أدى انتشار أدبيات التنمية السياسية، التي تأسست منذ ظهورها الأول في خمسينيات القرن الماضي على فكرة التحديث، التي تفرض إحداث تغييرات متكاملة في النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمعات المتخلفة، إلى تبلور علاقة جدلية بأبعاد ثلاثية تجمع بين التحديث والتنمية والاستقرار السياسي، حيث ركز أهم رواد هذه الأدبيات على ضرورة توافر الاستقرار السياسي، باعتباره مدخلا أساسيا لنجاح عملية التحديث في هذه المجتمعات، وبالتالي نجاح التنمية فيها.
على هذا الأساس، باتت عملية تحقيق التنمية الشاملة، رهينة بضرورة توافر شرط الاستقرار السياسي، بكل ما يعنيه من مؤشرات محددة في أدبيات التنمية السياسية، سيما بالنسبة للدول النامية، على اعتبار أنه غاية أساسية للديموقراطية، ومؤشر أساسي من مؤشرات الحكامة الجيدة، وبالتالي مقوم رئيسي من مقومات التنمية.
في هذا السياق، انخرط المغرب منذ استقلاله في العديد من الأوراش الإصلاحية المهيكلة، التي همت إحداث تغييرات جوهرية في بنية الدولة، وفي شكل وكيفية ممارسة السلطة فيها، بصورة تمحورت حول تكريس القواعد الديموقراطية، حيث تمثلت الغاية الأساسية من هذه الإصلاحات في تدعيم شرط الاستقرار السياسي بالبلد.
لكن تجدر الإشارة، أن المغرب تمتع تاريخيا بمستويات كبيرة من الاستقرار السياسي، بالرغم من أنه كان استقرارا بمؤشرات وتمثلات تختلف عما باتت تتطلبه أدبيات التنمية السياسية، حيث شكل توافر العديد من العوامل التاريخية، مرتكزات أساسية للاستقرار المغرب سياسيا، ولعل أبرز هذه العوامل التي شكلت ولاتزال تشكل أحد أهم مرتكزات الاستقرار السياسي في المغرب، تتمثل في خصوصية الشخصية المغربية، ومكانة المؤسسة الملكية، التي تحظى برمزية كبيرة في نفوس المغاربة، فكيف ساهم هاذين العاملين في تكريس الاستقرار السياسي بالمغرب، وفي إنجاح مجموع الإصلاحات التي هدفت إلى تدعيمه؟
للجواب على هاذين السؤالين، وجب الوقوف على طبيعة الشخصية المغربية، وعلى تجليات خصوصيتها، وأثرها في تكريس الاستقرار السياسي بالمغرب، كما يجب استحضار رمزية المؤسسة الملكية في المخيال الشعبي المغربي، وبيان العوامل المحددة لشرعيتها، والتي جعلتها تحتل مكانة رئيسية من داخل النظام السياسي المغربي، حتى صارت أحد أهم مرتكزات الاستقرار السياسي في المغرب.
في خصوصية الشخصية المغربية:
يرتهن الاستقرار السياسي خاصة في المجتمعات المعاصرة التي تعتبر مجتمعات مركبة، بتوافر مجموعة من المقومات الأساسية، التي لا يمكن تصور تحققه من دونها. ويشكل توافر الوحدة الوطنية في إطار هوية وطنية اندماجية، أحد أبرز هذه المقومات، نظرا لما تتيحه من إمكانية ليكون كل فرد في المجتمع مواطنا متساويا في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن لونه أو لسانه أو أفكاره ومعتقداته، حيث يكون أساس الولاء في المجتمع أو الأمة، هو مجموعة القيم المشتركة، التي تشكل هوية وشخصية لهذا المجتمع.
ذلك أن توافر هوية وطنية اندماجية، مدخل أساسي لضمان التجانس الثقافي والفكري، وتحقق شرط الاتفاق الوطني والوحدة الوطنية، وبالتالي احتواء مجموع الاختلافات التي من الممكن أن تنتج عن اختلاف الاتجاهات الفكرية والعقائدية والإثنية التي يحتوي عليها المجتمع الواحد، ما يجعلها شرطا رئيسيا لتوافر الاستقرار السياسي، الذي يرادف في معناه، معنى النظام أو الظرف العام الذي يتيح إمكانية تدبير الاختلاف، وهو ما لا يمكن أن يتحقق في هذه المجتمعات، إلا بحسن تدبير التعدد الفكري والثقافي الذي يميزها، في إطار هوية تعبر عن الشخصية الموحدة للمجتمع.
بالنسبة للمجتمع المغربي، فهو يعتبر مثالا حيا عن المجتمعات المركبة، ذلك أنه من بين أكثر المجتمعات المتعددة ثقافيا، حيث شكل تاريخيا قبلة للعديد من الأجناس والعرقيات والأديان، وهو ما أثر في تركيبته الاجتماعية، لكن هذا المعطى لم يمنع من قيام شخصية مغربية مستقلة، وهو ما يتضح بجلاء في عدم تبعية المغاربة لسلطة أي دولة غير دولتهم، إذ ظل حكم المغرب في يد المغاربة وتحت قيادة ملوكهم، سواء قبل الفتح الإسلامي، أو بعده، وحتى خلال فترة الحماية وما تلاها.
لقد شكلت طبيعة الشخصية المغربية تاريخيا أحد أهم مقومات الوحدة الوطنية، وبالتالي أحد أبرز مرتكزات الاستقرار السياسي والاجتماعي بالمغرب، أولا لتنوع عناصرها المشكلة لها، والمتمثلة في الدين، اللغة والوطن، وثانيا لتكامل هذه العناصر وانصهارها بشكل جماعي لتشكل هوية خاصة بالمغرب، وبشكل يجعلها مميزة حتى على بعض الهويات القريبة جدا منها.
هكذا فإن خصوصية الشخصية المغربية، تتمثل في تنوع وترابط العناصر المكونة لها، والتي عرفت تطورا مهما نتيجة لتراكم تداخل العديد من الثقافات التي انتشرت في البلاد على مر التاريخ، كالثقافة الأمازيغية والثقافة الإسلامية والعربية، والثقافة الإفريقية والغربية، لتنصهر جميعها لتشكل هوية واحدة، شكل الدين الإسلامي حجر الرحى فيها، خصوصا أنه تميز دائما بالانفتاح والتسامح مع باقي المعتقدات الدينية.
في هذا السياق، فإن التاريخ يسجل للمغاربة، أنهم كانوا دائما منفتحين متسامحين في معتقداتهم الدينية، سواء قبل الفتح الإسلامي، حيث عرف المغرب امتزاجا بين الوثنية واليهودية والمسيحية، أو بعد إسلامهم، وهو ما ظهر في تعاملهم مع مسيحيي الأندلس عند فتحها، وهو ما يظهر كذلك في طريقة التدين الخاصة بهم إلى اليوم.
ومن جهة أخرى، فبالرغم من الأصل الأمازيغي للمغاربة، ما يجعلهم ناطقين باللغة الأمازيغية، إلا أنهم تكلموا العديد من اللغات الأخرى التي انتشرت في أوساطهم، كاللاتينية التي انتشرت مع انتشار المسيحية في البلاد، ثم العربية التي شاعت مع اعتناق المغاربة للإسلام، حيث تمازجت باعتبارها لغة دين المغاربة مع لسانهم الأصلي، لتتشكل قواعد وتراكيب اللهجة الدارجة التي تعكس بشكل جلي مستويات انفتاح وتعدد الشخصية المغربية.
ولئن كان مضمون الهوية المغربية، إلى حدود مرحلة الحماية، مضمونا دينيا روحيا بأبعاد متعددة، تتمثل في السلطان، الشرف، البركة، والزاوية، حيث شكلت المؤسسة الملكية كسلطة رمزية تشبت بها المغاربة منذ تأسيس أول دولة إسلامية في المغرب، رمزا لوحدة المجتمع المغربي، إلا أن مكونات الحركة الوطنية قد تمكنت من إضافة بعد جديد للشخصية المغربية، وهو بعد الوطنية، أي الانتماء الجماعي للوطن الواحد، ولكن على قاعدة الدفاع عن الإسلام دائما، حيث كانت تعبئة الشعب المغربي ضد الاستعمار غالبا ما تتم بعنوان الدفاع عن الإسلام وصيانة الدولة الإسلامية في المغرب، وهو ما أدى إلى استمرار حضور البعد الديني والروحي عند المغاربة، حتى بعد الاستقلال، وبعد إقامة الدولة الوطنية، إذ نتج عن استمرار هذا الحضور، استمرار رمزية أبعاد الشخصية المغربية التي ميزت المغاربة قبل فترة الحماية، ولاسيما رمزية المؤسسة الملكية، التي شكلت رديفا للإسلام في عملية صيانة الوحدة الوطنية.
في مكانة المؤسسة الملكية:
ساهمت خصوصية الشخصية المغربية، والتي يعتبر الدين الإسلامي أحد أهم مكوناتها، بشكل كبير في تعزيز رمزية وشعبية المؤسسة الملكية بالنسبة للشعب المغربي، وفي تكريس موقعها المركزي بالنسبة لبنية النظام السياسي المغربي، حيث كانت المؤسسة الملكية وما تزال تعتبر أهم المؤسسات في الدولة المغربية.
إن هذه الرمزية والمكانة التي تتمتع بهما المؤسسة الملكية، هي نتاج للعديد من الشرعيات التاريخية التي تم تدعيمها بشرعيات جديدة، حيث تتمثل الشرعيات التاريخية في الشرعية الدينية، الموروثة عن نظام السلطنة الذي جرى تكريسه على الأقل خلال عهد الدولة السعدية، بينما تتجسد الشرعيات الجديدة، في كل من الشرعية الوطنية المؤسسة على كفاح المغفور له الملك محمد الخامس ومعه ولي العهد آنذاك المغفور له الحسن الثاني، إلى جانب مكونات الحركة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي والإسباني، والشرعية الديموقراطية الدستورية، المتعلقة بالمكانة السامية التي احتلتها المؤسسة الملكية في النظام الدستوري المغربي، منذ أول دستور جرى اعتماده سنة 1962، وهو ما جعلها تضطلع بأدوار رئيسية فيما يتعلق بالحرص على ضمان الوحدة الوطنية وبالتالي توافر شرط الاستقرار السياسي والاجتماعي بالمغرب.
لقد تمتعت المؤسسة الملكية في المغرب تاريخيا برمزية خاصة وبشعبية كبيرة، يرجع السبب الرئيس فيها إلى المكانة الدينية التي يحتلها الملك، والتي جعلته رمزا لوحدة المغرب ولاستمراريته كدولة مستقلة، في هذا الإطار، يسجل التاريخ أنه حتى في المرحلة التي تعرف عند المؤرخين بعهد السيبة في المغرب، والتي تميزت بتمرد العديد من القبائل، وامتناعها عن دفع الضرائب، إلا أن هذه المرحلة لم تكن تحيل إلى تفكك الدولة المغربية، ذلك أن هذه القبائل لم تنكر المكانة الروحية للسلطان، باعتباره وليا للأمر وأميرا للمؤمنين.
هكذا، فقد كان للمكانة الروحية والرمزية التي حظي بها السلاطين والملوك بين المغاربة، دور كبير في تكريس موقع المؤسسة الملكية داخل النظام السياسي المغربي، وجعلها الفاعل السياسي الأول والرئيسي، المستند على مجموعة من الشرعيات.
فالمغاربة لا ينظرون إلى الملك باعتباره رئيسا للدولة فقط، بل هو أمير لهم، وإمامهم، وولي شؤونهم، المدعوم بشرعية وطنية، على اعتبار أنه حفيد المغفور له الملك محمد الخامس، الذي ارتبط حكمه بالكفاح من أجل استقلال المغرب عن الاستعمار، وهي الشرعية التي تعززت بالمجهود الوطني الذي يقوده من أجل حماية وتحصين الوحدة الترابية للمغرب.
هكذا، فإن مستويات الاستقرار السياسي الذي ينعم به المغرب، راجعة إلى توافر العديد من العوامل التي شكلت متطلبات لتوافره كشرط وكظرف عام، مكن المغرب من استيعاب مجموع الأوراش الإصلاحية التي انخرطت فيها البلاد، لاسيما خلال العقود الثلاثة الأخيرة، حيث تمثل طبيعة الشخصية المغربية، التي يشكل الدين الإسلامي أحد أهم عناصرها، والمنفتحة والمقتنعة بأهمية استمرار المغرب كوطن يجمع جميع المغاربة، باختلاف انتماءاتهم الفكرية والثقافية والإثنية، ومكانة المؤسسة الملكية المعززة بالعديد من الشرعيات التاريخية والحديثة، التي تعتبر الشرعية الدينية أساسها وعلتها، أبرز هذه العوامل. حيث كان لهذين العاملين أثر كبير في ضمان وتعزيز الوحدة الوطنية، التي جنبت البلاد مخاطر عديدة في محطات تاريخية صعبة مختلفة، كما كان لهما دور كبير في جعل المغرب يستوعب ويُنجح مسارات التغيير من دون أي آثار جانبية تهدد استمراره وتماسكه كدولة موحدة.