حين شممت عبق رائحة "وْجَعْ التّْرَابْ" أحسست وكأن والدي الفقيد الحاج محمد بن إسماعيل الجندي السابق وعامل الفوسفاط اللاحق والفلاح الذي عشق دكالة، رفقة والدتي الفقيدة الحاجة عكرود سليمة رحمهما الله، شعرت حينها، قد جدّد الفقدين راحة بالهما هناك بمقامهما الطيّب في أعالي السماء، والملائكة تحف روحيهما الزكيتين، وحلّقت على رؤوسنا منذ أن حط أفراد الأسرة الصغيرة رحيلهم بين أحضان أبناء العمومة والخالات والأخوال حيث يطيب المقام بأرض الفرسان والمزارعين والفلاحين البسطاء والنساء المكافحات ليل نهار.
هي دورة سُنَّة الحياة تجدّدها روابط الدم والقرابة وأواصر المحبة والاحترام، لأناس لا تفارق الإبتسامة محياهم، والكلمة الطيبة لسانهم، والدعوة الملحاحة لتقاسم ملح الطعام ـ حْبَابْنَا مَا حْلَى مَلْقَاكُمْ ـ وتوزيع الحديث بين مَجْمَع ولَمَّة الخير التي تسترجع الأيام الخوالي التي جمعتنا في الماضي البعيد والحاضر القريب والباقي من أيام المستقبل القادم بأحلامه الجميلة.
كانت كؤوس الشّاي الذهبية تصطفّ بأدب واحترام، يليق بلحظة الفرح والسعادة، إنها فعلا لحظة استثنائية تنضبط لها لوازم ومستلزمات إعداد الشّاي "لَمُشَحَّرْ" على نار "الْمَجْمَرْ" التي تلتهم بأنياب لهيبها "فَاخَرْ" أشجار الكاليتوس، حيث أزيز سْبُولَةْ "الْمُقْرَاجْ" تعزف سنفونيتها الباذخة، في الوقت الذي تَشِعُّ فيه من بين أضلاع زجاجها البرَّاق واللمَّاع، أشعّة الغبطة والسرور التي تداعب وتلامس وجوه بناتنا وأبنائنا، في حضرة الصينية الفضية التي تبوح هنا والآن، بأسرار الحياة البسيطة، السهلة والممتنعة.
كيف لا؟ والجميع يصغي وينصت لنظم امرأة بلغت من الكبر عتيّا، وهي تغني لمعاني الحياة وروابطها الاجتماعية، بآلامها وأفراحها، كانت تغني للبعيد والقريب، وتشيد بسلوك الغائب والحاضر، ومازال قلبها يخفق بنبض الحب والعشق لقرابة الدم في عروقنا وشرايين قلوبنا جميعا...كانت "أُمِّي فَاطْنَةْ" في غاية الألق والإنتشاء وهي تحلق بجانحي الفرح والسعادة تغمر فؤادها، كانت تصفّق بكفّيها لضبط إيقاع الغناء والنظم الجميل، فكان إيقاع كفيها يشبه إيقاع حافر الخيل وطلقات البارود معبرة عن انتصارها في الزمان والمكان عن الغياب والفقدان الأليم.
لا يستقيم إعداد الشاي تحت سقف "الْقُبَّةْ" في حضرة الضيوف "لَعْزَازْ" وتوزيع كؤوسه المنعشة للرّوح والقلب بأرض دكالة، إلا بتقديم أطباق المكسّرات المملوءة بالفواكه الجافة من كَرْكَاعْ ولُوزْ وفُسْتُقْ وكَوْكَاوْ وحُمَّصْ وتُمُورْ بَلْدِيَّةْ، مرفوقة بفطائر الْبَطْبُوطْ ولَمْخَنْفَرْ ولَمْلَاوِي المعد بواسطة الْفَرَّاحْ الطيني، إلى جانب خبز لَكْرُونْ برائحته الممزوجة بدخّان "لَوْكِيدْ" وبقايا أعواد جافة تزيد لذة أدخنتها على مذاق الزّبدة الْبَلْدِيَّةْ والعسل...هي عادات أجدادنا وآبائنا وأهالينا التي تعبر عن الكرم والجود والسخاء، وهي نفس التقاليد التي ألفنا عيشتها منذ نعومة أظافرنا طيلة العطل الربيعية والصيفية هناك.
زرنا الأماكن، والفضاءات، والمواقع، وتنقلنا عبر الممرات الخالدة، وحكينا عن قصص الطفولة هنا ببادية دكالة، وروينا للجيل الحالي من البنات والأبناء والحفدة، عن مشاهد وأحداث ومواقف فكاهية ساخرة كنا قد عشنا قديما لحظاتها في جنب "الْبِيرْ والْمَطْفِيَّةْ" و "حَانُوتْ الدَوَّارْ" و "ضََرِِيحْ سِيدْ الْكَامَلْ" و "لَمْسِيَّدْ" وفصلنا في حكايات مضحكة حين مجيئ "رْبَاعَةْ كَيْطُونْ الشِّيخَاتْ" وفرقة "عِيسَاوَةْ"، وكذلك حكينا مشاهد عن كيفية الاستعداد لإقامة "عرس الطلبة" و أعراس "الختان" ثم "الزواج" واستحضرنا شغبنا الطفولي خلال موسم الحرث والحصاد وجني مختلف الفواكه التي كان يجود بها الأقدمون الذين خلدوا أسمائهم كمزارعين بسطاء يفيض الخير من بين أناملهم دون حساب.
فعلا لقد تأخرت كثيرا عن زيارة "أُمِّي فَاطْنَةْ" ابنة خالتي الفقيدة "أُمِّي عَايْشَةْ"، حيث كنت أؤجل مواعيد السفر لمنطقة دكالة لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية، في الوقت الذي حافظ أخي الحاج عبد المجيد فردوس على زيارة العائلة بين فترات متقطعة يحيي من خلالها الروابط ويجدد الإنتماء.
إن الحديث عن مؤسسة هذه المرأة المكافحة والصبورة "أُمِّي فَاطْنَةْ" التي علمتنا وأعطتنا ووهبتنا كل شيء يفيد في مفهوم معنى الحياة البسيطة والمتواضعة بمنطق وفلسفة "السهل الممتنع" هو حديث بصيغة جمع المؤنث لأنها نموذج للمرأة الدّكالية العظيمة.
"أُمِّي فَاطْنَةْ" البهية بطلعتها الجميلة؛ كانت ومازالت تمثل نموذج المرأة الدكالية التي لا تدخر جهدا في العمل الشّاق والمتعب والمنتج في نفس الوقت. هي التي كانت تستيقظ قبل الإنسان والحيوان رغم أن ديكها الأرقط "حْجَرْ الْوَادْ" كان يسابقها الزمن لإعلان توقيت انطلاق حياة جديدة كل فجر يوم جديد قبل أن تلامس أشعة الشمس تربة أراضي "جْنَانَاتْ الْعِنَبْ والْكَرْمُوسْ والْبَاكُورْ".
لقد كنت شاهدا على قيامها باكرا، "يومئذ كنت مازلت أتبول في الفراش" حيث تفتتح شغلها اليومي برش الماء قبل كنس أرضية الخيمة وتنظيف "الْقُبَّةْ" والغرف و "كُشِّينَةْ" الطّبخ...بعد ذلك كانت تعكف على حلب ضرع البقرة الصفراء مقابل منحها حرية الخروج للمرعى رفقة البهائم والأغنام تحت قيادة "الراعي/السَّارَحْ"...وتمر لإعداد عجين خبز الفرَّان وعجائن الفرّاح. دون أن تفرط في لمعان وبهاء صينية وبرّاد الفضة وكيسان حياتي الأنيقة التي تسترق السمع والنظر بحشمة ووقار لأزيز سْبُولَةْ الْمُقْرَاجْ على لهيب نار الْمَجْمَرْ في زاوية من زوايا "قبة" الضيوف الإستثنائيين القريبين من القلب...بالموازاة مع ذلك كان والدها "أبَّا فَاتَحْ" رحمه الله يتوجه إلى بستان "الجْنَانْ" رفقة زوجها المكافح "وَلْدْ زَهْرَةْ" لجني فاكهة الكرموس الهندي والعنب والباكور...مستعينا بعربة "الْبَرْوِيطَةْ" التي يفي حجم حمولتها بغرض إشباع القوم كبارا وصغارا.
بدوار أولاد الشيخ بمنطقة دكالة، تختلف أطباق وجبات الفطور والغذاء والعشاء طيلة الأيام التي كنّا نقضيها عند أمهاتنا الأخريات اللواتي كُنَّ يشبهن "أُمِّي سْلِيمَةْ" في كل شيء، سواء عند "أمي فاطنة" أو "أمي عايشة" و "سلطانة" و "خناثة" أو عند أمي "الغالية" و "العالية" و كذلك في ضيافة أمي "فاطمة" و "الزُّوهرة" وغيرهن من اللواتي رضعن من ثديهن حليب الفرح والسعادة، لكن اللذة والروائح الطيبة، لا تختلف على مستوى تذوق "بَنَّةْ" الأطعمة المنسّمة بنكهات التوابل وسحب دخّان "الْكُشِّينَةْ" التي تتسع لإعداد كل أنواع الأطباق اللذيذة، مثل اتساع قلب المرأة الدكالية الذي يفيض خير الإذخار من داخل صندوقها الخشبي الذي يصون كل الأشياء الثمينة.
من جهة أخرى، فقد كانت جلسات حصص سمر وسهر الليلي على نور الشمع المنتصب فوق "الْحَسْكَةْ" النّحاسية، تقدم فقراتها الغنائية أمهاتنا الفنانات والمبدعات اللواتي ذكرنا أعلاه، بنظمهن التلقائي المصحوب بإيقاع خفيف ومتزن بـ "الطّْعَارَجْ" حيث يتركن للكلام فسحة الإلقاء وفصاحته على لسان الوصف البديع الذي يمجد البنات والأبناء وسلوك التربية الحسنة، حيث يتم العبور بعدها نحو نظم وغناء مقاطع المدح في شخصية الزوج/الرجل...بشجاعته وصرامته وتضحياته مع تقلبات الفصول الأربعة بمواجعها وأفراحها.
كان نشاط وحيوية "أمي فاطنة" لا يقارن مع تحركات النساء والفتيات بمحيط العائلة...كل شيء بالنسبة لها يحتاج للمسة يديها الكريمتين، لتعيد له مكانته وأهميته مع ترتيب الأولويات طبعا. كانت ومازالت هي نبض وينبوع الحياة، والخيط الناظم لجواهر القلوب الطيبة التي لا تمل من السؤال عن الحال والأحوال، والكثير من الترحيب ليطيب مقام الضيافة.
لم تعد "أمي فاطنة" ابنة خالتي الفقيدة "أمي عايشة" تقوى على المشي نظرا لتقوس ظهرها، إذ أصبح يشكل زاوية انحناء بمعدل 45 درجة...حيث المشي بصعوبة والرأس منحدر صوب الأرض. لكنها رغم ذلك تكابر وتنهض بهمة وعزيمة وتقوم بتغيير ملابسها المزركشة والملونة بألوان قوس قزح كل يوم، وتتعطر وتتجمل واضعة خرقة الرأس على ضفائر شعرها الجميل المخضب بالحناء والورد والريحان.
تحلقنا حول صينية الشّاي المنعنع، رفقة الأهل والأحباب، وتبادلنا أطراف الحديث بحنين لذكريات جميلة، تذهب الأسى والحزن قصصها الساحرة. واستحضرنا الغائبات والغائبين من نساء ورجال الدوار الذين افتقدناهم نساء ورجالا. ودعونا معهم ولهم باليمن والبركات والتيسير. وكان الوداع بصيغة الحفاظ على روابط الدم والقرابة العائلية.
