تُعدّ مسألة الحكامة إحدى القضايا المركزية في النقاش السوسيولوجي والسياسي المعاصر، لما تحمله من رهانات تتصل بالفعلية المؤسساتية للحقوق، وبقدرة الدولة على تحقيق العدالة والمساواة في تدبير الشأن العام.
من هذا المنطلق، يطرح «الطريق الرابع» رؤيته للحكامة باعتبارها مدخلًا لبناء نموذج جديد للحكم، يقوم على العقلانية، والمساءلة، والتكامل بين الفضاءات المجالية والاجتماعية.
أولًا: أزمة الحكامة في السياق المغربي
لقد أصبحت المؤسسات، في السياق الراهن، تعاني من فقدان بوصلة براغماتية واضحة، الأمر الذي أدى إلى ضعف فعاليتها وتراجع ثقة المواطن فيها. ويعود ذلك، في جانب كبير منه، إلى غياب حكامة حقيقية قادرة على توجيه القرار العمومي وفق منطق المصلحة العامة، بدل الخضوع لمنطق التقنوية أو الحسابات الظرفية.
وفي حين يُنظر إلى الحكامة في الأدبيات الحديثة بوصفها ممارسة عقلانية وحداثية تسعى إلى تحقيق التوازن بين السلطة والمساءلة، وبين الدولة والمجتمع، ما تزال في السياق المغربي شعارًا مؤجلًا أكثر منها ممارسة متجذّرة في البنية المؤسسية والثقافة السياسية.
لقد تحولت الحكامة، في كثير من الأحيان، إلى خطاب إصلاحي دون مضمون فعلي، وهو ما يفسر هشاشة الفعل العمومي وغياب النجاعة في إدارة الموارد والسياسات.
ثانيًا: الحكامة كمنظور قيمي وتنموي
تُظهر التجارب الديمقراطية المقارنة أن الحكامة ليست مجرد آلية تقنية، بل هي منظور قيمي وتنموي يجعل من الشفافية والمحاسبة والمشاركة المواطِنة أدوات لتقويم السياسات العمومية ومحاربة الفساد وتحسين أداء الدولة.
فهي بذلك تُمثل عملية اجتماعية مركّبة تربط بين البعد التقني للقرار العمومي والبعد الأخلاقي للسلطة، وتُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس الثقة والمسؤولية المشتركة.
فهي بذلك تُمثل عملية اجتماعية مركّبة تربط بين البعد التقني للقرار العمومي والبعد الأخلاقي للسلطة، وتُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس الثقة والمسؤولية المشتركة.
ومن هذا المنظور، يصبح استيعاب الحكامة كمفهوم تاريخي وسوسيولوجي شرطًا أساسيًا لتجاوز الأزمة الراهنة في تدبير الشأن العام، ولتحقيق فعلية الحقوق في بعدها المؤسساتي والمجالي.
ثالثًا: رؤية الطريق الرابع وبناء الدولة الاجتماعية
يقدم مشروع الطريق الرابع قراءة نقدية للواقع المغربي، من خلال التأكيد على أن إعادة بناء الدولة الاجتماعية يجب أن تنطلق من الهامش لا من المركز، بما يتيح إعادة توزيع الثروة والفرص والمعرفة بطريقة عادلة ومجالية متوازنة.
في هذا التصور، لا تُختزل الحكامة في أدوات التسيير الإداري أو التقني، بل تُفهم باعتبارها فعلًا اجتماعيًا تأسيسيًا يُعيد وصل العلاقة بين المواطن والمؤسسة، وبين العدالة المعرفية والمساواة المجالية، وبين الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التكاملية.
إن هذا المشروع يسعى إلى تجذير ثقافة جديدة للحكم، تتجاوز منطق السلطة العمودية نحو منطق المشاركة الأفقية، وإشراك الفاعلين المحليين والمجتمع المدني في رسم السياسات العمومية ومراقبة تنفيذها.
رابعًا: نحو تأطير سوسيولوجي للحكامة
يمكن قراءة هذا التصور ضمن الإطار النظري الذي قدّمه ماكس فيبر حول العقلانية البيروقراطية بوصفها نمطًا من التنظيم الحديث القائم على الكفاءة والمساءلة والشفافية، وهي المبادئ ذاتها التي يُدافع عنها «الطريق الرابع» في رؤيته للحكم الرشيد.
غير أن هذه العقلانية، كما نبّه فيبر، قد تنزلق إلى شكل من التشييء إذا فقدت بعدها القيمي والاجتماعي، وهو ما يجعل من الحكامة مسؤولية سياسية وأخلاقية في آن واحد.
وفي السياق ذاته، يتيح فكر بيير بورديو، من خلال مفهومي الرأسمال الرمزي والهابيتوس، قراءةً أعمق لكيفية تشكّل علاقات القوة داخل الحقل السياسي والمؤسسي، وكيف يمكن للحكامة أن تتحول من خطاب إصلاحي إلى ممارسة مقاومة لإعادة إنتاج الهيمنة.
فالرأسمال الرمزي الذي تحتكره النخب السياسية والإدارية لا يُعاد توزيعه إلا حين تُصبح الحكامة أداة لإعادة التوازن بين الحقول الاجتماعية المختلفة، وإعادة الاعتبار للفاعلين المحليين والهامشيين.
ختاما، رؤية الطريق الرابع تنفتح على أفق مغرب المستقبل، مغربٍ يجعل من الحكامة رافعة لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، ووسيلة لترسيخ الفعل الحقوقي في أبعاده الاقتصادية والمعرفية والمجالية.
فالحكامة، في هذا التصور، ليست مجرد إطار إداري، بل مشروع اجتماعي شامل يروم دمقرطة الفعل المؤسسي وتكريس العدالة كمنهج في التفكير والممارسة.
وبذلك، يُمكن القول إن الطريق الرابع يسعى إلى تحويل الحكامة من شعار إلى ثقافة، ومن تقنية إلى رؤية سوسيولوجية تسائل بنية الحكم، وتعيد تعريف علاقة الدولة بالمجتمع على أسس جديدة من الثقة، والعدالة، والعقلانية المتنورة.
يتبع
المصطفى المريزق /مؤسس الطريق الرابع
 
  
 
 
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
 