Thursday 16 October 2025
Advertisement
خارج الحدود

غزة… هل استيقظ العالم ؟

غزة… هل استيقظ العالم ؟ طلابٌ يرفعون لافتاتٍ تذكّر بأسئلة الأخلاق قبل السياسة
ستّ مئة شاحنة ستعبر يوميًا نحو غزة.
خمسة معابر فُتحت أخيرًا بعد سبعمائة يوم من الدمار.
اتفاقٌ من عشرين بندًا في شرم الشيخ بضمانة من قطر ومصر وتركيا والولايات المتحدة، في انتظار «مجلسٍ للسلام» يرأسه ترامب وتوني بلير.
وفيه أيضًا التزامٌ بالإفراج عن ألفي اسير ، من مخزون  يعدّ بالآلاف. وكأنّ الحرب تبحث عن مخرجٍ فقط لا عن نهاية، وكأنّ العالم تعب من الموت، لكنه لم يتّفق بعد على الحياة.
فهذا الاتفاق، الذي يشبه استراحةً في حربٍ بلا نصر، يكشف أن ما جرى في غزة لم يكن مجرّد مواجهةٍ عسكرية، بل اختبارًا للقيم والضمير ولقدرة العالم على النظر في مرآته الأخلاقية.
سبعون ألف قتيل، عشرات الآلاف من النازحين، وأرضٌ صارت خرائطها تُرسم على الركام.
ومع ذلك، لم تستطع إسرائيل أن تصل إلى أسراها، لا الأحياء منهم ولا الرفات، رغم تفوّقها التكنولوجي والاستخباراتي، رغم كاميراتها التي ترى في العتمة وطائراتها التي لا تنام، وهي التي قتلت هنيّة فوق فراشه في طهران، والسنوار في سردابه، وحسن نصر الله في مخبئه، وآخرين.
القوّة هذه المرة لم تكن في السلاح، بل في الحاضنة؛ في المجتمع الذي يحمي مقاومته لا لأنّه مأمور، بل لأنّه مقتنع أنّ العدالة سلاحٌ لا يُستسلم به.
الغرب أيضًا خضع لاختباره.
في الأيام الأولى، انحازت الحكومات وغنّى الإعلام لإسرائيل أغنيةً قديمة عن “الحق في الدفاع عن النفس”.
لكنّ الجامعات سبقت الجميع إلى التمرّد: طلابٌ نصبوا خيامًا ورفعوا لافتاتٍ تذكّر بأسئلة الأخلاق قبل السياسة.
ثم نزل الشارع، تلاه المدرّجات في الملاعب، والفنّانون على المسارح، حتى غدت غزة مرآةً عاكسةً لضميرٍ غربيٍّ يعود من غيبوبته.
وفي البرلمانات، ارتفعت أصواتٌ لم تكن مسموعة: نوّابٌ يذكّرون حكوماتهم بأن القانون الإنساني لا يُطبّق انتقائيًا، وأنّ الاحتلال ليس وجهة نظر.
هذه الحرب أعادت للرأي العام مكانته القديمة.
أعادته من الشاشات إلى الشوارع، ومن الصمت إلى الصوت، .
ولعلّ أهمّ ما في اتفاق غزة ليس بنوده بقدر ما هو الذي فرض وجوده: الرأي العام الدولي، الذي تحوّل هذه المرّة من جمهورٍ متفرّج إلى قوّة ضغطٍ أخلاقية حقيقية.
فلم يكن القرار بوقف الحرب نتاجَ مفاوضاتٍ هادئة خلف الأبواب المغلقة، فقط بل ثمرةً لصرخاتٍ في الشوارع، وصورٍ على الشاشات، وملايين التغريدات التي أعادت تعريف الوعي الإنساني.
لقد انتصرت في هذه الحرب قوّة الرأي العام على منطق القوة العسكرية.
وما عجزت عنه الآلة الدبلوماسية أنجزه الضمير الإنساني الجمعي.
وهذا ما يجعل من هذه الهدنة، رغم هشاشتها، تحوّلًا نسبيا في بنية العلاقات الدولية نفسها؛ إذ بدأت موازين التأثير تميل نحو ما يمكن تسميته «الشرعية الأخلاقية للرأي العام».
الرأي العام، كما وصفه روسو وهيغل ثم هابرماس لاحقًا، هو محكمةُ التاريخ حين يصمتُ الحكّام.
وفي غزة، اجتمع عليه الشرق والغرب، الشمال والجنوب، المؤمن واللاديني، حتى صار ضميرًا عالميًا واحدًا يذكّر بأنّ القيم ليست حكرًا على العواصم، بل تُولد من وجع الناس.
بهذا المعنى، لم يكن الرأي العام مجرّد احتجاج، بل إحياءً لمعنى السياسة في زمنٍ فقدَت السياسةَ ذاتها.
فحتى الأمم المتحدة، التي بدت عاجزة أمام الفيتوهات المتكرّرة، استعادت شيئًا من دورها عبر كلماتٍ صريحة من أمينها العام، وعبر تقارير المفوّض السامي فولكر تورك الذي لم يتردّد في وصف ما يحدث بأنه “قتل جماعي”، وعبر المدّعي العام للمحكمة الجنائية الذي أعاد فتح ملفّ غزة بصيغةٍ قانونية تُقلق العواصم الكبرى.
ومع ذلك، في العالم العربي والإسلامي، ظلّ الصمتُ ثقيلاً.
بعض المسيرات، بعض الشعارات، وكثيرٌ من التعب.
الحكومات تتذرّع بالحذر، والشعوب تئنّ من الخيبة.
لكنّ الجرحَ لا يزال مفتوحًا، والألمُ مشتركًا، مهما غابت الراياتُ والهتافات.
وبالتالي، فالأتفاق هوً امتحانٌ لإرادة العالم 
اي هل  يستطيع العالم أن يجعل من هذه البنود بداية حياةٍ جديدة، لا مجرد هدنةٍ مؤقتة بين موتين؟
وهل يمكن للسلام أن يُبنى بوجوهٍ كانت شريكة في إخفاقات الماضي، من ترامب إلى بلير، ؟أم أن الحاجة صارت إلى وجوهٍ من رحم المأساة نفسها، تعرف أن العدالة ليست توقيعًا على الورق، بل إعادة بناءٍ للمعنى؟
لكنّ المؤكد أن غزة، رغم الرماد، ما زالت قادرةً على صناعة الأسئلة الكبرى.

 
وأنّ العالم، قد فتح  عينيه على حقيقةٍ بسيطة: أن القوة التي لا تُقنع لا تُخيف، وأن الضعف الذي يحمل قضيةً عادلة قد يُهزم جسديًا، لكنه لا يُهزم أخلاقيًا. وفي منطق التاريخ، هذا هو أول شروط النصر.ولعلّ ما كتبته مجلة فورين بوليسي  Foreing policy مؤخرًا يوجز المشهد:
“سيستغرق الأمر سنوات لمعرفة مدى عمق تأثير هذه الحرب على كينونة إسرائيل.”