لا أحد يرفض الفرح الكروي الشعبي، ولا أحد ينكر أن المنتخب المغربي حقق إنجازا تاريخيا، وأن طاقات الشباب أبانت عن قدرة على التحدي وسط كبار العالم. لكن السؤال الذي يظل مطروحا وملحا: لماذا ينجح المغرب في كرة القدم ويخفق في التنمية؟ لماذا يتأهل في الملاعب ولا يتأهل في البحث العلمي والمستشفيات والمدارس والحرية والديمقراطية؟
هذه المفارقة ليست مغربية صرفة. لأن أنظمة استبدادية في الخليج مثلاً (السعودية والإمارات) آثرت ضخ مليارات في شراء النوادي واللاعبين وتنظيم التظاهرات الرياضية الكبرى، على الإبقاء على أوضاع الحقوق والحريات أسيرة منطق القمع، وعلى بناء اقتصاديات وطنية مستقلة. المغرب، بدوره، وعلى طريقته الخاصة وبإمكانات أقل، يسير في النهج ذاته:استثمارات ضخمة في الملاعب من الجيل الجديد، واجهة كروية تسوق إعلاميا، مقابل واقع اجتماعي مأزوم ونظام تعليمي وصحي هش.
منذ زمن بعيد تبنى المغرب سياسة الاستعراض الرمزي هاته: أكبر مسجد في العالم بعد مكة، أكبر كسكس وأكبر طنجية… واليوم أحد أفضل الملاعب في العالم. إنها ثقافة "الأرقام القياسية" الطفولية التي تمنح وهما بالعظمة الفولكلورية بينما يضل الواقع ينطق بالعجز والفشل. فكيف نفخر بعاشر ملعب عالمي ونحن عاجزون عن ضمان سرير لمريض في قسم الإنعاش؟ وكيف نصرف المليارات على ملاعب أولمبية بينما قرى بأكملها بلا مستوصف ولا طريق معبدة؟ وكيف نجرؤ على ذلك بمستوى أجور في أسفل الترتيب العالمي؟ وبقدرة شرائية شبه معدمة؟ أي سكيزوفرينيا سياسية تجعل من الاستعراض أولوية ومن الاستثمار في الإنسان ترفاً مؤجلاً؟
خطورة كرة القدم في بلد كالمغرب أنها لم تعد مجرد لعبة، بل غدت وسيلة لتأجيل الأسئلة الكبرى وصناعة شرعية سياسية عبر الفرح الجماعي والتجييش العاطفي وفقط:
لماذا لا نتأهل في التعليم والبحث العلمي؟ ولماذا لا نتأهل في الحرية والديمقراطية؟ والنووي والمنافسة حول الفضاء ووضع أقدامنا على القمر؟ لماذا مازالت استثماراتنا في الدكاء الصناعي والتكنولوجيات الحديثة لم تبرح طنجة؟ ولماذا نستثمر في الفرجة ولا نستثمر في الإنسان وفي المستقبل؟
إنها نفس المفارقة التي نعيشها مع الدين: تقديم الصلاة على التفكير في لقمة العيش. أو كما يقول المثل الشعبي البليغ: "شحال قدك من الحمد لله يا لبايت بلا عشا."
رغم تعدد القراءات فالنتائج واحدة وغريبة عن أي قراءة وطنية علمية باستراتيجية رصينة. فإذا استعرنا منظور جيمس بوكنان الليبرالي ونظرية الاختيارات العمومية، وجدنا أن الدولة لا تتحرك بدافع الصالح العام في بيئة تنافسية شفافة، بل وفق حسابات عقلانية لفاعلين يسعون إلى تعظيم منافعهم السياسية والرمزية تحت غطاء الريع والامتياز والهمزة وفي شبكات عائلية ضيقة، ويستثمرون في كرة القدم لأنها تدر شرعية سريعة بأقل تكلفة، خلافاً للإصلاحات العميقة التي قد تفتح ملفات التوزيع العادل للثروة ودمقرطة الدولة والسلطة.
أما إذا استحضرنا التحليل الماركسي، فإننا نقرأ الظاهرة باعتبارها آلية لإعادة إنتاج الهيمنة عبر الإلهاء الجماعي. فالملاعب جزء من جهاز إيديولوجي يعيد تشكيل وعي الجماهير، ويحول الانتصار الكروي إلى "أفيون معاصر" يغطي على فوارق اجتماعية صارخة ويعيد إنتاج البنية الطبقية ذاتها ولو أنها بنية هجينة تصارع في نمط إنتاجي قبل رأسمالي محفوف بتحولات دولية متسارعة.
بل وحتى من زاوية حضارية، فإن هذا السلوك يشكل استمرارا لثقافة الاستعراض الرمزي الذي يقدم الوهم على الحقيقة، والواجهة على الجوهر بعيدا عن أي خلفية حضارية رزينة ومسؤولة.
ومهما تنوعت المناهج والمداخل، فالخلاصة واحدة: إن هذا الخيار غريب عن جوهر المطلبية الاجتماعية وانتظارات الناس الفعلية. من جهة أخرى فإن الهرولة الشعبية خلفه، تعكس تشتتا في التركيز وانعدام ترتيب للأولويات لدى المواطنين البسطاء، وهو أمر مفهوم في سياق الأمية الواسعة وهشاشة النظام التعليمي وضبابية حس الانتماء الوطني والمواطناتي.
إن المغرب محتاج اليوم إلى "تأهل آخر": تأهل في التنمية البشرية، في العدالة الاجتماعية، في الديمقراطية. عندها فقط سيصبح الفوز الكروي امتدادا طبيعياً لتقدم حضاري شامل، لا مجرد قناع يخفي الإخفاقات الجوهرية في الخبز والكرامة الإنسانية والصحة والمدرسة العمومية.