Friday 31 October 2025
Advertisement
كتاب الرأي

عبدالواحد غيات: المغرب العربي بين الدبلوماسية الأمريكية والرهانات الإقليمية

عبدالواحد غيات: المغرب العربي بين الدبلوماسية الأمريكية والرهانات الإقليمية عبدالواحد غيات

الملخص

تتضح في الفترة الأخيرة أهمية الوساطة الأمريكية ليس فقط كآلية لتخفيف التوتر، بل كأداة استراتيجية لإعادة رسم خريطة النفوذ في شمال إفريقيا. فالمبادرات الأمريكية ترتكز على مقاربة شاملة تربط بين الأمن والطاقة والتنمية الاقتصادية، بما يتيح لها التأثير على الأولويات الوطنية للبلدان المعنية.

وتكشف التحليلات أن هذه الوساطة لا تقتصر على العلاقات الثنائية، بل تسعى لخلق شبكة مصالح متعددة الأبعاد، تجمع بين الحكومات، المؤسسات الاقتصادية الكبرى، والفاعلين الإقليميين، ما يعزز النفوذ الأمريكي ويقلل من قدرة المنافسين التقليديين مثل الصين وروسيا على التدخل في المنطقة.

كما يبرز أن واشنطن تسعى إلى تعزيز أطر التعاون متعدد الأطراف، بما في ذلك إشراك المنظمات الدولية والفاعلين الإقليميين، لضمان استدامة أي تسويات محتملة، وتحويل العلاقات الثنائية إلى شبكة مصالح استراتيجية متشابكة. ويُظهر هذا النهج الاهتمام الأمريكي بمقاربة طويلة الأمد، توازن بين مصالح الأمن القومي الأمريكي وضرورة الاستقرار الإقليمي، مما يجعل الوساطة أداة فعّالة لإعادة هندسة التوازنات الاستراتيجية في شمال إفريقيا.

المقدمة
تتجاوز الوساطة الأمريكية حدود الجغرافيا التقليدية، لتشمل البعد السياسي والاقتصادي والأمني، في إطار رؤية شاملة لإعادة الاستقرار المغاربي. كما أن الاهتمام الأمريكي يترافق مع محاولات لخلق بيئة مؤسسية تضمن استمرارية الحوار بين الرباط والجزائر، بعيدًا عن الأزمات المفاجئة أو النزاعات الحدودية المتكررة.

ويشير هذا التحليل إلى أن الوساطة الأمريكية تتبنى استراتيجيات متعددة الطبقات، تشمل مبادرات دبلوماسية واقتصادية وميدانية، ما يتيح خلق بيئة مواتية للتعاون وتخفيف حدة التوترات المتراكمة بين الأطراف المغاربية.

وفي ظل هذا السياق، يظهر دور الوساطة ليس فقط كقناة للتواصل، بل كأداة لضبط التوازنات الإقليمية وتحديد الأولويات المشتركة بين الدول المغاربية، بما يقلل من تأثير الأطراف الخارجية غير الأطلسية على المنطقة. كما أن الوساطة تعمل على تقديم حلول عملية للأزمات العالقة، مع التركيز على دعم المؤسسات المحلية وتعزيز الاستقرار الاجتماعي والسياسي، بما يرسخ دور أمريكا كلاعب رئيسي في صياغة مستقبل المنطقة.

بعد استعراضنا لدور الوساطة الأمريكية في تخفيف التوترات بين الدول المغاربية، يصبح من الضروري تحليل كيف تترجم هذه الوساطة إلى استراتيجية أوسع للنفوذ الأمريكي في المنطقة، تشمل الأبعاد الاقتصادية والأمنية والسياسية.

الاستراتيجية الأمريكية بين الوساطة والنفوذ الإقليمي

إن تحوّل الدور الأمريكي إلى الهندسة الجيوسياسية يعكس إدراكًا عميقًا لأهمية المغرب العربي كمفصل استراتيجي بين إفريقيا وأوروبا. وتعمل الإدارة الأمريكية على استثمار الفرص لتعزيز التعاون الأمني والاستخباراتي، وربطها بالمصالح الاقتصادية، خصوصًا في قطاعي الطاقة الاحفورية والطاقة المتجددة.

ويظهر هذا التحول في الاستراتيجيات الأمريكية الجديدة التي تهدف إلى إقامة شراكات مع الفاعلين الاقتصاديين المحليين والدوليين، لتأمين تدفق الموارد الاستراتيجية، وضمان مواءمة السياسات الوطنية مع المصالح الأمريكية طويلة الأمد.

كما أن استراتيجية الهيمنة تتضمن بناء شبكات تحالفات متعددة المستويات، تشمل الحكومات والشركات الكبرى، لتقوية النفوذ الأمريكي وتقليل أي قدرة منافسة للفاعلين الإقليميين أو الدوليين (الصين وروسيا). ويعكس هذا النهج الاهتمام الأمريكي بإرساء قواعد نفوذ مستدامة، عبر الجمع بين القوة الاقتصادية، التأثير الدبلوماسي، والقدرة على توجيه ديناميكيات الصراعات الإقليمية بما يخدم مصالحها الاستراتيجية.

في ضوء النهج الأمريكي الشامل، تبرز الجزائر كمثال على كيفية توازن الدولة بين الانخراط في المبادرات الإقليمية والحفاظ على استقلالها الاستراتيجي، ما يعكس تعقيدات تنفيذ الاستراتيجية الأمريكية على أرض الواقع.

الجزائر: التكيف الإقليمي مقابل الحفاظ على السيادة

تواجه الجزائر تحديًا مزدوجًا بين الحفاظ على سيادتها الوطنية والانخراط في مشاريع إقليمية جديدة تتماشى مع الرؤية الأمريكية. إن أي تحرك يتجاوز مصالح الدولة قد يؤدي إلى توترات داخلية، لا سيما في ظل الضغوط الاقتصادية والاجتماعية المتنامية.

وتشير الدراسات إلى أن الجزائر تحاول إيجاد توازن دقيق بين الانفتاح على المبادرات الإقليمية وبين تعزيز استقلاليتها الاستراتيجية، عبر سياسات مرنة تتيح لها التكيف التدريجي مع التغيرات الإقليمية دون المساس بهويتها الوطنية ومكانتها الإقليمية.

من جهة أخرى، يمكن النظر إلى بعض التعديلات الرمزية والإصلاحات الجزئية كمحاولة لتخفيف الاحتقان الداخلي وإظهار قدرة الدولة على التكيف مع التحولات الإقليمية، دون المساس بالأسس الثابتة للعقيدة العسكرية والسياسية. كما أن هذه الخطوات تؤسس لإطار تفاوضي يمكن أن يقلل من التوترات ويعزز الحوار مع الفاعلين الأمريكيين والمغاربيين، مع الحفاظ على خطوط حمراء واضحة تمنع أي سيطرة خارجية على القرارات الاستراتيجية للجزائر.

وبالمقارنة مع الجزائر، نجد أن المغرب يتبنى أسلوبًا مختلفًا في التعامل مع الوساطة الأمريكية، حيث يسعى إلى استغلال الفرص المتاحة لتعزيز مكانته الاقتصادية والسياسية دون المساس بسيادته.

المغرب: إدارة الفرص الأمريكية بحذر دبلوماسي

يعكس تعامل المغرب مع الوساطة الأمريكية درجة عالية من المهارة الدبلوماسية، حيث يسعى إلى تحقيق أقصى استفادة من الدعم الأمريكي مع الحفاظ على سيادته ومبادئ وحدته الترابية. ويعتبر المغرب هذه المبادرة فرصة لتعزيز موقعه كقوة اقتصادية واستثمارية إقليمية.
كما أن الرباط تستفيد من الوساطة الأمريكية لتطوير مشاريع البنية التحتية والطاقة، ما يخلق أطر تعاون طويلة الأمد مع الفاعلين الأمريكيين، ويعزز صورتها كشريك موثوق في تحقيق الاستقرار الإقليمي والتنمية الاقتصادية المستدامة.

كما أن الرباط تدرك أن أي تنازل جوهري يمكن أن يؤدي إلى تراجع الدعم الشعبي، لذلك تركز على التفاوض القطاعي والتحركات التكتيكية التي تحفظ مصالحها الاستراتيجية وتضمن استمرار الثقة الأمريكية على المدى الطويل. بالإضافة إلى ذلك، فإن المغرب يعمل على تعزيز شبكة علاقاته مع دول أوروبية وشركاء إقليميين آخرين، لتوسيع مجال المناورة والحفاظ على توازن القوى في شمال إفريقيا.

بينما تبدو قدرات المغرب على إدارة الوساطة الأمريكية متقدمة، تُظهر تجربة موريتانيا هشاشة أكبر أمام التأثيرات الإقليمية، ما يبرز الحاجة إلى سياسات مرنة تراعي الظروف الداخلية للدولة.

موريتانيا: التحديات الداخلية في سياق النفوذ الإقليمي

تظهر موريتانيا كبؤرة حساسة، حيث يمكن أن تؤثر أي تغييرات إقليمية مباشرة على استقرارها الداخلي. فالتركيبة الاجتماعية المتنوعة تجعلها عرضة لتحديات سياسية واقتصادية، خاصة مع ضغوط التوازن بين القبائل والمجموعات العرقية المختلفة.
كما أن ضعف البنية التحتية والمستوى المحدود من التنمية الاقتصادية يزيد من هشاشة الدولة أمام أي صدمات خارجية، مما يجعلها تعتمد على سياسات مرنة للتكيف مع المتغيرات الإقليمية دون المساس بالاستقرار الداخلي.

بالإضافة إلى ذلك، فإن أي محاولة لإدماج موريتانيا في شبكة المصالح الأمريكية يجب أن تراعي هشاشة مؤسساتها، وإلا فقد تتحول الوساطة إلى عامل يزيد من التوتر الداخلي ويهدد الاستقرار المحلي. ومن هذا المنطلق، فإن واشنطن مطالبة بتبني سياسات دعم تنموي متدرج، تركز على بناء مؤسسات قوية، وتعزيز المشاركة المجتمعية لضمان استدامة أي تدخل إقليمي.

بعد البحث في مواقف الدول المغاربية الفردية، من المفيد الانتقال إلى الرؤية الأمريكية الأشمل لإعادة تشكيل النظام الإقليمي، والتي تهدف إلى تحقيق تكامل بين الأمن والطاقة والسياسة بين هذه الدول.

رؤية أمريكية لإعادة تشكيل النظام المغاربي

تسعى واشنطن من خلال رؤيتها إلى خلق نظام إقليمي متكامل يربط بين الأمن والطاقة والتعاون السياسي، بما يتيح إدارة الأزمات بطريقة مشتركة ويحد من النفوذ غير الأطلسي. وتعتمد هذه الرؤية على آليات اقتصادية ودبلوماسية لتسهيل التكامل بين الدول المغاربية.
ويُلاحظ أن هذه الهندسة الإقليمية تعتمد على بناء تنسيق سياسي متعدد الأطراف، ما يفرض إعادة تعريف دور كل دولة وفقًا لمصالحها الوطنية وقدرتها على الانخراط في مشاريع إقليمية مشتركة.

ومع ذلك، فإن التحدي يكمن في تنفيذ هذه الرؤية على أرض الواقع، خصوصًا في ظل اختلاف المصالح الوطنية والمقاومة السياسية والعسكرية، والتي قد تحد من قدرة الإدارة الأمريكية على فرض أي هندسة إقليمية موحدة. ولهذا، فإن نجاح المشروع يتطلب مزيجًا من التحفيز الاقتصادي، الدعم المؤسسي، والضغط الدبلوماسي المدروس لتقليل الاحتكاكات وتعظيم فرص التوافق بين الدول المغاربية.

ورغم وضوح الرؤية الأمريكية، فإن التطبيق العملي يواجه تحديات عديدة، ما يستدعي تقييمًا نقديًا للنهج المتبع وفهم نقاط القوة والضعف في المشروع الأمريكي.

التقييم النقدي

تبيّن التحليلات أن المشروع الأمريكي يميل إلى فرض نموذج جيوسياسي محدد أكثر من كونه وساطة محايدة. فهو يراهن على تعزيز موقع المغرب مع تقليص نفوذ الجزائر، ما يخلق ديناميكية غير متوازنة قد تواجه مقاومة داخلية قوية.

كما تشير الدراسات إلى أن التركيز على العلاقات الثنائية دون مراعاة التاريخ والرموز الوطنية يمكن أن يؤدي إلى تعقيد المسارات التفاوضية، ويضعف مصداقية الوساطة على المدى الطويل.

كما أن تجاهل العوامل التاريخية والرمزية للجزائر يزيد من صعوبة التوصل إلى تسوية شاملة، ويضعف فرص نجاح أي جهود طويلة الأمد لإعادة الهيكلة الإقليمية. ومن ثم، فإن التقييم النقدي يدعو إلى إعادة النظر في استراتيجيات الوساطة بما يوازن بين مصالح القوى الكبرى والحساسية الوطنية للدول المغاربية.

ومن التقييم النقدي للوساطة الأمريكية، يتضح أن هناك عقبات هيكلية ترتبط بالاستقرار الداخلي لكل دولة، والاختلافات الثقافية والسياسية، والعوامل الخارجية التي يمكن أن تعرقل تنفيذ أي اتفاقات إقليمية.

العقبات الهيكلية أمام تحقق الوساطة

بالإضافة إلى العوامل المذكورة، هناك تحديات متصلة بالاستقرار الداخلي لكل دولة، مثل الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، وضعف مؤسسات الحكم، والذي قد يعوق تنفيذ أي اتفاقات إقليمية.
وتضاف إلى ذلك الاختلافات الثقافية والسياسية بين الدول المغاربية، ما يزيد من صعوبة التنسيق وتوحيد الرؤى، ويستدعي سياسات مرنة تأخذ في الاعتبار خصوصيات كل دولة وقدرتها على الالتزام بالاتفاقيات.

كما أن التأثيرات الخارجية لمختلف القوى الدولية قد تزيد من تعقيد المشهد، ما يجعل أي اتفاقيات محتملة معرضة للتأثر بعوامل خارجية تتجاوز السيطرة الأمريكية والمغاربية. ومن هنا، فإن بناء مؤسسات إقليمية قوية وديناميكية، قادرة على امتصاص هذه الضغوط، يصبح شرطًا أساسيًا لنجاح أي هندسة إقليمية مستدامة.

وأخيرًا، يمكن الجمع بين التحديات والفرص السابقة لتقديم خلاصة استراتيجية توضح حدود وإمكانات الوساطة الأمريكية في إعادة الهيكلة الجيوسياسية للمنطقة.

الفرص والسيناريوهات المحتملة

رغم العقبات، يمكن للوساطة أن تخلق بيئة للتعاون الاقتصادي والأمني المحدود، خصوصًا في مجالات الطاقة والنقل، ما يوفر أرضية لبناء الثقة تدريجيًا بين الأطراف.

كما أن الاستثمارات المشتركة في مشاريع استراتيجية قد تؤدي إلى تعزيز التكامل الاقتصادي والسياسي على المدى المتوسط، ما يخلق نموذجًا إقليميًا مستدامًا يقلل من حدة التوترات بين الدول المغاربية.

كما أن السيناريو الأكثر واقعية هو تبني خطوات تدريجية ومحدودة للتقارب، مع الحفاظ على سيادة الدول وعدم الدخول في تسويات شاملة قد تكون صعبة التنفيذ في المدى القصير. ويُفضل أن تتضمن هذه الخطوات برامج تنموية، حوارات سياسية، وآليات للتنسيق الأمني، لضمان تقدم تدريجي ومتوازن يعزز الثقة بين الأطراف ويقلل المخاطر الإقليمية.

الخلاصة الاستراتيجية

يتضح أن الوساطة الأمريكية تحولت إلى مشروع شامل لإعادة الهيكلة الجيوسياسية، لكن تعقيدات الواقع المحلي والمصالح الوطنية المتباينة تحد من فرص النجاح.

كما تشير النتائج إلى أن النجاح يعتمد على قدرة الأطراف على التكيف مع التحديات، وإيجاد أرضية مشتركة للتعاون توازن بين المصالح الوطنية والاستراتيجيات الأمريكية الإقليمية.

ولتجاوز هذه التحديات، يجب التركيز على بناء الثقة بين الأطراف، وتعزيز المشاركة الشعبية، وخلق مشاريع تنموية مشتركة تحترم خصوصيات السيادات الوطنية وتوازن مصالح العواصم المغاربية. كما أن ضمان الاستدامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لهذه المشاريع سيعزز من فرص تحقيق أهداف الوساطة الأمريكية بشكل مستدام ومتوازن.

 

الأستاذ الدكتور عبدالواحد غيات /أستاذ باحث في العلوم السياسية