائية. بل إن بعض الفاعلين يذهبون أبعد من ذلك، محذرين من أن استمرار هذا النمط قد يؤدي إلى إفراغ التشاور من مضمونه الديمقراطي، وتحويله إلى مجرد واجهة شكلية تمنح الشرعية لخيارات جاهزة، وهو ما قد ينعكس سلباً على الثقة العمومية وعلى مسار ترسيخ قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وتكشف هذه الأصوات، التي تتفاعل بقوة مع اللقاءات الجارية الآن، عن حاجة ملحّة إلى حماية هذا الورش الوطني من أي ممارسات قد تفقده زخمَه أو تحوّله إلى عملية شكلانية.
 
في المقابل، يؤكد خبراء ومهتمون أن المقاربة التشاركية قادرة، إذا ما فُعّلت وفق المعايير الدولية للحق في المشاركة، على إحداث أثر نوعي في التنمية وفي تعزيز الديمقراطية التمثيلية. فالتشاور الواسع، حين يتم بآليات شفافة ومنفتحة، قادر على إنضاج السياسات العمومية، وتوجيه الاستثمارات الترابية، ورفع جودة القرارات، وتقوية مشروعية المؤسسات المنتخبة. كما يساهم في محاربة العزوف السياسي عبر إشراك الشباب والنساء والفاعلين الاقتصاديين والثقافيين، وتوسيع دائرة الفعل الديمقراطي لتشمل المجتمع بكل مكوناته.
 
إن مستقبل المقاربة التشاركية في المغرب يظل رهيناً بمدى القدرة على احترام شروطها الحقيقية: الشفافية، الحق في المعلومة، التمثيلية المتوازنة، إشراك الرأي المخالف، وتبني آليات واضحة لضمان إدماج توصيات التشاور في القرار العمومي. فالمشاركة ليست امتيازاً يمنحه الفاعل الرسمي، بل هي حق ديمقراطي وشرط أساسي للتنمية المستدامة والحكامة الجيدة.
 
إن نجاح اللقاءات التشاورية الجارية اليوم سيُقاس بقدرتها على خلق فضاء عمومي مفتوح يسمح بتداول الأفكار بحرية، ويمنح المواطن الإحساس بأن صوته مسموع وأن اقتراحاته مؤثرة، وأن المغرب يسير فعلاً نحو نموذج ديمقراطي يقوم على المشاركة الفعلية لا الرمزية. فحين تتحول المشاركة إلى ثقافة وممارسة مؤسسية، تصبح التنمية مشروعاً جماعياً، وتتحول الديمقراطية إلى ممارسة يومية لا حدثاً موسمياً.
 
د. محمد السباعي /خبير في حقوق الإنسان