الزواج ليس عقدا قانونيا فحسب، بل ميثاق غليظ يرتكز على المودة والرحمة. غير أنه يعيش اليوم أزمة واضحة جعلت الانفصال مشهدا متكررا بعد أن كان استثناء.
فبحسب المجلس الأعلى للسلطة القضائية، سُجّل سنة 2024 أكثر من 400 حالة طلاق وتطليق يوميا، وهو رقم يعكس اختلالا عميقا في المعنى الذي تقوم عليه الحياة الزوجية.
صرنا اليوم أكثر وعيا بمشاعرنا واحتياجاتنا، ونتحدث كثيرا عن أهمية الانسجام والراحة والعيش مع من يفهمنا ويقدرنا.
هذا الوعي في أصله جميل؛ إلا أنه حين هيمن على منطق العلاقة أفقدها توازنها، فالزواج لا يُقاس بمدى التشابه بل على فهم الاختلاف وبناء التكامل، ليكون شراكة في النمو لا مجرد سعي إلى الراحة الفردية.
ومع تبدل إيقاع الحياة، تسللت ضغوط العصر إلى تفاصيل العلاقة الزوجية.
فوتيرة العمل السريعة، وضيق الوقت، وغلاء المعيشة، أثقلت كاهل الأزواج الذين صاروا يواجهون صراع البقاء أكثر مما يهنؤون بالطمأنينة.
فوتيرة العمل السريعة، وضيق الوقت، وغلاء المعيشة، أثقلت كاهل الأزواج الذين صاروا يواجهون صراع البقاء أكثر مما يهنؤون بالطمأنينة.
وفي المقابل، زادت المادية الحديثة الطين بلة؛ إذ تحولت الكماليات إلى ضرورات، والمظاهر إلى معيار للسعادة،
حتى غدت العلاقة الزوجية أقرب إلى مشروع اقتصادي منها إلى شراكة تقوم على الامتنان والسكينة.
ولم يقف التحول عند حدود الماديات، بل شمل الأدوار داخل الأسرة نفسها.
تعمل المرأة وتشارك في الأعباء، لكنها لا تزال تتحمل العبء الأكبر في البيت؛ فيما ظَل الرجل مترددا بين دور قديم تلاشى وآخر لم تتضح ملامحه بعد.
تعمل المرأة وتشارك في الأعباء، لكنها لا تزال تتحمل العبء الأكبر في البيت؛ فيما ظَل الرجل مترددا بين دور قديم تلاشى وآخر لم تتضح ملامحه بعد.
وفي ظِل هذه المتغيرات، تحولت الشراكة أحيانا إلى منافسة صامتة بين الطرفين: من يعطي أكثر؟ ومن يقدَّر أقل؟
إلى جانب ذلك، تراجعت شبكات الدعم الاجتماعي التي كانت تحيط بالأسرة.
غابت العائلة الممتدة، وضعفت الروابط، وانطفأت النصيحة، ومعها انهار آخر جدار يحمي الأسرة من الانعزال.
ومع ذلك، فكل ما سبق من ضغوط لم يكن أصل الأزمة، بل مجرد كاشف لخلل أعمق؛ فالمشكلة لا تكمن في قسوة الواقع أو تغير الزمن، بل في تغير الفهم الذي يقوم عليه هذا الرابط الأسري، إذ لم يعد يُنظر إليه كعهد إنساني يقوم على الالتزام والثبات، بل كمساحة اختبار تُستبدل عند أول تعب.
استعادة هذا الجوهر مسؤولية مجتمع بأكمله.. فميثاق الارتباط حين يضعف لا ينهار بين شخصين فقط، بل تتصدع معه البنية الاجتماعية برمتها.
ولذلك، فإن إعادة بناء الفهم تحتاج إلى تضافر حقيقي بين الدولة، والمؤسسات، والأسرة، والتربية.
فالدولة مطالبة بدعم الأسرة تشريعيا ومجتمعيا واقتصاديا، من خلال سياسات عمومية تؤمن الاستقرار المعيشي، وتدرج ضمن أولوياتها برامج وقائية واستباقية للدعم الأسري والمرافقة النفسية.
ورغم أن المحاكم تجري محاولات للصلح في الجلسات الأولى قبل الطلاق، فإنها تبقى في الغالب مساطر شكلية تُستوفى لاستكمال الإجراء القانوني أكثر مما تعبر عن إرادة حقيقية للإصلاح؛ فهي لا تلامس عمق الخلاف ولا تهيئ بيئة حوار حقيقية بين الزوجين، مما يجعل الحاجة ملحة إلى برامج موازية خارج أسوار المحاكم يشرف عليها مختصون في الإرشاد الأسري والدعم النفسي قبل الوصول إلى الانفصال.
فصون الحياة الزوجية لا يكون في قاعات المحاكم فقط، بل في سياسات تحافظ على تماسكها منذ البداية.
أما المؤسسات التعليمية والاجتماعية والدينية، فيمكنها أن تحدث الفارق في تشكيل نظرة الأجيال المقبلة.
تعمل الجامعات والمراكز الاجتماعية بتنسيق مع مختصين في علم النفس والاجتماع والشرع على إعداد برامج تأهيلية للمقبلين على الزواج، تعلمهم مهارات التواصل، وفهم الاختلاف، واتخاذ القرار المشترك.
كما يمكن للمجالس العلمية والمساجد أن تعيد تقديم الخطاب الديني حول الزواج بلغة عصرية متزنة توقظ الفهم بدل أن تكرر المألوف.
ثم يأتي دور الإعلام، الذي أصبح اليوم المربي الأوسع تأثيرا.
نحتاج إلى إعلام يعيد التوازن، لا يغذي الصراع بين الرجل والمرأة، ولا يصور العلاقة الزوجية كمعركة لإثبات الذات، بل كمساحة للمسؤولية المشتركة.
نحتاج إلى إعلام يعيد التوازن، لا يغذي الصراع بين الرجل والمرأة، ولا يصور العلاقة الزوجية كمعركة لإثبات الذات، بل كمساحة للمسؤولية المشتركة.
إعلام يخاطب الناس بصدق وواقعية دون مثالية زائفة أو تهوين من قيمة العلاقة.
أما البداية الحقيقية فهي في تنشئة الجيل على القيم والمبادئ الأصيلة، على أن يكون الصبر قبل التوقع، والإصلاح قبل الانفصال، هما أساس الارتباط.
وعي يعيد تصحيح ما ترسخ في أذهان الشباب من أن الزواج قيد يهدد حريتهم، وأنه في جوهره التزام ينضج الإنسان لا ميدان خسارة أو رهان مؤقت؛ وأن المثالية في الحياة وهم، والسعادة الحقيقية تقوم على النية الطيبة، فما جُبلت القلوب إلا على الرحمة... لا على الكمال الذي لا يُنال.
