تتأطر هذه الورقة المتواضعة ضمن سياق متسم بالغموض والاضطراب دوليا واقليميا. فمن كورنا، وحرب روسيا_ أوكرانيا، وانتهاء بما يجري من مظاهر القتل والإبادة في عدد من مناطق العالم، التي غالبا ما شكلت مسرحا لحروب بالوكالة. إنه السياق الدولي المعقد و المخيف بحكم طبيعة التحولات العنيفة والخطيرة التي يمكن ردها في كليتها إلى صراع القوى الكبرى و تنافسها المحموم حول الأمن الطاقي والغذائي. غير أن ما يمكن أن نضيفه هو أن تداعيات التطورات المهولة لمكتسبات الثورة الرقمية، قد ساهمت بشكل كبير في توظيفها من طرف النظام النيو ليبرالي، دون أي اعتبار جدي للقيم و المبادئ الإنسانية الكونية.
وبالتالي، فإن إمكانية محاولة التفاعل مع رسائل الخطاب الملكي الموجه إلى القمة العربية، قد يقودنا إلى استجلاء بعض أبعادها السياسية _ الأخلاقية والإستراتيجية دوليا واقليميا. وعلى رأس هذه الأبعاد السياسية الموقف الإنساني والعملي اتجاه القضية الفلسطينية. بحيث دعا العاهل المغربي الملك محمد السادس بشكل حازم (إلى الوقف الفوري للعمليات العسكرية، في الضفة الغربية وقطاع غزة، والعودة إلى طاولة المفاوضات بهدف إحياء اتفاق الهدنة، في أفق الإعلان عن الوقف النهائي لإطلاق النار. مؤكدا أن استمرار العنف يضع المجتمع الدولي أمام تساؤلات أخلاقية وإنسانية خطير). كما ذكر بتقصير المؤسسات الدولية -المعنية بحقوق الإنسان، وإشاعة قيم السلم والعيش المشترك في ردع حكومة -اليمين المتطرف الاسرائيلي. و في هذا السياق لم يتردد جلالته في مساءلة المجتمع الدولي والرأي العام العالمي، حول المعايير الكونية والإنسانية التي يتم التعامل بها مع مأساة الشعب الفلسطيني الشقيق، وما يعانيه من انتهاكات جسيمة لأحكام القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، ولكافة مبادئ حقوق الإنسان.
الواقع هو أن دلالات الرسائل الملكية السياسية وأبعادها الاستراتيجية تجد صداها الواقعي بشكل واضح في واقع وطن عربي مثخن بالجروح والكبوات؛ أقل ما يقال عنه أن أحواله تخيفنا و أهواله ترعبنا، بعدما فككت أغلب دوله إلى كيانات سياسية هشة. وعليه نتساءل بجدية : هل يمكن إنكار حقيقة اشتغال آليات المؤامرة، القاضية بتخصيب مكونات البنى السوسيولوجية التقليدية لتكريس صراع الأقليات، من خلال نفث سموم الإحتراب الطائفي، العرقي، المذهبي والقبلي، بعدما تم تخصيبه في مفاعلات مدارس الإستشراق و بيوت الخبرة الغربية الاستعمارية؟ أو ليست مؤامرة استعمارية جديدة (ربيع الثورة العربي)، التي تهدف أساسا إلى الإضعاف الاقتصادي و الإنهاك السياسي، بهدف إدامة النهب و الهيمنة على مقدرات العالم العربي الطبيعية، و احتكار ممراته البحرية الدافئة في التجارة. و لعل ما عاشه العراق( الحرب العراقية الإيرانية1980-1988/ التحالف الغربي ضد احتلاله للكويت1991/ ثم حصار طويل ليتوج بالاحتلال في2003) لخير دليل على تفكك الدولة الوطنية، وتحولها إلى ما سماه /السوسيولوجي العراقي الألمعي ( فالح عبد الجبار) "اللادولة"، والذي يصف بشكل دقيق هذا المفهوم في التجربة العراقية "كنموذج مثال" يمكن تعميمه على ليبيا/ سوريا زمن الأسد واليمن، والذي يفيد على أنه مجموعة مختلفة، من القوى والجماعات من الميليشيات والأحزاب السياسية والجماعات الإجرامية والجماعات العشائرية المسلحة، والتي من مخرجاتها البغيضة الطائفية والدكتاتورية والثالوث المأساوي ( الفقر والأمية والمرض وصعوبة بناء الدولة الجديدة). للخروج من الصراع الداخلي وما بين الدول العربية عبر جلالته من خلال الفكرة التالية عن الرغبة في إرساء لغة الحوار ةو التعاون الاقتصادي: ( إن الظرفية الاستثنائية الدقيقة والعصيبة، التي تنعقد فيها هذه القمة الهامة، تستوجب توافر إرادة سياسية صادقة، تؤمن بالبناء المشترك).
وفي نفس سياق آليات التفتيت والعنف التي عرفتها دول الشرق، فقد انتقلت عدواها بشكل مضطرد إلى المغرب العربي. ولعل وقائع مثل الإحتراب الدولي في ليبيا بعد تفكيكها، وتحولها إلى حرب المليشيات، تلقائيا لخير دليل على صحة العدوى. ناهيك عن إجهاض الثورة التونسية مع سبق الإصرار و الترصد، وإعدام كل محاولات الانتقال الديمقراطي السلس. أما الجزائر فقد تعمق لديها عصاب الصحراء الشرقية و الغربية الأطلسية المغربية، لأنها بنت هويتها العسكرية القاتلة على سيكولوجية معاداة المغرب في وحدته السياسية و الروحية، مما حال دون تأسيس لبنات الدولة المدنية الديمقراطية. كما انها لم تستطع إخراج الشعب، من شبح ذكريات جروحه المثخنة جراء تجربة حرب أهلية (1990.2000) مروعة بدلالة دعوة (لامين زروال) إلى " المصالحة الوطنية" بعد نهاية الحرب الاهلية المشار اليها سابقا. أما آن الأوان لكي يستيقظ الوعي المغاربي من سباته التاريخي، لكي يستشعر حقيقة ما يسميه ديفيد آيك " نظرية المؤامرة" أو الاغتيال الاقتصادي؟ أما آن الأوان التصالح مع الذات والجار لبناء مستقبل واعد، لشعوب كثيرا ما عانت من سياسات خرائط المستعمر الغاشمة؟ أما آن الأوان لتكوين وتأهيل نخب مغاربية لخلق تواصل فكري و ثقافي؟ أليس إيجابيا فتح جسور التبادل الثقافي و الجامعي لتنزيل مشاريع فكرية ودراسة مؤلفات فلسفية وكتب علمية لباحثين مثقفين معتبرين ؟ ما العيب في فتح و تنشيط قنوات النقاش والحوار على مستوى الفضاء العمومي المغاربي؟
ها أنتم تنظرون أيها السادة والسيدات من محبي السلم والتعايش الى مسخ "تطبيقة استعمارية" (جبهة البوليساريو)، وقد عطلت مسار المغرب العربي اقتصاديا، ثقافيا و سياسيا، بالرغم من الموارد المشتركة الطبيعية و البشرية الواعدة. و قد تكون تلك الدمية (الجبهة الملعونة) وراء الاندفاع نحو حرب نحن في غنى عنها بدلالة الكلفة المادية و النفسية. إذ لا فائدة منها سوى خدمة مصالح متنفذي الاستعمار وتجار الحرب والأزمات. و في هذا السياق أكد جلالته في خطاب القمة 34 ببغداد (على ضرورة الالتزام بمبادئ حسن الجوار، واحترام السيادة الوطنية للدول ووحدتها الترابية، والامتناع عن التدخل في شؤونها الداخلية، واحتضان حركات انفصالية تبرأ منها التاريخ، ولم يعد لها مكان في ظل التغيرات والتطورات الدولية الراهنة) في ذكرى استعادة روح وحدة المغرب العربي.
يبقى المغرب موحدا بملكيته الدستورية التنموية، ومستعد لخدمة القضايا العربية، بحيث ورد في خطاب الملك محمد السادس (استعداد المغرب للانخراط الفاعل في كل مبادرة عربية صادقة تهدف إلى خدمة تطلعات الشعوب العربية نحو الأمن والازدهار، مشدداً على ثوابت السياسة الخارجية للمملكة، القائمة على التضامن والدفاع عن القضايا العربية العادلة). فرغم كون المغرب مطوقا من جميع الاتجاهات الجغرافية، فعلينا أن نتصرف كما يقول المثقف والمؤرخ المغربي الدكتور عبد الله العروي ( كسكان جزيرة ). إنه يستشرف مستقبلا أصعب قادما للمملكة في علاقتها بمحيطها الجغرافي والسياسي، فالعروي كان يلمح إلى أن الدول المحيطة بالمغرب ليست، بالضرورة، تريد له الخير، لذلك توجب عليه أن يتعامل مع قضاياه وكأنه وحيد ومعزول وبعيد عن أي مساندة.
كما يمكن أن نضيف على أن الأعداء لهم ما يكفي من المناعة، أما التحدي فيجب أن يتجه إلى تصليب الجبهة الداخلية، و توحيدها عبر تحالف تاريخي جديد بين الملكية و الشباب المغربي كنخب نابعة من رحم الشعب المغربي، و فاعلين تفكيرا و إبداعا لطي صفحات من الماض القريب، في أفق بناء روح وطنية جديدة. روح وطنية قادرة على انتشالنا من السجال السياسي الشعبوي العقيم و الجهر بعقيدة الوطنية النبيلة القائمة على التضحية ونكران الذات. كما لايفوتنا التنبيه إلى ضرورة توفير وتجويد الخدمات العمومية بالجدية الكافية، مع محاولات تهدئة الأوضاع الاجتماعية و الاقتصادية بمحاربة البطالة وتقليص كلفة المعيشة مع التشديد على حماية المال وإصلاح جذري لأسس التربية و التعليم.
وأخيرا ليس آخراً نقول نعم نعم للدولة ( المدنية الديمقراطية ) في الشرق و المغرب العربي لكونها أفضل الدول على صعيد التنمية السياسية والاقتصادية والتي تنتهج طريق الديمقراطية والمدنية، وهي دولة مواطنة قائمة على أساس المساواة والعدالة في الحقوق والواجبات ، تتأسس على أساس عدم خلط الدين في السياسة ويكون الشعب الركيزة المهمة في الدولة المدنية ، أي لا سلطة أعلى من سلطة الشعب، وتكون القاعدة الشبيهة للدولة المدنية واسعة ومتنوعة ولا يكون الولاء ( إلا ) للدولة كما يقول عالم الاجتماع فالح عبد الجبار .