تجد فرنسا نفسها مرة أخرى أمام أزمة حكومية عميقة بعد سقوط حكومة فرنسوا بايرو وفشل ماكرون في تأمين استقرار سياسي منذ إعادة انتخابه عام 2022. فالتوازنات البرلمانية الهشة، التي أفرزتها الانتخابات التشريعية المبكرة، جعلت أي حكومة عرضة للسقوط بين ضغط اليمين المتطرف الصاعد واليسار المتشدد.
خيارات الرئيس محدودة: إما البحث عن شخصية توافقية قادرة على جمع الوسط والاشتراكيين، أو الدعوة إلى انتخابات جديدة لا تبدو قادرة على إنتاج أغلبية مستقرة، أو اللجوء إلى المادة 16 من الدستور بما تعنيه من تركيز غير مسبوق للسلطة التنفيذية.
لكن المأزق يتجاوز الحسابات السياسية. فالأزمة الاقتصادية، مع دين عام قياسي وخطط تقشف مثيرة للجدل، تتقاطع مع توترات اجتماعية متصاعدة قد تشل البلاد في الأسابيع المقبلة. في ظل هذه المعادلة المعقدة، تبدو فرنسا أمام مفترق طرق: إما إعادة تشكيل توازن سياسي جديد يضمن الحد الأدنى من الاستقرار، أو الانزلاق إلى دوامة طويلة من الأزمات تهدد موقعها الأوروبي والدولي.
منذ إعادة انتخاب إيمانويل ماكرون لولاية رئاسية ثانية في مايو 2022، توالت الأزمات السياسية في فرنسا، حيث عيّن الرئيس أربعة رؤساء للحكومة، وسيكون مضطراً الآن إلى إيجاد رئيس حكومة خامس أو حل الجمعية الوطنية، بعد أن حجب النواب الفرنسيون، الاثنين الماضي، الثقة عن حكومة فرنسوا بايرو، الذي سيقدّم استقالته للرئيس بعد أقل من تسعة أشهر على توليه منصبه. الأمر الذي يهدد البلاد مجدداً بأزمة سياسية حادة وغير مسبوقة في ظل الجمهورية الخامسة.
وتعيش فرنسا فترة عدم استقرار سياسي منذ قرار الرئيس حل الجمعية الوطنية في يونيو 2024 عقب الفوز الكبير لليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية. ورغم دعوة ماكرون إلى انتخابات تشريعية مبكرة، إلا أنّ المشهد السياسي ازداد تعقيداً، بعدما أسفرت النتائج عن ثلاث كتل كبرى في الجمعية الوطنية من دون أي غالبية واضحة: تحالف يساري، وتحالف لليمين والوسط، إضافة إلى اليمين المتطرف، ما يجعل تشكيل أي ائتلاف حكومي هشاً للغاية.
سقطت حكومة فرنسوا بايرو بعد أن طلب رئيس الوزراء التصويت على الثقة على أساس مشروع ميزانية 2026، الذي يتضمن تقليصاً في النفقات بقيمة 44 مليار دولار وإلغاء يومي عطلة رسمية للحد من الدين العام الذي بلغ 114% من الناتج المحلي الإجمالي.
وقد دعا قادة اليمين المتطرف إلى حل سريع يتمثل في حل الجمعية الوطنية والدعوة إلى انتخابات مبكرة، وهي انتخابات تمنح الاستطلاعات فيها أفضلية لحزب مارين لوبن. أما حزب "فرنسا الأبية" بزعامة جان لوك ميلونشون، فيطالب باستقالة ماكرون والدعوة إلى انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة.
أمام هذه الاعتبارات، تبدو خيارات ماكرون محدودة. فقد أعلن أنه سيستمر في ولايته الرئاسية حتى نهايتها مع تعيين رئيس وزراء جديد، لكنه في الوقت ذاته لم يستبعد الدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة. ومع هذه الاستقالة، يخسر ماكرون ثاني رئيس حكومة منذ قراره المفاجئ عام 2024 حل الجمعية الوطنية بعد تفوق اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية، وهو القرار الذي أغرق البلاد في أزمة سياسية ومالية كبيرة من دون أن يمنحه غالبية نيابية.
وقبيل التصويت، قال بايرو أمام الجمعية الوطنية: "هذا اختبار حقيقي كرئيس للحكومة (...) اخترت أن أواجهه، لأن مستقبل البلاد على المحك بسبب ديونها المفرطة". وأضاف: "لديكم القدرة على إسقاط الحكومة، لكنكم لا تملكون القدرة على محو الواقع"، مشبهاً العيش تحت عبء الدين "بالخضوع لقوة عسكرية" تفقد البلاد حريتها.
اليوم يجد ماكرون نفسه بعد استقالة رئيس حكومته محاصراً بين يمين متطرف يتصاعد نفوذه باستمرار، ويسار يزداد تشدداً ويطالبه بالاستقالة. وهو ما يفرض عليه توسيع كتلته الوسطية والبحث عن شخصية توافقية من الوسط أو اليمين تحظى بقبول الاشتراكيين. وهذا هو السيناريو الأول للخروج من الأزمة. أما السيناريو الثاني فيتمثل في الدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة، لكن الاستطلاعات تشير إلى أنها لن تمنح أغلبية لأي طرف. أما السيناريو الثالث، فهو أن يرفض ماكرون الاستقالة ويفعل المادة 16 من دستور الجمهورية الخامسة، التي تمنحه صلاحيات تشريعية وتنفيذية واسعة في حال وجود أزمة خطيرة، وهي المادة التي سبق أن استخدمها شارل ديغول بعد محاولة انقلاب عسكري خلال أزمة الجزائر.
وبالإضافة إلى الأزمة السياسية والمالية، تستعد فرنسا لموجة من الاضطرابات الاجتماعية، تبدأ الأربعاء المقبل مع دعوة حركة "لنُعرقل كل شيء" إلى تعبئة ميدانية، بدعم من بعض النقابات اليسارية، تليها دعوة إلى إضراب عام وتظاهرات في 18 سبتمبر احتجاجاً على سياسة التقشف.
هكذا تواجه فرنسا أزمة سياسية واجتماعية معقدة تضعف موقعها أمام شركائها الأوروبيين، وتؤثر سلباً على دورها في الحرب الروسية - الأوكرانية، كما تجعلها في وضع مالي حرج أمام دائنيها.