تعيش "تونس قيس سعيّد" أسوأ أيامها، ليس بسبب الحالة الاقتصادية المزرية المُمسِكَة بخِناقها، أو بسبب تفاقم البطالة والميل المُتنامي إلى الهجرة غير النظامية، بالرغم من قوة الدينار التونسي وقدرته على مراوغة قفزات الدولار واليورو وحتى الجنيه الإسترليني والين الياباني... ولا بسبب استئثار رئيس جمهورية معلول عقلياً ونفسياً بالسلطة، وبكل السُّلَط... وإنما، فقط لا غير، بسبب الميل كل الميل إلى نظام الموراديا الجزائري الكسيح، الذي ما سار معه نظامٌ آخر خطوتين إلاّ وجد نفسه في أحرج المواقف، مِن جميع الجوانب ومن مُختلِفِها!!
ليس من قبيل الصدفة أن تتردّى "تونس قيس سعيّد" إلى أسفل سافلين، منذ عاشت لحظتَين فارقتَين في حياة الدولة والأمّة في ذاك البلد:
الأولى: بإعطائها ذات يومٍ إشارةَ الانطلاق لما سُمِّيَ في إبّانه بالربيع العربي، قبل أن يتضح للعالم برمته بأن الأمر لا يُشبه الربيع كما نعرفه في أي شيء، وإنما كان مناسبة لتصفية بعض الحسابات بين بعض الدول العظمى من جهة، وأنظمة عربية أينعت وحان قِطافُها كما قال الحجاج بن يوسف الثقفي في إحدى خُطَبِه أمام أهل العراق من جهة ثانية... إذا لم تخنّي الذاكرة ("أنا ابن جَلاَ وطَلاّعُ الثنايا.. متى أضع العِمامةَ تَعرفوني.. يا أهل العراق.. يا أهل الشِّقاق والنفاق..إنّي لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قِطافُها وإنّي لَصاحِبُها"!!).
والثانية: عندما أرخت تونس العِنان لرجل معلول مثل رئيسها الحالي، تاركةً إيّاه يستحوذ على كل خيوط النسيج المؤسساتي التونسي، ليضعه في يد نظام جزائري سرعان ما حوّله هو الآخر إلى ولاية جزائرية بكل المقاييس!!
أما ذلك الربيع العربي المفترى عليه، بمناسبة ذِكْره، فقد كان لابد أن يُفرَض بتلك الطريقة المُريبة، وغير محسوبة العواقب، على شعوب العربان، فيما كانت تلك الشعوب تظن أنها هي الثائرة، وهي الفاعلة، وليست المفعول بها غداةَ انفجار تلك الظاهرة الثورية لكن، المفبرَكة بعناية في مختبرات القوى العُظمى!!
مناسبة الخوض في هذا الموضوع، أن "تونس قيس سعيّد" تعرّضت، في هذين اليومين الأخيرين، لانفجارين يَسيرَيْن ضربا أحد المرافئ في أحد موانئها، وأريدَ للانفجارين معاً أن يُقدَّما من لدن الإعلام التونسي، المدجَّن، كما لو كانا ناتِجَيْن عن قذيفتين من طراز "جو/أرض"، وأُرفِق هذا النوع من الأخبار الغبية، لأنها تبدو من صنع مخابرات غبية هي الأخرى، توجّهها من وراء الستار أغبى وأفشل مخابرات في العالم، أقصد مخابرات عبلة بالموراديا، بالجزائر تحديداً، أقول: أُرفِقَ خبر الانفجارَيْن بالقول الكاذب وغير المنطقيّ ولا الصريح، بأن تونس تتعرض لهجوم إسرائيلي مدبَّر، وأن ذلك يقع بسبب "مواقفها البطولية من أجل نصرة الشعب الفلسطيني" كما روّجت لذلك نفس الوسائل الإعلامية التونسية الرَّخْوَة!! فعن أيِّ "مواقف بطولية" يتحدث هؤلاء؟!!
إن تونس قيس سعيّد بالذات لا تفعل ولم تفعل أساساً ما يمكن أن يزعج السلطات الإسرائيلية، إلى درجة تجعلها تخطط وتنفذ للهجوم على الموانئ التونسية... وحتى لو سلّمنا بهذه الفرضية، فإن إسرائيل، كما نعرفها نحن والعالَم من حولِنا، ما كانت لتقنع بإلقاء قذيفتين اثنتين صغيرتين، في بحر أسبوع كامل، على سفينة راسية بمرفإٍ تونسي بحجة أنها كانت تستعد للإبحار إلى غزة لمساندة اهاليها، علما بأن البحر الأبيض المتوسط يعيش شَرقُهُ حالياً حالة من الفوضى العارمة من جرّاء إبحار مئات البواخر الصغيرة والمتوسطة في نفس الاتجاه، شواطئ غزة، ولنفس الغرض!!
فهل كانت إسرائيل ستترك هذه المظاهرة أو المسيرة البحرية الحاشدة، ثمّ تكتفي بمناوشة سفينة صغيرة راسية في أحد موانئ تونس؟ أيُّ عقلٍ غبيٍّ هذا الذي يمكن أن يُصدّق مثل هذه الفرضية، حتى ولو كانت من صميم الواقع؟!!
يبدو لي، بكل تواضع، أن المخابرات التونسية، بأمر من قيس سعَيّد من جهة، وبتوجيه بليد ومثير للسخرية من لدن مخابرات عبلة بالجزائر من جهة ثانية، هي التي أقدمت على هاتين الضربتين اليسيرتَيْن والتافهتَيْن من أجل القول إن إسرائيل تهاجم تونس، لماذا؟.. "بسبب مواقفها البطولية المناصِرة لشعب فلسطين ولأهالي غزة"، وبذلك يسترجع قيس سعيّد بعضاً يسيراً، ولو تافهاً، من الضوء الذي خَبَا واضمحلّ مِن حَوْلِه منذ أنِ استأثر بالسلطة بطريقته الهجينة، التي باركتها الجزائر ودعّمتها بكل وسائلها الموبوءة، وذلك بادعاء التعرض لانتقام إسرائيل ونِقمتها!!
إننا نعلم، والعالم مِن حولِنا كذلك، بأن إسرائيل ما كانت أبداً لِتُحرك أسطولها الجويّ، الضارب، من أجل إلقاء قذيفة تافهة أو قذيفتين غيرِ ذاتَيْ وزنٍ ولا اعتبار، على إحدى السفن بأحد موانئ تونس، وهي التي في وسعها باستعمال سرب واحد من طائراتها أن تدمّر تونس عن آخرها، أو تدمّر بطريقة جراحية في منتهى الدقة نظاما يتشدق بإغضابها، وبالتعرض لنقمتها وانتقامها!!
فهل هكذا عوّدتنا إسرائيل أن تفعل حين تستشيط غضباً، وحين تعقد العزم على الانتقام من نظام أو جماعة معارِضة أو عدوّة؟!
الغريب أيضاً، أن مثل هذا الحدث، تقريباً، تعرضت له دولة قطر الشقيقة، فأثار موجة من الاستنكار من لدن أغلب الزعماء العرب، ووسائل الإعلام العربية، غير العارفة ولا الحكيمة، والتي صارت السطحية عنوانَها الغالِب...
بيد أنّ الضربات هذه المرة كانت إسرائيلية بكل الصراحة والوضوح الممكنَيْن، وكانت تستهدف قِيادِيِي منظمة حماس، المتمتعين بصفة اللجوء تحت سماء قطر!!
الأعجب من كل هذا، أن المحللين الإعلاميين لفرط سطحيتهم وتسطيحهم انطلقوا يتساءلون عن الأسباب التي جعلت وسائل الدفاع الجوي القطري تقف متكوفة الأيدي، ولا تتدخل كما فعلت في السابق ضد الهجمات الإيرانية المماثِلة؟ ولماذا لم تتدخل بشراكة معها قواتُ المارينز المرابطة بالقواعد الأمريكية الموجودة بدولة قطر، بحريةً وجوّيةً وبرّيةً، لتبقى أسئلتهم بلا جواب شافٍ أو مُقنع إلى غاية لحظات الناس هذه!!
في رأيي المتواضع، وبنفس الطريقة التحليلية والتأويلية التي انتهجتُها في تفسير الحادثتين التونسيتين، أرى أن السلطات القطرية انتبهت متأخِّرةً إلى أنها تورطت بإزاء أمريكا وحلفائها وفي طليعتهم إسرائيل، حين استضافت ما تبقىّ من زعماء "حماس"... ولأنها لم تستطع تجريد هؤلاء من حق اللجوء بسبب استكانتهم وقبوعهم في الظلّ بلا صخب وبلا مشاكل، فإنها تحت الضغط الأمريكي لم تجد بُدّاً من التفاهم مع مخابرات "العم ترامب" على تيسير مأمورية إسرائيل بالسماح لها بضربهم حيث يختبئون، داخل التراب القطري ذاته، بل ربما عملت المخابرات القطرية على مد الطيران الإسرائيلي بإحداثيات المواقع التي توجد بها عناصر تلك القيادات، تماماً كما فعلت المخابرات الإيرانية مع مواقع ومخابئ إسماعيل هنية ورفاق دربه الذين استطاعت مُسَيَّرات سلاح الجو الإسرائيلي إصابتهم في مقتل حيث كانوا يختبئون داخل التراب الإيراني!!
أعتقد أن هذا هو الذي جعل دولة قطر من جهة، وقوات المارينز بالقواعد الأمريكية الرابضة داخل قطر وفي شواطئها من جهة أخرى، تقف وقفة المتفرج ولا تُحرّك ساكناً، وكأنها تقول لقوات إسرائيل "هيت لَك"، وافعلي بهؤلاء ما بدا لَك... عجبي!!!
محمد عزيز الوكيلي/ إطار تربوي متقاعد