لا يرحل الكبار رجالا ونساء دون أن يتركوا أثرا يحدث بقيمهم. هناك من النساء من يكتبن سيرتهن بأفعالهن؛ فلا يحتجن إلى ضجيج وكلام كثير كي يعرفن، ولا يحتجن إلى أضواء فحسبهن نورهن المنبعث من داخل قلوبهن التقية النقية كما نحسبهن ولا نزكيهن على الله.
ومن بين أولئك الحاجة لطيفة الخياط، زوجة الشيخ مصطفى الخياط، التي غادرت هذه الدنيا بعد سنوات من معاناة مع مرض، لا زمها فقابلته بالصبر والثبات والهدوء ملتجأة إلى ربها بدعاء لا ينقطع.
من عرفها، عرفها امرأة رزينة، هادئة، تفيض عاطفة وحنانا، وتتزين بالأخلاق الرفيعة التي لا تُصنع، بل تُولد مع أصحابها وتُربّى في بيوتهم. كانت مثالا للزوجة الصالحة، الرفيقة المخلصة لزوجها، تؤازره وترافق خطواته في فعل الخيرات بحب واحترام قل نظيره في زمن ذهبت غيرة النساء على أزواجهن فيه بتآلف الأسرة في البيت. بشهادة من عرفها عن قرب؛ كانت أما حنونا لا تعرف إلا البذل والعطاء، وأختا وصديقة تفتح قلبها للجميع دون تكلّف أو ادعاء.
ثم إن سيرة الحاجة لطيفة لا تُذكر دون الحديث عن امتحانها الأصعب الذي مرت به، فقد لا زمها المرض سنوات طويلة. كان ينهش جسدها دون أن ينال من روحها. واجهته بصمت الأنبياء، وابتسامة تُربك كل من يزورها؛ إذ كيف لامرأة تتألم، تُخفي وجعها بهذا القدر من الرضا والصبر؟ وكيف لها أن تتحدث عن آلامها كأنها جزء من قدر تحبه ويحبها، وتخشى أن تشكو منه؟
كانت، رغم شدة الألم، تبعث الطمأنينة في نفوس من حولها، وتخشى أن تُحزن أحدا بتعبها. تعاني في صمت، وتبتسم كأنها بألف خير وخير. لم تشتك، ولم تتسخط، ولم تيأس، ولم يغير المرض منها شيئا. بقيت المرحومة بإذن الله؛ متمسكة ببسمتها، وخلقها، وطيبتها، ورقّتها، ودعائها الذي لم ينقطع إلى آخر أيامها..
ولما جاءها اليقين، واجهته كما عاشت دائما ثابتة، راضية، مستسلمة لقدر الله، تريد أن تُكمل مضمار رحلتها الطويلة بذات الخطى الهادئة التي اعتادها كل من أحبّها من أقاربها وزميلاتها ناهيك عن أهلها.
رحلت وقد تركت وراءها إرثا إنسانيا لا يُشترى بمال الدنيا. سيرة امرأة صبورة، حكيمة، عفيفة النفس، تُعلم بصمتها أكثر مما يمكن للمؤلفات أن تعلم.
إن الحديث عن أختي كما كانت هي تناديني، الحاجة لطيفة الخياط؛ ليس حديثا عن رحيل فقط، بل عن مدرسة في الصبر، وسمو في الأخلاق، وقلب عرف كيف يحتضن البلاء دون أن يفقد صفاءه. ورغم ألم الفقد، يظل عزاؤنا، أنّ الله أرحم بها من الجميع، وأن روحها بحول الله ورحماته، تستحق مقاما عنده يليق بكل ذلك الصبر واليقين والرضا.
رحلت أختنا الحاجة لطيفة وبقي أثرها في أبنائها الذين نشأتهم على القيم، وفي زوجها الطيب الذي شاركته حياة الطيب والوئام والمودة والحب، وفي كل من أحبها بصدق.
رحمها الله رحمة واسعة، وجعل سيرتها الطيبة نورا يتردد في الذاكرة كلما مر اسمها على الألسنة.
كتبه أخوها كما كانت تناديه محمد هرار