Wednesday 5 November 2025

كتاب الرأي

مولاي بوبكر حمداني: الحكم الذاتي كأساس.. كيف غيرت "لغة" مجلس الأمن قواعد اللعبة في ملف الصحراء؟

مولاي بوبكر حمداني: الحكم الذاتي كأساس.. كيف غيرت "لغة" مجلس الأمن قواعد اللعبة في ملف الصحراء؟ مولاي بوبكر حمداني
كانت الدلائل وحتى وقت قريب تشير إلى أن الديناميكية الدبلوماسية حول قضية الصحراء تدور في فلك من التوازنات المعقدة للقوى الكبرى، حيث ظلت لغة مجلس الأمن تعكس حالة من المراوحة بين توصيف الواقع وتجنب فرض حل بعينه، وعندما صدر قرار مجلس الأمن 2729 فلم يكون يمثل مجرد حلقة في سلسلة من القرارات السابقة، بل جاء كمنعطف حاسم في مسار هذا الملف، كاشفا عن تحول حقيقي في تعاطي المنتظم الدولي مع هذا النزاع الممتد.
 
ولا شك إن قراءة متأنية في بنية القرار اللغوية تكشف عن انتقال مدروس من لغة التلميح إلى لغة التأسيس، ومن الحذر في التوصيف إلى الحزم في التوجيه، بما يرسم ملامح مرحلة جديدة تتخذ من مقترح الحكم الذاتي المغربي أساساً وحيداً ونتيجة مرجحة للمسار التفاوضي، غير أن فهم لغة قرار مجلس الأمن رقم 2797 تستدعي منا تأطيراً منهجياً انطلاقاً من الخصائص المميزة للغته، التي تجمع بين صرامة مصطلحات القانون الدولي ومرونة مفاهيم القانون الدبلوماسي والعلاقات الدولية، ودون الخوض في التعديلات التي استمرت الى غاية اللحظات الاخيرة للوصول الى هذه الصيغة النهائية بعد خمس مسودات.
 
في مستهل القرار تمت صياغة الديباجة بتحديد دقيق للتفويض الممنوح للأمين العام ومبعوثه الشخصي، حيث أعرب المجلس عن "دعمه الكامل للأمين العام ومبعوثه الشخصي في تيسير وإجراء مفاوضات، استنادًا إلى مقترح الحكم الذاتي المغربي"، وهنا يكمن الاختلاف الجوهري؛ فالقرار 2797 يبتعد عن اللغة الرمادية التي اتسمت بها القرارات السابقة، والتي كانت تسمح لكل طرف بتأويل النص حسب منظوره الخاص، فبينما كانت النصوص القديمة تكتفي بـ"الإحاطة علماً" بالمقترح المغربي إلى جانب مقترحات أخرى، جاء هذا القرار واضحاً في تحديد الأساس والنتيجة المراد التوصل إليها من المفاوضات ودعوة "الطرفين إلى المشاركة في هذه المناقشات دون شروط مسبقة، على أساس مقترح الحكم الذاتي المغرب ".
 
وعلى ضوء ما تقدم فالدقة والوضوح المتجسدان في اختيار مصطلح "كأساس" هو تحديد قاطع لإطار العملية التفاوضية المقبلة لا مجرد اقتراح ضمني، فالمجلس لم يقل "مع الأخذ بعين الاعتبار" أو " أخذ علما ب.."، وهي صيغ تفتح المجال لتعدد الخيارات، بل حصر الأساس في مقترح الحكم الذاتي، وبذلك انتقل المقترح من كونه مبادرة مقدمة من أحد أطراف النزاع إلى مرجعية معتمدة من قبل الشرعية الدولية، وإن ربط هذا الأساس بهدف محدد بدقة، وهو "تحقيق حل عادل ودائم ومقبول للنزاع، بما يتماشى مع ميثاق الأمم المتحدة"، الشيء الذي يضفي على العملية برمتها غطاءً من الشرعية القانونية العليا، مؤكداً أن الحل المنشود وإن استند إلى مبادرة محددة يجب أن يظل متوافقاً مع المبادئ الكونية للقانون الدولي خاصة ميثاق الأمم المتحدة.
 
على صعيد متصل تظهر خاصية لغوية أخرى تميز هذا القرار وهي الحذر والتوازن والتورية، فحين رحب المجلس "بأي اقتراحات بناءة من الطرفين استجابةً لمقترح الحكم الذاتي"، فهو هنا لم يغلق الباب تماماً أمام مساهمات الأطراف الأخرى، لكنه قيدها بشرطين دقيقين: أن تكون "بناءة"، وهي تورية دبلوماسية بارعة لاستبعاد أي محاولة لنسف العملية، والشرط الثاني أن تكون "استجابة" للمقترح الأساسي، مما يؤكد أن أي فكرة جديدة يجب أن تصب في إطار تطوير الحكم الذاتي لا أن تكون بديلاً عنه، ويترتب عن ذلك أن لغة القرار بهذه الحالة تكون قد مزجت ببراعة بين الحزم في تحديد الأساس والمرونة في إشراك الأطراف.
 
ومما يجدر ملاحظته أيضا أن القرار في ذات الصياغة يكون قد انتقل من تحديد الأساس إلى فرض آلية التنفيذ، عندما دعا أطراف النزاع إلى "المشاركة في هذه المناقشات دون شروط مسبقة"، كما تبرز الدقة مجدداً في عبارة "دون شروط مسبقة"، وهي أداة قانونية تهدف إلى تحصين المفاوضات من أي محاولة للتعطيل المسبق، وتلزم الأطراف بالجلوس إلى طاولة الحوار بنية حسنة.
 
ولا مراء أن ذروة الصياغة اللغوية والقانونية في هذا القرار تجلت في طريقة تعامله مع مبدأ تقرير المصير حسب نص القرار إلى " التوصل إلى حل سياسي نهائي ومقبول للطرفين، يكفل تقرير مصير شعب الصحراء الغربية، ويقر بأن الحكم الذاتي الحقيقي يمكن أن يمثل النتيجة الأكثر جدوى"، وبالتالي فإن هذه الصياغة لم تطرح تقرير المصير كخيار موازٍ أو بديل للحكم الذاتي، بل دمجته كجزء لا يتجزأ من الحل القائم عليه، فالحل عندما "ينص على" تقرير المصير، فهو يعني أن ممارسة هذا الحق ستتم من خلال الآليات الديمقراطية التي يوفرها نظام الحكم الذاتي نفسه، بهذا يكون القرار قد أعاد تأطير المبدأ ليتوافق مع الحل السياسي الواقعي، محققاً توازناً دقيقاً بين متطلبات القانون الدولي وواقعية الحل، ومن هذا المنطلق فإن استخدام فعل " يدعو" رغم طابعه المتوازن فإنه يحمل في سياق قرارات الفصل السادس من الميثاق قوة إلزامية أدبية وسياسية، ويضع الأطراف الممتنعة عن المشاركة في مواجهة مباشرة مع إرادة المجتمع الدولي.
 
ايضا القرار لم يكتفي بتحديد أساس المفاوضات بل ذهب أبعد من ذلك ليرجح نتيجتها المحتملة، حيث أقر "بأن الحكم الذاتي الحقيقي يمكن أن يمثل النتيجة الأكثر جدوى"، إن اختيار الأفعال والصفات في هذه الجملة يعكس عمق الصنعة الدبلوماسية، فاستخدام فعل "يقر" هو إقرار بواقع قائم أكثر منه تعبير عن رأي، إنه يعكس استنتاجاً توصل إليه المجلس بناءً على سنوات من المشاورات، ووصف النتيجة بأنها "ممكنة للغاية" هو تعبير تمت معايرته بعناية فائقة؛ فهو يتجنب صيغة "النتيجة الوحيدة" للحفاظ على هامش من المرونة، ولكنه في الوقت نفسه يمنح هذا الخيار ترجيحاً قوياً يجعله يتصدر جميع الاحتمالات الأخرى، إضافة صفة "الحقيقي" إلى الحكم الذاتي هي أيضاً لمسة دقيقة تهدف إلى طمأنة الأطراف بأن المقصود هو حكم ذاتي بصلاحيات فعلية وملموسة.
 
إضافة إلى ذلك فإن تشجيع الأطراف على " تقديم أفكار لدعم حل نهائي مقبول للطرفين" عزز منطق الفقرة الأولى؛ فالمطلوب هو أفكار "داعمة" للحل، وليس أفكاراً منافسة له، وبذلك، تكون لغة القرار قد بنت مساراً متكاملاً يبدأ بأساس محدد، ويمر بعملية تفاوضية مؤطرة، وينتهي بنتيجة مرجحة بقوة.
 
وسوف يختتم القرار هذه الصياغة بآلية إجرائية تضفي طابع الإلحاح والجدية على العملية برمتها، حيث "طلب المجلس أيضا إلى الأمين العام أن يقدم في غضون ستة أشهر "مراجعة استراتيجية بشأن ولاية بعثة (المينورسو) المستقبلية، مع مراعاة نتائج المفاوضات "، هذه الفقرة رغم إيجازها الا أنها تمثل أداة ضغط دبلوماسي بالغة الأهمية، فطلب "استعراض استراتيجي" يعني أن وجود بعثة المينورسو وشكل ولايتها لم يعودا أمراً مسلماً به بل أصبحا خاضعين "لاستعراض دوري"، فالشرط الحاسم فيكمن في عبارة "مع مراعاة التقدم المحرز في المحادثات"، التي تربط بشكل مباشر ومصيري بين مستقبل وجود الأمم المتحدة على الأرض ومدى جدية الأطراف في الانخراط في العملية السياسية، إنها إذن رسالة واضحة مفادها أن استمرار الوضع الراهن لم يعد خياراً، وأن على الأطراف أن تختار بين التقدم نحو الحل السياسي، أو مواجهة تغيير جذري في طبيعة البعثة الأممية، وبذلك تكون هذه الفقرة قد حولت الإطار السياسي الذي رسمته الفقرات السابقة إلى آلية عملية ملزمة، مدعومة بجدول زمني محدد، مما يمثل تتويجاً منطقياً لبنية القرار اللغوية والقانونية.
 
وفضلاً عن الخصائص السابقة فإن بنية القرار اللغوية ترتكز على خاصية الإيجاز، التي تتجلى في القدرة على تكثيف أوامر ومواقف سياسية معقدة في مصطلحات محددة، فالأفعال الإجرائية التي تفتتح فقرات المنطوق، مثل "يؤكد"،"يقر"، "يقرر" و"يعرب"، "يدعو"، و"يطلب"، هي أفعال موجزة تحمل قوة قانونية هائلة، حيث يختزل كل فعل منها تفويضاً أو تكليفاً أو موقفاً سياسياً كاملاً، على سبيل المثال نجد عبارة " إذ يؤكد أن الحكم الذاتي الحقيقي تحت السيادة المغربية يمكن أن يشكل الحل الأكثر جدوى" تختزل وثيقة مفصلة من عشرات الصفحات، وتعبير "إبقاء المسألة قيد نظره" هو صيغة معيارية موجزة تؤكد استمرار سلطة المجلس على الملف دون الحاجة إلى تفصيل، هذا الإيجاز ليس مجرد اختيار أسلوبي، بل هو أداة لتعزيز سلطة النص وصرامته، إذ يمنع التفسيرات المطولة ويقدم الأوامر في شكلها النهائي القاطع.
 
جدير بالتنويه أن هناك خاصية لغوية أخرى لا تقل أهمية وهي قابلية القرار للترجمة، والتي شكلت عماداً أساسياً لضمان عالمية القرار وفعاليته، حيث صيغ النص بطريقة تضمن اتساق معناه عند نقله إلى اللغات الرسمية الست للأمم المتحدة، محققة ذلك عبر استخدام تراكيب نمطية ومفردات موحدة لها مقابل دقيق ومتفق عليه دولياً، فمصطلحات مثل "حل سياسي عادل ودائم"، "تقرير المصير"، و"وقف إطلاق النار"، ليست مجرد كلمات، بل هي مفاهيم قانونية لها ترجمات ثابتة في القاموس الدبلوماسي، مما يمنع أي ضياع للمعنى أو انحراف في التفسير بين نسخة لغوية وأخرى، إن هذا الحرص على التكافؤ الدلالي هو ما يضمن أن رسالة المجلس تصل إلى جميع الأطراف المعنية والمجتمع الدولي بنفس الدرجة من الوضوح والقوة الإلزامية.
 
أما على صعيد الشكل فإن الطابع الرسمي للقرار هو الذي يمنحه هيبته وقوته القانونية، ويتجسد هذا الطابع في البنية الهيكلية الصارمة التي يتبعها النص، والتي تبدأ بديباجة تستعرض المرجعيات والسياق عبر فقرات تبدأ بـ "إذ يستذكر.. وإذ يؤكد..."، وتليها فقرات منطوق القرار التي تحدد الإجراءات الملزمة، هذا الترتيب ليس عشوائياً، بل هو معيار إجرائي يعكس تسلسلاً منطقياً يبدأ من المرجعيات وينتهي بالقرارات، كما أن الترقيم الدقيق للفقرات، واستخدام لغة قانونية فصيحة، والإحالة المستمرة إلى "ميثاق الأمم المتحدة"، كلها عناصر شكلية تؤكد أن القرار ليس مجرد بيان سياسي، بل هو عمل قانوني ملزم صادر عن أعلى سلطة دولية مسؤولة عن السلم والأمن.
 
ومجمل القول إن القرار 2797 الصادر عن مجلس الأمن بشأن الصحراء تجلت فيه دقة الصياغة القانونية وصرامة اللغة الأممية في أبرز صورها، إذ اكتسب طابعًا رسميًا متوازنًا يجمع بين الإيجاز والحذر والدقة والقابلية للترجمة، حيث استخدم فيها مجلس الأمن كافة أدوات اللغة لتحقيق تحول في مقاربته لنزاع الصحراء، فمن خلال الدقة في تحديد الأساس، والحذر في إدارة الخلافات، والإيجاز في صياغة الأوامر، والوضوح في تأطير المبادئ، والطابع الرسمي في فرض الالتزامات، نجح القرار في بناء شرعية دولية جديدة لمقترح الحكم الذاتي ليغدو نموذجًا في صياغة الإرادة الدولية بلغة القانون والاتزان الدبلوماسي من خلال الخلاصات التالية:
الخلاصة الاولى ترجمها استهلال القرار بصيغة "إذ يستذكر ويؤكد جميع قراراته السابقة"، فهو بذلك يعكس استمرارية المرجعية القانونية ويختزل عقودًا من القرارات في عبارة واحدة تحمل وزنًا إلزاميًا واضحًا، كما أبرزت الفقرة الداعمة للأمين العام ومبعوثه الشخصي وضوح الأطراف المعنية وحسن التوظيف اللغوي لعبارة "البناء على التقدم المحرز"، التي شجعت الأطراف على الاستمرار دون توجيه اتهام أو تبني موقف، ليتبع ذلك ادراج القرار لمبدأ تقرير المصير ضمن حل سياسي توافقي قائم على ميثاق الأمم المتحدة، محددًا إطاره القانوني في الحكم الذاتي دون فتح باب التأويل، خاصة عندما أحاط المجلس علمًا بالدعم الدولي للمقترح المغربي «كأساس» للحل، وهو تعبير حاسم جعل منه المرجعية الوحيدة للمفاوضات مع الحفاظ على التوازن الدبلوماسي.
 
الخلاصة الثانية هي انتقال القرار من الإحاطة إلى التأكيد على أن الحكم الذاتي الحقيقي يمكن أن يشكل الحل الأكثر جدوى، مبرزًا الترجيح الأممي لهذا الخيار، ومؤكدا أهمية احترام وقف إطلاق النار ثم محذرًا من أي عمل يعرض العملية السياسية للخطر، وداعيا إلى مفاوضات "دون شروط مسبقة"، محددًا بذلك إطارًا تفاوضيًا واضحًا.
 
الخلاصة الثالثة هي أهمية ذكر القرار لمصطلح "السيادة المغربية" لأول مرة مما يمثل ترسيمًا واضحًا للمرجعية القانونية والسياسية للمفاوضات، ويضع الإطار الرسمي للحل على أساس سيادة الدولة المعترف بها دوليًا، وليس مجرد توصية أو خيار تفاوضي فضفاض، هذا التصريح اللغوي يضفي شرعية دولية على مقترح الحكم الذاتي، ويحدد بوضوح موقف الأمم المتحدة من طبيعة المرجعية الوطنية، كما يعزز موقف المغرب في أي مفاوضات مستقبلية، ويقلص الغموض حول من يمتلك السلطة الفعلية في إدارة الصحراء، ما يحوّل المصطلح من عنصر وصف إلى مرجعية قانونية ملزمة تحدد نطاق المفاوضات والسياسات الدولية المتعلقة بالمنطقة.
 
الخلاصة الرابعة شكل قرار 31 أكتوبر مرحلة لها ما بعدها كما وصفها الملك محمد السادس في خطاب بنفس المناسبة، لأنه وضعا إطارًا واضحًا ومحددًا لأساس التفاوض ونتيجته والمتابعة، وحدد ستة عناصر أساسية جردها وزير الخارجية ناصر بوريطة سوف تجعل هذه المرحلة نقطة انطلاق لمسار مستمر وهي: أولًا أساس التفاوض تمثل في مقترح الحكم الذاتي الذي سوف يكون المرجعية الوحيدة للعملية السياسية؛ ثانيًا نتيجة التفاوض المرجوة هي الوصول إلى الحكم الذاتي الحقيقي تحت السيادة المغربية، وهو الهدف العملي النهائي للوساطة الأممية؛ ثالثًا الأطراف المعنية حُددت بوضوح: المغرب، جبهة البوليساريو، الجزائر، وموريتانيا، مما يحدد نطاق العملية السياسية ويقصرها على الفاعلين المباشرين؛ رابعًا الإطار القانوني والشرعية الدولية يتمثل في المظلة الأممية، مع قوة دفع أمريكية عبر استضافة المفاوضات، ما يوفر الدعم الدولي وشرعية القرارات؛ خامسًا الأجال الزمنية وضعت سقفًا أقصى لسنة واحدة، مع ستة أشهر إضافية لتقديم مراجعة توضح التقدم المحرز، ما يضمن متابعة دقيقة وشفافة؛ وسادسًا مصير بعثة المينورسو وامتداد ولايتها واختصاصاتها تم توضيحه في دعم مساعي المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة الى الصحراء في التوصل الى حل سياسي، بما يضمن استمرار الإشراف الدولي على وقف إطلاق النار وحماية المدنيين، وهو ما يجعل هذه المرحلة نقطة مرجعية لتقييم نتائج المفاوضات واستمرار العملية السياسية.
 
أما الخلاصة الخامسة في القرار 2797 فهي تكرار عبارة "الحكم الذاتي" ستة مرات بينما وردت عبارة "تقرير المصير" مرة واحدة فقط، ويعكس هذا التكرار ترجيحًا مقصودًا للثقل اللغوي والسياسي، حيث وضعت الصياغة "الحكم الذاتي" في موقع مركزي باعتباره المرجعية العملية والواقعية للحل، بينما اقتصار ذكر "تقرير المصير" على موضع واحد ضمن سياق "حل سياسي متوافق عليه" يحدد دوره ويؤطره ضمن الإطار العملي، ما يدل على أن القرار نقل التركيز من المبدأ النظري لتقرير المصير إلى الحل التفاوضي العملي القائم على الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، وبذلك تظهر هيمنة "الحكم الذاتي" لغويًا وسياسيًا كخيار مركزي بينما يصبح "تقرير المصير" مبدأً مؤطرًا ضمن الحل وليس هدفًا منفصلًا.
 
بهذه المقومات يكون القرار انتقل باللغة من مجرد توصيف للواقع إلى أداة لتأسيس واقع جديد؛ واقع لم يعد فيه الحكم الذاتي مجرد خيار، بل أصبح هو الأساس والمرجعية والنتيجة الأكثر ترجيحاً لمسار تفاوضي تفرضه الشرعية الدولية، وبذلك لا يمثل القرار مجرد وثيقة سياسية بل هو نص يرسم ملامح الحل النهائي، ويضع جميع الأطراف أمام مسؤولياتها التاريخية في ظل إرادة دولية واضحة.
 
إذن نعود لنتسأل كيف ستغير لغة القرار 2797 قواعد اللعبة فعلياً؟ الإجابة الأولية تكمت في أن التغيير سيتجسد في تحويل النقاش من "ما هو الحل؟" إلى "كيف سيتم تطبيق هذا الحل؟"، وبالتالي فان اللغة الواضحة للقرار ستسحب البساط من تحت أقدام التأويلات المتناقضة وتغلق باب الجدل حول طبيعة الحل النهائي، ولم يعد بإمكان الأطراف التمسك بتفسيرات متباينة للنصوص الأممية، لأن القرار حدد بوضوح أن الحكم الذاتي هو "الأساس" وأن أي مساهمة يجب أن تكون "استجابة" له.
 
هذا التحول اللغوي سيفرض على جميع الأطراف على إعادة ضبط استراتيجياتهم التفاوضية، فالرهان لم يعد على فرض رؤية بديلة، بل على مدى القدرة على التأثير في تفاصيل تحيين الحكم الذاتي، كما أن ربط مستقبل بعثة المينورسو بـ "التقدم المحرز"، قد حول لغة القرار إلى أداة ضغط ملموسة تضع الأطراف أمام مسؤولية تاريخية، وتواليا تغير قواعد اللعبة من إدارة الوضع الراهن إلى ضرورة حتمية للتقدم نحو الحل المحدد، بهذا المعنى فإن لغة القرار لم تغير قواعد اللعبة فحسب، بل إنها تعلن عن بداية لعبة جديدة بقواعد واضحة وغاية محددة سلفاً.
 
مولاي بوبكر حمداني الدكتور علاقات الدولية والقانون الدولي