وأنا قادم من إملشيل نحو بني ملال عبر طريق "ناوور"، رمقت سعيد "مول الشفنج" بزاوية الطريق الرئيسية بمركز إغرم العلام (جماعة دير لقصيبة). أوقفت سيارتي واقتنيت منه ما تيسر من "شفنج"، ليس للتلذذ بهذا المنتوج المغربي الخالص فقط، بل وفاء لكل "شفناج" أينما كان بالمغرب.
فرغم أني كنت ضمن المغاربة الذين صوتوا بالإيجاب على دستور 2011، فقد كانت لدي تحفظات على الصيغة التي حررت بها فقرات الفصل 31 من الدستور. فالمشرع الدستوري وهو يعدد مجموعة من الحقوق التي على الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، العمل على تيسير استفادة المواطنات والمواطنين منها( من ماء وعيش وعلاج وغيرها)، تناسى أن هناك مؤسسة متجذرة بالمغرب ظلت تقوم بواجبها اتجاه المحتاجين والفقراء وعابري السبيل، بدون أن تتم "دسترتها"، ألا وهي مؤسسة مؤسسة "الشفناج". إذ كان وما يزال "بائع الشفنج"بمختلف مدن وقرى المغرب يحرص على سد رمق المحتاج وإشباع بطنه بما تجود به أريحيته دون انتظار مقابل من المحتاج أو من المخزن، ودون انتظار صدور دستور 2011، لتمتيع المواطن ببعض الحقوق.
فالدستور الوحيد الذي ظل يؤطر علاقة "الشفناج" بالمغرب مع محيطه، هو "العباسية" مع ما ترمز له "العباسية" في موروثنا المغربي من حمولة ودلالة على العطاء والجود والكرم والسخاء.
ففي جميع أسواقنا القروية ودروبنا وأحيائنا الشعبية عرفت "العباسية" حسب منتوجها. وبفضل "العباسية" استطعنا ونحن أطفال، إشباع حاجياتنا من المعروضات التجارية بأحيائنا، بصرف النظر عن أوضاعنا الاجتماعية.
وبفضل "العباسية" تقلصت مساحة الحرمان لدى العديد منا إلى حد كبير. أشبعنا ذوقنا من أكل الإسفنج والحلوى والفواكه، بدون أن نتوفر على "ريال واحد"، بل وأشبعنا حقنا في الفرجة بملعب الرشاد البرنوصي، الذي كنا ندخل إلى مدرجاته"فابور"، عقب الشوط الأول بعد أن يسمح لنا أفراد القوات المساعدة ورجال الأمن بالدخول بإشهارهم لموروث أجدادنا، أي "العباسية".
ولم يكن وعيي كطفل يسمح يومئذ بمعرفة سر هذا السخاء المجتمعي وبقيمة هذا السلوك الأخلاقي السامي في التضامن الاجتماعي المغربي، إلى أن بلغت النضج والرشد المدني.
فما هي "العباسية"؟
العباسية" هي نسبة إلي أبي العباس السبتي، ثالث سبعة رجال بمراكش على ترتيب زيارتهم (أبو يعقوب يوسف بن علي الصنهاجي، القاضي عياض، أبو العباس السبتي، أبو عبد الله بن سليمان الجزولي، عبد العزيز التباع، عبد الله العزواني، أبو القاسم السهيلي). عاش في العهد الموحدي، وتوفي في القرن الثالث عشر ميلادي( سنة601 بالهجري).
كان مذهب أبي العباس السبتي يتمحور كله على "الصدقة" و"الإحسان"، على اعتبار أن "مذهبه أن الوجود ينفعل بالجود"، أي بالعطاء.
وتعني العباسية في أجرأتها، التبرع بأول عرض، أو بثمن أول بيع، للأطفال والمحتاجين وعابري السبيل.
وهذا المذهب في الصدقة بالنقد والطعام، يتأسس على استبطان عميق للقرآن الكريم وللسيرة النبوية، ومقتضى الزهد في الحياة.لذلك كان يرى الصدقة في كل شيء من عوارض الحياة الخاصة والعامة، في الكفارات والاستسقاء، ودفع البلاء..وهذه الرؤية كانت موضع محاربة من الفقهاء الذين لهم حساسية تجاه التصوف.
لكن مذهب أبو العباس في الصدقة، سيتبناه المجتمع المغربي في توسيع مجالات التبرع.وكذلك الزوايا، حيث أصبحت إلى جانب مهامها في التربية والذكر، من "المواضع المعدة لإرفاق الواردين وإطعام المحتاج من القاصدين". وكذلك مأوى لتقديم الطعام للفقراء والمساكين والأيتام والوافدين والملازمين على الدوام، حتى صارت الزوايا بهذا التضمين ،"عند العوام كأنها من الفروض أو الشروط"،حسب اليوسي.
إن "العباسية"، وهي مما جرى به العمل في المغرب، في باب التآزر الاجتماعي، هي من صميم معجم القيم الجميلة لموروث أجدادنا، والمهددة بتيار اللبيرالية المتوحشة وبتيار جارف شعاره: "راسي يا راسي".
ولكن رغم هذا التهديد، تعرف "العباسية" اليوم كذلك تعبيرات متجددة في تصريف معناها التضامني.
فرحمة الله الواسعة على الشفناج "أرضوني" الذي أطعمنا من حيث لانحتسب بحي سيدي البرنوصي بالبيضاء، ورحمة الله الواسعة على المغاربة الأحياء والأموات ممن سكنت وجدانهم "العباسية"!
ملحوظة:
الصورة مع سعيد "مول الشفنج" بمركز إغرم العلام بجماعة دير لقصيبة التابعة لإقليم بني ملال، وأنشرها بموافقته.