Wednesday 5 November 2025
Advertisement
كتاب الرأي

محمد الكيحل: قضية الصحراء.. ما بعد قرار مجلس الأمن والخطاب الملكي؟

محمد الكيحل: قضية الصحراء.. ما بعد قرار مجلس الأمن والخطاب الملكي؟ محمد الكيحل

توطئة

 منذ استرجاع الأقاليم الجنوبية سنة 1975من خلال مسيرة سلمية بعيدا عن لغة البارود والسلاح، وطيلة العقود الماضية تراكمت المواقف القانونية والتاريخية والدبلوماسية قبل أن تظهر مبادرة الحكم الذاتي عام 2007 كتحول نوعي في استراتيجيات المغرب. وعلى مدى ستة وعشرين عاما من حكم الملك محمد السادس أخذ  ملف الصحراء زخما ودينامية جديدة أعاد الملف إلى واجهة الأحداث الدولية. هذا التحول العميق لم يكن وليد الصدفة بل ثمرة مسار دبلوماسي متدرج قاده الملك شخصيا من خلال شبكة متكاملة من المبادرات السياسية والتحركات الميدانية والتحالفات الاقتصادية التي كرست مفهوم الشرعية المغربية الدولية كحقيقة موضوعية لا يمكن تجاوزها، حيث انتقلت قضية الصحراء من مرحلة تدويل النزاع إلى مرحلة تدويل الاعتراف وبات الموقف المغربي يحتل موقع المرجعية الواقعية في كل مقاربة أممية أو إقليمية لهذا للملف المفتعل. ولم تعد الحلول تعتمد فقط على المناورات الدولية أو الخطابات الدبلوماسية، بل على رؤية شاملة تربط بين الهوية الوطنية والسيادة والاستثمار التنموي للأقاليم الجنوبية.

  هذا الزخم لم يكن نتاج ظرفية سياسية أو حملة دبلوماسية عابرة بل ثمرة رؤية ملكية بعيدة المدى، قامت على مبدأ التدرج لحلحلة الملف الذي ظل جاثما بين رفوف أورقة الأمم المتحدة، بفضل الرؤية الملكية المتبصرة عرف ملف الصحراء تحولا عميقا نقل القضية من مجرد نزاع سياسي إلى مشروع دولة استراتيجي متكامل الأركان؛ فلم تعد المقاربة المغربية ترتكز فقط على الشرعية التاريخية فحسب بل ارتقت لتجمع بين السيادة القانونية ومشروعية الإنجاز على الأرض لتؤسس بذلك لـريادة إقليمية راسخة.

  واليوم يمثل قرار مجلس الأمن رقم 2797 المعتمد يوم 31 أكتوبر 2025 بشأن قضية الصحراء منعطفا تاريخيا في مسار هذا النزاع الإقليمي الذي عمر نصف قرن من الزمن؛ فبعد سنوات من المراوحة في دائرة إدارة الأزمة دون التقدم نحو حل سياسي فعلي، يبدو أن المجتمع الدولي، عبر هذا القرار، قد اختار بوضوح نهج الواقعية السياسية حيث يكرس المقاربة المغربية القائمة على الحكم الذاتي.فهذا القرار لا يعتبر مجرد مكسب دبلوماسي فحسب، بل تعبير عن تحول في هندسة الشرعية الدولية.

  لقد نجح المغرب بفضل الرؤية الملكية أن يجعل من عدالة قضية  الصحراء منطقا دوليا مشتركا تتبناه العواصم والهيئات والمنظمات على السواء، فمغربية الصحراء اليوم لم تعد موضوع نقاش بل قاعدة انطلاق لأي تفكير مستقبلي في الحلول السياسية والتنموية؛ فهذه الدينامية الدولية تبرهن على أن الرؤية الملكية السامية لم تكن فقط إطارا وطنيا لإدارة النزاع، بل مرجعا عالميا لإنتاج التوافق والاستقرار في فضاء إفريقي وأطلسي يتطلع إلى التنمية والأمن المشترك.

أولا: قراءة أولية في قرار مجلس الأمن الدولي والخطاب الملكي

بعد سنوات من الجمود قدمت الولايات المتحدة مسودة قرار تبنت فيها لأول مرة صراحة مقاربة تعتبر الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية الإطار الأكثر جدية وواقعية للتسوية، وهو ما شكل تحولا نوعيا في مقاربة مجلس الأمن، إذ لم يعد يضع الاستفتاء كخيار مطروح، بل جعل الحل السياسي الواقعي هو المرجعية الوحيدة للعملية الأممية. بفضل هذا الدعم الأمريكي الذي بدى متحمسا لإيجاد حل لنزاع الصحراء منذ الولاية الأولى لساكن البيض الأبيض الرئيس دولاند ترامب. فبعد التغييرات القليلة التي أدخلت على المسودة الأولية للقرار والتي تولت الولايات المتحدة صياغتها باعتبارها صاحبة القلم في ملف الصحراء، اقتصرت على الشكل وبعض العبارات. أما من حيث الجوهر فقد بقي القرار محافظا على مضمونه ومرتكزاته التي غيرت جذريا جميع المرجعيات التي كانت تحكم سابقا معالجة القضية حيث لأول مرة في مسلسل تدبير ملف الصحراء يكرس نص القرار مقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية كحل وحيد للنزاع مستبعدا بالتالي جميع المقترحات الأخرى.

 بفضل الدعم الأمريكي والحلفاء والشركاء الدوليين للمملكة والدينامية التي أبانت عنها الدبلوماسية المغربية الرسمية منها وغير الرسمية، توج هذا المسار بإصدار قرار مجلس الأمن رقم2797 المعتمد يوم 31 أكتوبر2025 بشأن الصحراء الذي يشكل لحظة فاصلة ومحطة جديدة تعكس صواب الرؤية التي انتهجها المغرب في تدبير هذا الملف انطلاقا من التوجيهات الملكية السامية. فقد أكد القرار مجددا قوة الموقف المغربي المبني على الشرعية والوضوح وروح المسؤولية، ورسخ قناعة المجتمع الدولي بعدالة القضية المغربية وبجدية مبادرة الحكم الذاتي كحل واقعي ودائم للنزاع الذي طال أمده.  فالقرار يمثل نقطة تحول حقيقية في قضية الصحراء بترسيخه الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية كحل أكثر قابلية للتطبيق، ودعوته المبعوث الشخصي للأمين العام لإجراء مفاوضات على أساس مخطط الحكم الذاتي المغربي، ينهي النص عقودا من الوضع الراهن.

 من حيث السياق الدولي، يأتي إصدار هذا القرار، والذي صوتت له أغلبية الأعضاء، تتويجا لمسار متدرج في مواقف المجتمع الدولي تجاه قضية الصحراء المغربية وانتقالا من منطق تدبير نزاع إلى منطق إقرار حل سياسي واقعي ودائم. إن هذا التطور يمثل ثمرة نهج دبلوماسي متزن ومسار وطني ثابت يجسد حكمة القيادة المغربية وقدرتها على المواءمة بين التمسك بالثوابت الوطنية والانفتاح على الحلول العملية والمستدامة التي تخدم الأمن والاستقرار والتنمية في الأقاليم الجنوبية للمملكة وإجماع المجتمع الدولي حول عدالة قضيتنا الوطنية الأولى. وقد أكد القرار في ديباجته على أن مجلس الأمن أحيط علما بـ"الدعم الذي أعربت عنه العديد من الدول الأعضاء لمقترح الحكم الذاتي المغربي، المقدم إلى الأمين العام في 11 أبريل 2007، كأساس لحل عادل ودائم ومقبول من الطرفين للنزاع". وفضلا عن ذلك يؤكد مجلس الأمن أن "الحكم الذاتي الحقيقي تحت السيادة المغربية يمكن أن يشكل الحل الأكثر قابلية للتطبيق"، وعلى التزام أعضاء المجلس بتسهيل التقدم في هذا الاتجاه.

وبالتالي أصبحت السيادة المغربية على الصحراء الغربية مكرسة بشكل لا لبس فيه في قرار صادر عن أعلى هيئة تقريرية في الأمم المتحد؛ فمن خلال قراءة للقرار يتضح أنه يقر بأن الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية هو الحل المرجعي القابل للتطبيق لنزاع الصحراء أما تقرير المصير عن طريق الاستفتاء فلم يذكر البتة في نص القرار بل تم إقباره بشكل نهائي حيث أصبح الإطار الشرعي الوحيد لحل النزاع هو الإطار المغربي. وبالتالي لم تعد السيادة المغربية فرضية بل أضحت العنصر المعياري للحل السياسي.

  أما من حيث الصيغة والطبيعة القانونية للقرار، وإن صدر في إطار الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة المتعلق بتسوية المنازعات بالطرق السلمية، إلا أنه يكتسب قوة سياسية شبه ملزمة بالنظر إلى تبنّيه من طرف أغلبية دائمة في المجلس، وارتباطه بتجديد ولاية بعثة المينورسو. من زاوية القانون الدولي لا يترتب عن هذا القرار إنشاء التزامات قانونية جديدة على المغرب بقدر ما يعيد تحديد المعايير المرجعية لعملية التفاوض: أي الواقعية، البراغماتية، واحترام السيادة والوحدة الترابية للدول. وبذلك ينتقل المفهوم القانوني "لتقرير المصير" من معناه الكلاسيكي (الانفصال أو الاستقلال) إلى معناه الحديث كحقّ في تدبير الشؤون المحلية ضمن وحدة الدولة.

 الملاحظ أن القرار لم يقتصر كما كان  الأمر في  القرارات السابقة على تجديد ولاية بعثة المينورسو لسنة إضافية، بل تجاوز ذلك إلى رسم خارطة طريق تفضي إلى تسوية سياسية دائمة قائمة على التوافق والواقعية. وبذلك يشكل القرار بداية التحول في الفلسفة التفاوضية الأممية. كما يمكن اعتبار هذا القرار حلقة مفصلية في تطور الفقه الأممي المتعلق بالنزاعات الإقليمية؛ فمجلس الأمن، في قراراته المتعاقبة منذ 2007 كان يتحدث عن "حل سياسي واقعي متوافق عليه"، أما في قرار 2025 فقد أضاف بعدا تفسيريا واضحا حين نص على أن "الحكم الذاتي الحقيقي تحت السيادة المغربية هو الحل الأكثر قابلية للتطبيق"، ما يعني اعتماد النموذج المغربي كمرجعية تفسيرية ملزمة للمبعوث الشخصي للأمين العام، وللأطراف المعنية بالمفاوضات المستقبلية. هذا التحول ينسجم مع تطورات القانون الدولي المعاصر التي تفضل مقاربة الحلول المبتكرة بدل المقاربات الانفصالية التي أظهرت محدوديتها في استقرار المنظومة الإقليمية.

   وفي هذا الإطار يمكن اعتبار الخطاب الملكي بتاريخ 31 أكتوبر 2025، الذي جاء مباشرة بعد انتهاء عملية التصويت على القرار الأممي، موافقة مبدئية من المغرب لما تضمنه القرار من مستجدات قانونية ودبلوماسية لصالح المملكة. فالملك محمد السادس أكد أن المملكة دخلت مرحلة جديدة من الحسم الدولي، وأن الدينامية التي أطلقتها السنوات الأخيرة بدأت تؤتي ثمارها .وأوضح أن المبادرة المغربية للحكم الذاتي أصبحت الآن محل اعتراف دولي واسع، وأن ثلثي الدول في الأمم المتحدة تعتبر هذا الإطار هو الحل الوحيد والواقعي للنزاع، بما يعزز مكانة المغرب الاقتصادية والتنموية على الصعيدين الإقليمي والدولي، لا سيما في منطقة الساحل والصحراء.

  وبذلك يمثل الخطاب الملكي استجابة فورية لخارطة الطريق التي رسمها المنتظم الأممي لإيجاد حل لنزاع الصحراء على أساس  الحكم الذاتي. فمن من حيث الدلالات القانونية ، فالخطاب الملكي ينسجم مع القرار الأممي الذي عزز شرعية المقاربة المغربية المستندة إلى حل سياسي واقعي في إطار السيادة والوحدة الترابية. وهذا ما يؤكده تفاعل الملك مع القرار الأممي ، باعتباره يمثل إجماع الأمة ومكانته في هرم السلطة بالبلاد، من خلال تأكيده على أن ملف الصحراء دخل مرحلة الحسم على المستوى الأممي، حيث حدد قرار مجلس الأمن المبادئ والمرتكزات الكفيلة بإيجاد حل سياسي نهائي لهذا النزاع، في إطار حقوق المغرب المشروعة. وفي سياق هذا القرار الأممي سيقوم المغرب بتحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي وسيقدمها للأمم المتحدة، لتشكل الأساس الوحيد للتفاوض، باعتبارها الحل الواقعي والقابل للتطبيق.

  فمن الناحية السياسية والدبلوماسية، يمثل القرار الأممي بالنسبة للمغرب اعترافا صريحا بجدوى مقاربته الواقعية ودعوة لمواصلة الدبلوماسية الهادئة وتعزيز النموذج المغربي في الحكم الذاتي باعتباره صيغة مبتكرة لحل النزاعات الإقليمية الموروثة عن الحقبة الاستعمارية؛ فالقرار يعد خطوة في اتجاه ترسيخ مبدأ وحدة الدول الإقليمية مقابل النزعات الانفصالية انسجاما مع الاتجاه السائد في الاتحاد الإفريقي نفسه الذي رفض الاعتراف بالكيانات الانفصالية خارج الحدود الاستعمارية. كما أن القرار يعيد تأكيد قاعدة احترام الحدود الموروثة كمبدأ حاكم للنظام الإقليمي الإفريقي وهو ما ينسجم مع موقف المغرب الذي يرى أن الصحراء جزء من ترابه الوطني التاريخي.

 ولذلك يقدم المغرب اليوم مثالا على أن الوحدة الترابية ليست مجرد حدود جغرافية، بل مشروع مجتمعي وسياسي يرتكز على الاستمرارية التاريخية للدولة المغربية، وعلى علاقة الشعب بالسلطة السيادية. وقد شدد الملك على المساواة بين جميع المواطنين بما في ذلك العائدون من مخيمات تندوف، مع توفير فرص المشاركة في التنمية المحلية ضمن المغرب الموحد.

وبالنظر إلى الطابع الرمزي وقوة القرار رقم 2797/2025 لمجلس الأمن حول قضية الصحراء، واعتبارا للتحول التاريخي الذي عرفه مسار قضيتنا الوطنية واستحضارا للتطورات الحاسمة التي حملها القرار  والتي كانت موضوع الخطاب الملكي الأخير فقد صدر يوم 4 نونبر بلاغ ملكي تقرر بموجبه جعل يوم 31 أكتوبر من كل سنة عيدا وطنيا حيث أطلق على هذه المناسبة الوطنية اسم ” عيد الوحدة “، بما تحمله من دلالات وإحالات على الوحدة الوطنية والترابية الراسخة للمملكة. وسيشكل هذا العيد مناسبة وطنية جامعة للتعبير عن التشبث بالمقدسات الوطنية للمملكة وحقوقها التاريخية المشروعة.

ثانيا: الحكم الذاتي بين الإقرار الأممي ورهان التنزيل على أرض الواقع

  إذا كان القرار الأممي و الخطاب الملكي الأخيرين، يمثلان نقطة التقاء التاريخ والسياسة والتنمية في رؤية واحدة، تؤكد أن استدامة الاستقرار في المغرب والمنطقة تعتمد على الاعتراف بالحقائق التاريخية، وتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية وحماية السيادة الوطنية، مع بناء مستقبل مستقر وواعد لكل المواطنين. لكن التساؤل المطروح يبقى حول الصيغ التي يتم فيها تنزيل مبادرة الحكم الذاتي وحول الصيغ التفاوضية التي ينبغي التسريع بها بين مختلف الاطراف المعنية لتفعيل القرار الأممي وتنزيل  الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية على أرض الواقع؟

  في  البداية وجب لفت الانتباه، أن النظر لمفهوم الحكم الذاتي بمنظور سطحي قد يحجب القارئ والمهتم عن جوهر هذا المفهوم المتعدد الأوجه والتعارف، إذ لا يمكن الإلمام بهذا المفهوم دون الرجوع إلى السياق الذي تم طرحه في بدايته ودون العودة إلى كرونولوجيا تطوره، وتقديم النماذج الدولية الرائدة في هذه التجربة...الخ، وهو أمر لا يتسع المجال هنا لطرحه، لكن ما يجب التأكيد عليه هو أن الحكم الذاتي صار أحد أهم السمات الرئيسية لأي نظام حكم لامركزي خلال العقود الأخيرة؛ إذ أن الإصلاحات  اللامركزية التي تنقل السلطة السياسية نحو مستويات حكومية أقرب إلى المواطنين بدأت تجتاح العالم بصمت خلال حقبة الثمانينيات من القرن المنصرم، حيث تمت الدعوة إلى الحكم الذاتي المحلي واللامركزية من قبل العديد من  المؤسسات الدولية الهامة خاصة منها الأوروبية كأداة رئيسية لتحقيق مبدأ الحكامة الجيدة ولتعزيز الديمقراطية التشاركية، بهدف تحسين الكفاءة الاقتصادية وتشجيع المنافسة الترابية المحلية وحماية الاقتصاد الوطني والحفاظ على الاستقرار السياسي للدولة.

  ودون الخوض في السياق التاريخي والمعنى القانوني والسياسي لمفهوم الحكم الذاتي كما هو متعارف عليه في أدبيات الأمم المتحدة وفي تطبيقات التجارب الدولية؛ ما يجب التأكيد عليه أن فكرة الحكم الذاتي لم تكن وليدة سنة 2007  باعتبارها تمثل سنة مرجعية تم فيها طرح مبادرة الحكم الذاتي الموسع للصحراء المغربية من قبل المملكة كإطار للتفاوض وحيد لإيجاد حل توافقي للصحراء تحت السيادة المغربية هي فكرة لم تكن على العقل الاستراتيجي المغربي ولم تكن انعكاسا أو محصلة أو استنساخا لمشاريع أممية طرحت في نهاية القرن العشرين وبداية العقد الأول من القرن الحالي.  

 بل أن جدور التفكير بالخصوصية المحلية وتخويل سكان الصحراء الكلمة في تسيير شؤونهم المحلية قد جاءت منذ نهاية عام1975، على لسان الملك الراحل الحسن الثاني أثناء مخاطبته لسكان الصحراء، أي أن التفكير بالخصوصية المحلية أو الجهوية والتي تم تكريسها في  دستور 2011 والقوانين التنظيمية الترابية لعام 2015 فيما بعد، تؤكد أصالة المبادرة المغربية التي قدمت عام 2007 لحلحلة الملف الذي ظل يراوح مكانه في أورقة الأمم المتحدة، مثلما تؤكد حسن النية والرغبة الصادقة للحكومات المغربية المتعاقبة للعمل بهذا الاتجاه الذي يؤمن بالتنوع والخصوصية داخل الوحدة الوطنية الترابية والسيادة القانونية للدولة المغربية.

 وبالتالي ففكرة الحكم الذاتي هي قناعة مترسخة من لدن الملوك المغاربية وقابلة للتطبيق بالنظر إلى خصوصية المجتمع المغربي المتسم بتنوع مكوناته البشرية وتنوع هوياته الثقافية؛ لقد أفرز المجتمع المغربي على مدار التاريخ واقعا تاريخيا تميزت به الامبراطورية الشريفة هذا الواقع التاريخي يتمثل في الواقع القبلي الذي يعتبر فضاء متميزا بمكوناته البشرية المتعددة، وبنياته الاقتصادية والتنظيمية المستقلة، وبروابطه الثقافية والفكرية واللغوية المشتركة؛ فالقبائل المغربية لم تكن فقط وحدات اجتماعية واقتصادية مغلقة بل كانت أيضا عبارة عن وحدات تدافع عن مصالحها وكينونتها وهويتها القبلية.

 بل الأكثر من ذلك، لعبت القبيلة دورا أساسيا في وصول عدد قليل من  الدعوات إلى الحكم وترسيخها والحفاظ على كيانها، فحضورها أثبت فاعلية في كل المشاريع السياسية المطروحة من قبل السلاطين والملوك المغاربة؛ فالمجموعات القبلية الكبرى وخاصة منها ما كان يعرف بقبائل " السيبا" كانت تمارس ما يشبه الحكم الذاتي بواسطة مجالسها الخاصة وطبقا لأعرافها المحلية في معزل عن السلطة المركزية وباعتراف تام بسلطة السلطان  العصبوي أو الشريفي الذي يجسده السيادة الجماعية باعتباره أمير المؤمنين يتمتع بالسلطة الروحية والأدبية وممثلا للإسلام باعتباره أميرا للمؤمنين بموجب الشرعية الدينية والتاريخية والدستورية.

ثالثا: مستقبل المنطقة المغاربية في ظل مستجدات قضية الصحراء

ثمة تساؤل مشروع حول دعوة المغرب الجزائر كل مرة للحوار لحل المشكلات العالقة، دون أن تظهر مؤشرات على إمكان نجاح هذا المسعى، وهل يفعل ذلك من باب الإقناع المتكرر بأنه لا خيار للبلدين سوى الحوار المباشر بحكم أن كل المشكلات العالقة بينهما بما في ذلك مشكلة الصحراء حلها بين يدي الطرفين لا بيد أي طرف آخر؟ أم يفعل ذلك من باب الإحراج السياسي والدبلوماسي حتى يظهر المغرب أمام المنتظم الدولي بأنه الأكثر رغبة في الحل الدبلوماسي مع أن الأمر يخص سيادته ووحدته الترابية؟ أم أنه يفعل ذلك من قبيل إقامة الحجة تحذيرا من سيناريوهات قد تضر بالجزائر في حالة التعنت ؟

 الخطاب الملكي الأخير الذي وجه الدعوة من خلاله لحكام قصر المرادية هو استمرار لسياسة اليد الممدودة التي انتهجها المغرب من سنين، ولكن هذه الدعوة جاءت في سياق دولي وإقليمي مغاير عرفت خلاله قضية الصحراء تكريس مبادرة الحكم الذاتي كصيغة حيدة لإنهاء هذا النزاع المفتعل؟ فهل يريد الملك أن يوجه الرسالة الأخيرة قبل فوات الأوان والتي مضمونها أن الحل كان ولازال بين الأشقاء  المغرب والجزائر  لكن تضييع هذه الفرصة منذ سنوات طويلة من قبل حكام الجزائر الذين بدل أن يجلسوا على طاولة المفاوضات قاموا بغلق الحدود بين شعبين جارين مسلمين وهو الأمر الذي سمح بتدخل القوى الدولية في هذه القضية.  تحليل سياقات دعوات المغرب للحوار مع الجزائر قد يسهم في إيضاح الخلفيات بشكل أكثر وضوحا لا يتسع المجال هنا للتفصيل  في هذه الخلفيات والسياقات.

لا شك أن التسوية النهائية المحتملة حول  قضية الصحراء لصالح السيادة المغربية تمثل نقطة انعطاف جيوساسية عميقة لكل من المغرب والجزائر وبقية  البلدان المغاربية ومنطقة الساحل الأوسع.  لكن هذا التحول لا يحدث في فراغ، بل يتزامن مع تفكك الهياكل الأمنية الغربية في منطقة الساحل والصحراء الكبرى وعودة الأنظمة المدعومة عسكريا، وتفاقم التنافس الصفري بين طرفي النزاع المغرب والجزائر والأهم من ذلك، يضمن غياب التعاون من الجزائر، التي تعتبر النزاع جوهر سياستها الخارجية الثابت، أن المشهد ما بعد التسوية سيتحدد بالاستقطاب الاستراتيجي  وليس بالاستقرار بين البلدين فحسب.

 المتغير الأكثر أهمية الذي يحدد المشهد المستقبلي لقضية الصحراء هو العداء العميق وغير القابل للتراجع للجزائر فدعمها الثابت لجبهة البوليساريو ومبدأ تقرير المصير هو خط أحمر وطني وإيديولوجي ، مما يجعل القبول النهائي للسيادة المغربية هزيمة استراتيجية قاسية وغير مقبولة من طرف الجارة الشرقية.

 في غياب كامل للتعاون، مع قطع العلاقات الدبلوماسية منذ عام إلاغلاق الحدود منذ عام، يدخل التنافس الإقليمي مرحلة من الجمود الاستراتيجي ومعضلة أمنية مكلفة. كما أن  التنافس على ملء الفراغ في منطقة الساحل المحاذية للمنطقة المغاربية نتيجة انسحاب الشركاء الغربيين التقليديين مثل فرنسا في أعقاب الانقلابات العسكرية في دول الساحل أدى إلى إحداث فراغ أمني واقتصادي عميق تتنافس  القوى المغاربية بنشاط على ملئه وهذا ما ينطبق على المغرب الذي تقدم بإطلاق مبادرات ذات حمولات جيوسياسية وجيواقتصادية كما هو الحال للمبادرة الأطلسية ومبادرة ولوج دول الساحل للمحيط الأطلسي. 

 هذه بعض من الأسئلة التي تفرضها السياقات الجيوسياسية التي ترسم المشهد المغاربي ومنطقة الساحل الأوسع. فهل تستطيع إرادة التفاوض بحسن نية بين الجارين الشقيقين التغلب على كل الصعاب والتحديات وايجاد حل لقضية الصحراء ليس من باب من الحسابات السياسية  الظرفية والضيقة بل من منطلق الإطار الأوسع لبناء الاتحاد المغاربي؟ وذلك عبر الجلوس على طاولة المفاوضات المباشرة الكفيلة لإيجاد  تفاهمات سياسية واقتصادية واستراتيجية تسمح بوضع قطار التعاون المغاربي على السكة الصحيحة  وإعادة الأهمية الاستراتيجية التي ظلت تلعبها المنطقة كمنطقة للتلاقح الحضاري والثقافي والأمن والسلام الاقليمي والعالمي؟ 

 

محمد الكيحل، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالمعهد الجامعي للدراسات الافريقية ورئيس مركز إشعاع للدراسات الجيوسياسية والاستراتسجية