هل نستطيع أن ننسى أن الفساد يفتك ببلادنا بدون هوادة، وأنه يبرهن باستمرار على أن له صلاحيات واسعة في كل القطاعات والمؤسسات؟ هل نستطيع أن نتغافل أن قاعدة الفساد تتسع، وأن الأرض بدأت تضيق بأولئك الذين أخذوا على عاتقهم إدارة شؤون النزاهة والعدالة وتكافؤ الفرص، لأن الفساد أصبح قوة مدمرة لم تستثن حتى المؤسسات الجامعية؟
كثيرا ما يلتبس الأمر على المراقبين، فيسقطون في عمومية تأطير حدود الفساد الذي اكتسب نفوذا رمزيا وامتيازا ماديا غير مسبوق، حتى تناسلت الأسئلة واسْتُشْكِلَت التصنيفات: ما هو معيار الفساد؟ ما موقعه في مكونات الوعي العام؟ هل هو حكر على فئة اجتماعية معينة؟ هل هو دخيل عن النسق السياسي القائم؟ هل أصبح بنية متكاملة من القيم والمبادئ والأفكار والمعتقدات؟ هل أصبحت له وظائف عملية للترقي السياسي والاجتماعي والاقتصادي؟ ما هو «المشروع» الذي يدافع عنه الفساد؟ وهل بوسع الفساد أن يتنازل عن مصالحه الفئوية، خاصة أنه أصبح يساهم بقدر كبير في تسيير الشؤون العامة؟
في مقال كتبه الأكاديمي الأمريكي المتخصص في الشؤون المغربية، جون واتربوري، (نشره عام 1973)، أكد أن «الفساد في المغرب يطفو بحرية ويتم التلاعب به وتوجيهه والتخطيط له والرغبة فيه». غير أن المثير للانتباه أنه رغم كل هذه السنوات «أكثر من نصف قرن» ما زال القوس لم يغلق بعد، بل يتجدد باستمرار ويطرح الأسئلة نفسها. إذ كلما انفجرت قضية جديدة تتعلق بالفساد يرجع المحللون السياسيون والاجتماعيون الأمر إلى حدوث تغيير اجتماعي بنيوي محتمل حمل معه بروز فئة من الفاسدين، وأن نفوذ هؤلاء ارتبط بتشوه في العمل الحزبي أو بانحراف في مؤسسات اقتصادية وإدارية «والآن في مؤسسات جامعية مع انفجار السمسرة في شهادات الماستر والدكتوراه» يستمد طرق عمله من «المافيا»، ويتقيد بها إدارة وتسييرا، مما سرع وتيرة بناء نظام شامل يرتكز على الرشوة والمحسوبية والاستزلام، مما أفضى في نهاية الأمر إلى استئثارها بالساحة السياسية وهيمنتها على أهم الوظائف داخل المجتمع. فما هي أسباب «فينيقة» الفساد؟ وما هي الجهات الساهرة على إبقائه على قيد العمل بنشاط؟
لقد أصبح الفساد قوة ضارية بوجود بيئة ملائمة تتيح له السعي إلى الهيمنة على السلطة في كل تجلياتها التشريعية والتنفيذية والقضائية والاقتصادية والسياسية والجامعية، وما نعاينه حاليا هو أن الفساد ثقيل وهيكلي ومنظم، مما يعطل ويعرقل الرقابة السياسية والقانونية التي من المفترض أن تكافحه وتحد منه. إنه ليس هامشي أو قصير الأمد وتحت السيطرة، بل إن بعض أوجهه تُمارس بكل ثقة وهدوء، مما يزكي تراجع مجالات القانون لصالح ترتيبات الظل التي تتغذى على نفسها وتتغلغل في النسيج الاقتصادي والاجتماعي، إذ يتم التعبير عن رفض الفساد واستنكاره عبر وسائل الإعلام، وفي الندوات الفكرية والملتقيات الأكاديمة واللقاءات المدنية، لكن العكس هو ما يقع في السلوك اليومي للكثير من المغاربة، بل يتم تبرير استخدامه والدفاع عنه وتقديم المنخرطين فيه كأبطال في استغلال القانون والتحايل عليه، وعباقرة في «العصامية» والترقي الاجتماعي الانتهازي، وهو ما يؤثر بشكل عشوائي على جميع مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والمؤسسية، إذ تحولت «الانتهازية» والسمسرة غير المشروعة والتسلق إلى قيم غير متنازع على فضائلها. ومعنى ذلك أن هناك تسامحا اجتماعيا «إن لم نقل تواطؤا» كبيرا جدًا مع الفساد، متأثرًا بشعور واسع النطاق بالإفلات من العقاب وعدم المساواة بين المواطنين أمام القانون.
يُنتج هذا السياق، إذن، بيئة مناسبة لتفشي مظاهر الفساد بأنواعه المختلفة، من رشوة ومحاباة وزبونية والاتجار غير المشروع في كل شيء، مما يؤثر بشكل مباشر على جودة الخدمات المقدمة للمواطنين، وعلى أداء المؤسسات العمومية، وعلى الشهادات الجامعية. ذلك أن معظم القطاعات تكاد تعيش وضعية انحصار وتأزم، ويكفي أن نذكر قضية «الفراقشية» و«تحايل شركات المحروقات» و«تواطؤ وزارة الفلاحة على الفلاحة والفلاحين والماء» والمعضلة الصحية والدوائية، واللحوم الفاسدة.. إلخ، الأمر الذي انعكس سلبًا على الثقة التي يوليها المواطنون لمؤسسات تتحكم في قطاعات حيوية مثل القضاء، والصحة، والعقار والتربية والتكوين. وضمن هذه المؤسسات، تبرز، في اللحظة الراهنة، الجامعة كمؤسسة أساسية يُفترض أن تكون منارة للمعرفة، والتنوير، وبناء القدرات الوطنية، وإنتاج «إدارة» و«إنسان» و«رهانات» الغد، لكنها في الواقع ليست بمنأى عن تأثيرات الفساد العام. فالجامعة المغربية، التي تمثل الركيزة الأساسية لإعداد النخب والمساهمة في التنمية، باتت، كما تؤكد مجموعة من التقارير، تواجه واقعًا معقدًا يتمثل في اختلالات بنيوية تتغذى من الفساد المتفشي. ففي داخل الحرم الجامعي، تتجلى مظاهر الفساد في عدة مستويات: «فساد التسيير الإداري» حيث تُدار الموارد المالية والبشرية وفق منطق الزبونية والمحسوبية؛ فساد التعيينات والترقيات: إذ تستند قرارات التوظيف والترقية إلى غير الكفاءة الأكاديمية والتأهيل العلمي؛ الفساد الأكاديمي: مثل السرقات الفكرية، وبيع النقط، والتساهل في المعايير الأكاديمية؛ الابتزاز والاستغلال: هناك شكاوى من ممارسات ابتزازية في بعض الكليات، تستهدف الطلبة والموظفين). غير أننا مع ذلك، لا ينبغي أن ننسى أن هناك وجوها مشرقة في جامعاتنا ما زالت تصنع بعض «النور» باستقامتها ونزاهتها وكرم أخلاقها ومستواها العلمي والأكاديمي الذي لا يقبل الطعن.
على المستوى العام، لا يمكن تجاهل أن يتطلب الفساد مراحل ووساطات، وأن أكبر العوامل المنتجة له هي انتفاء مركزية القيم، فضلا عن غياب آليات المحاسبة الفعالة والمستقلة وعدم وجود شفافية في عمليات التسيير، فضلا عن تحول المناصب الإدارية إلى مكافآت حزبية أو نقابية «نظام الامتيازات»، بعيدًا عن المعايير المهنية والعلمية والوظيفية، وعدم حماية المبلغين عن الفساد، إضافة إلى انتشار ثقافة اجتماعية تُشرّع للزبونية والريع، مما يُسهل استمرارية وهيمنة هذه الممارسات.
إن هذا هو ما يفسر بالفعل استمرار الفساد رغم وجود مؤسسات رقابية «النيابة العامة؛ المجلس الأعلى للحسابات؛ المفتشيات العامة، الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة، مجلس المنافسة.. إلخ...»، مما يوضح أن المشكلة ليست في نقص المؤسسات، بل في خلل وظيفي وانفصالها عن مفهوم الفاعلية والمساءلة الحقيقية. فوجود هذه الهيئات يعكس إدراكًا رسميًا بأن الفساد قضية ملحة، لكن نتائجها تظل محدودة بسبب غياب إرادة سياسية حقيقية، وانتقائية تطبيق العدالة التي تستهدف الصغار دون الكبار، وتعقيدات بيروقراطية تجعل الرشوة حلاً عمليًا في نظر المواطن، مما يكشف عن اختلال في البناء الاجتماعي.
إن تفجير قضية السمسرة في الشهادات الجامعية على سبيل المثال، وملاحقة المسؤول عنها، لا تكفي إطلاقا لتحصين الجامعة المغربية من الفاسدين والسماسرة، كما أن اعتقال الفاسدين والتحقيق معهم قضائيا لا تمنحنا أي شهادة على طهارتنا من الفساد وحسن سيرتنا وسلوكنا. بل إن «السلطة القضائية» نفسها لن تنجح في مهمة جسيمة وشاهقة مثل هذه ما لم تكن بالفعل خالية من الحلقات القابلة للتدخل غير المشروع، وخالية من نظام القفز على القواعد القانونية..
إن مشكلات الفساد في المغرب ما زالت تثير مخاوف جدية على المستقبل، كما كانت تثيرها في الماضي، ليس على المستوى القضائي أو التشريعي فحسب، بل على مستوى «الكثافة القوية» التي أصبحت للفساد في الأجهزة والمؤسسات، سواء أكانت إدارية أم حزبية أم عمومية، إذ أثبت الفساد، في كل المراحل، وفي العديد من المحطات والقضايا، أنه يجيد إبرام تسويات مع النخبة السياسية، بل أيضا مع وجوه من الإدارة الترابية، ومع فئات من النخبة الاقتصادية، ناهيك عن وجوه من القضاء، وذلك ببناء دعم شخصي للفاسدين، الأمر الذي يمكنهم من استغلال اقتصاد الدولة ومؤسساتها مقابل عمولات مهمة تسمح لهذه النخب بحماية مكاسبها ومصالحها، مما أسفر، في الوقت الراهن، عن ظهور كتلة سامة من النفوذ المطبوع بالفساد بعد وصول الفاسدين إلى مراكز السلطة، على مستوى التمثيلية البرلمانية، أو على مستوى التدبير الجماعي، بل على مستوى تدبير مجموعة من المؤسسات العمومية الحيوية.
إن محاربة الفساد من هذا المنطلق لن تتحقق إلا بمجموعة من الإجراءات التي بنبغي الانكباب عليها على وجه الاستعجال، ولعل أهمها على وجه الإطلاق، إعادة النظر في سلم القيم، ووضع السياسات التربوية والتعليمية والقانونية في خدمة هذا السلم، إضافة إلى تفعيل مؤسسات الرقابة، ودعم استقلالية القضاء في محاسبة المخالفين دون تسييس أو انتقائية، وإخراج قانون «الإفلات من العقاب» و«الإثراء غير المشروع»، واعتماد آليات التقييم الموضوعي للأداء والتسيير، فضلا عن إعادة هيكلة طرق تعيين المسؤولين عن طريق دمقرطة المساطر وتعزيز الشفافية، ثم حماية المبلغين والشهود في قضايا الفساد بقوانين واضحة وآمنة، ودعم حق جمعيات المجتمع المدني في حماية المال العام، وتشجيع الصحافة الاستقصائية والبحث الأكاديمي الجريء لرصد الاختلالات وتفكيكها، ناهيك عن إحداث مرصد حيوي للنزاهة، وتثمين دور النزهاء في كل القطاعات ..
كثيرا ما يلتبس الأمر على المراقبين، فيسقطون في عمومية تأطير حدود الفساد الذي اكتسب نفوذا رمزيا وامتيازا ماديا غير مسبوق، حتى تناسلت الأسئلة واسْتُشْكِلَت التصنيفات: ما هو معيار الفساد؟ ما موقعه في مكونات الوعي العام؟ هل هو حكر على فئة اجتماعية معينة؟ هل هو دخيل عن النسق السياسي القائم؟ هل أصبح بنية متكاملة من القيم والمبادئ والأفكار والمعتقدات؟ هل أصبحت له وظائف عملية للترقي السياسي والاجتماعي والاقتصادي؟ ما هو «المشروع» الذي يدافع عنه الفساد؟ وهل بوسع الفساد أن يتنازل عن مصالحه الفئوية، خاصة أنه أصبح يساهم بقدر كبير في تسيير الشؤون العامة؟
في مقال كتبه الأكاديمي الأمريكي المتخصص في الشؤون المغربية، جون واتربوري، (نشره عام 1973)، أكد أن «الفساد في المغرب يطفو بحرية ويتم التلاعب به وتوجيهه والتخطيط له والرغبة فيه». غير أن المثير للانتباه أنه رغم كل هذه السنوات «أكثر من نصف قرن» ما زال القوس لم يغلق بعد، بل يتجدد باستمرار ويطرح الأسئلة نفسها. إذ كلما انفجرت قضية جديدة تتعلق بالفساد يرجع المحللون السياسيون والاجتماعيون الأمر إلى حدوث تغيير اجتماعي بنيوي محتمل حمل معه بروز فئة من الفاسدين، وأن نفوذ هؤلاء ارتبط بتشوه في العمل الحزبي أو بانحراف في مؤسسات اقتصادية وإدارية «والآن في مؤسسات جامعية مع انفجار السمسرة في شهادات الماستر والدكتوراه» يستمد طرق عمله من «المافيا»، ويتقيد بها إدارة وتسييرا، مما سرع وتيرة بناء نظام شامل يرتكز على الرشوة والمحسوبية والاستزلام، مما أفضى في نهاية الأمر إلى استئثارها بالساحة السياسية وهيمنتها على أهم الوظائف داخل المجتمع. فما هي أسباب «فينيقة» الفساد؟ وما هي الجهات الساهرة على إبقائه على قيد العمل بنشاط؟
لقد أصبح الفساد قوة ضارية بوجود بيئة ملائمة تتيح له السعي إلى الهيمنة على السلطة في كل تجلياتها التشريعية والتنفيذية والقضائية والاقتصادية والسياسية والجامعية، وما نعاينه حاليا هو أن الفساد ثقيل وهيكلي ومنظم، مما يعطل ويعرقل الرقابة السياسية والقانونية التي من المفترض أن تكافحه وتحد منه. إنه ليس هامشي أو قصير الأمد وتحت السيطرة، بل إن بعض أوجهه تُمارس بكل ثقة وهدوء، مما يزكي تراجع مجالات القانون لصالح ترتيبات الظل التي تتغذى على نفسها وتتغلغل في النسيج الاقتصادي والاجتماعي، إذ يتم التعبير عن رفض الفساد واستنكاره عبر وسائل الإعلام، وفي الندوات الفكرية والملتقيات الأكاديمة واللقاءات المدنية، لكن العكس هو ما يقع في السلوك اليومي للكثير من المغاربة، بل يتم تبرير استخدامه والدفاع عنه وتقديم المنخرطين فيه كأبطال في استغلال القانون والتحايل عليه، وعباقرة في «العصامية» والترقي الاجتماعي الانتهازي، وهو ما يؤثر بشكل عشوائي على جميع مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والمؤسسية، إذ تحولت «الانتهازية» والسمسرة غير المشروعة والتسلق إلى قيم غير متنازع على فضائلها. ومعنى ذلك أن هناك تسامحا اجتماعيا «إن لم نقل تواطؤا» كبيرا جدًا مع الفساد، متأثرًا بشعور واسع النطاق بالإفلات من العقاب وعدم المساواة بين المواطنين أمام القانون.
يُنتج هذا السياق، إذن، بيئة مناسبة لتفشي مظاهر الفساد بأنواعه المختلفة، من رشوة ومحاباة وزبونية والاتجار غير المشروع في كل شيء، مما يؤثر بشكل مباشر على جودة الخدمات المقدمة للمواطنين، وعلى أداء المؤسسات العمومية، وعلى الشهادات الجامعية. ذلك أن معظم القطاعات تكاد تعيش وضعية انحصار وتأزم، ويكفي أن نذكر قضية «الفراقشية» و«تحايل شركات المحروقات» و«تواطؤ وزارة الفلاحة على الفلاحة والفلاحين والماء» والمعضلة الصحية والدوائية، واللحوم الفاسدة.. إلخ، الأمر الذي انعكس سلبًا على الثقة التي يوليها المواطنون لمؤسسات تتحكم في قطاعات حيوية مثل القضاء، والصحة، والعقار والتربية والتكوين. وضمن هذه المؤسسات، تبرز، في اللحظة الراهنة، الجامعة كمؤسسة أساسية يُفترض أن تكون منارة للمعرفة، والتنوير، وبناء القدرات الوطنية، وإنتاج «إدارة» و«إنسان» و«رهانات» الغد، لكنها في الواقع ليست بمنأى عن تأثيرات الفساد العام. فالجامعة المغربية، التي تمثل الركيزة الأساسية لإعداد النخب والمساهمة في التنمية، باتت، كما تؤكد مجموعة من التقارير، تواجه واقعًا معقدًا يتمثل في اختلالات بنيوية تتغذى من الفساد المتفشي. ففي داخل الحرم الجامعي، تتجلى مظاهر الفساد في عدة مستويات: «فساد التسيير الإداري» حيث تُدار الموارد المالية والبشرية وفق منطق الزبونية والمحسوبية؛ فساد التعيينات والترقيات: إذ تستند قرارات التوظيف والترقية إلى غير الكفاءة الأكاديمية والتأهيل العلمي؛ الفساد الأكاديمي: مثل السرقات الفكرية، وبيع النقط، والتساهل في المعايير الأكاديمية؛ الابتزاز والاستغلال: هناك شكاوى من ممارسات ابتزازية في بعض الكليات، تستهدف الطلبة والموظفين). غير أننا مع ذلك، لا ينبغي أن ننسى أن هناك وجوها مشرقة في جامعاتنا ما زالت تصنع بعض «النور» باستقامتها ونزاهتها وكرم أخلاقها ومستواها العلمي والأكاديمي الذي لا يقبل الطعن.
على المستوى العام، لا يمكن تجاهل أن يتطلب الفساد مراحل ووساطات، وأن أكبر العوامل المنتجة له هي انتفاء مركزية القيم، فضلا عن غياب آليات المحاسبة الفعالة والمستقلة وعدم وجود شفافية في عمليات التسيير، فضلا عن تحول المناصب الإدارية إلى مكافآت حزبية أو نقابية «نظام الامتيازات»، بعيدًا عن المعايير المهنية والعلمية والوظيفية، وعدم حماية المبلغين عن الفساد، إضافة إلى انتشار ثقافة اجتماعية تُشرّع للزبونية والريع، مما يُسهل استمرارية وهيمنة هذه الممارسات.
إن هذا هو ما يفسر بالفعل استمرار الفساد رغم وجود مؤسسات رقابية «النيابة العامة؛ المجلس الأعلى للحسابات؛ المفتشيات العامة، الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة، مجلس المنافسة.. إلخ...»، مما يوضح أن المشكلة ليست في نقص المؤسسات، بل في خلل وظيفي وانفصالها عن مفهوم الفاعلية والمساءلة الحقيقية. فوجود هذه الهيئات يعكس إدراكًا رسميًا بأن الفساد قضية ملحة، لكن نتائجها تظل محدودة بسبب غياب إرادة سياسية حقيقية، وانتقائية تطبيق العدالة التي تستهدف الصغار دون الكبار، وتعقيدات بيروقراطية تجعل الرشوة حلاً عمليًا في نظر المواطن، مما يكشف عن اختلال في البناء الاجتماعي.
إن تفجير قضية السمسرة في الشهادات الجامعية على سبيل المثال، وملاحقة المسؤول عنها، لا تكفي إطلاقا لتحصين الجامعة المغربية من الفاسدين والسماسرة، كما أن اعتقال الفاسدين والتحقيق معهم قضائيا لا تمنحنا أي شهادة على طهارتنا من الفساد وحسن سيرتنا وسلوكنا. بل إن «السلطة القضائية» نفسها لن تنجح في مهمة جسيمة وشاهقة مثل هذه ما لم تكن بالفعل خالية من الحلقات القابلة للتدخل غير المشروع، وخالية من نظام القفز على القواعد القانونية..
إن مشكلات الفساد في المغرب ما زالت تثير مخاوف جدية على المستقبل، كما كانت تثيرها في الماضي، ليس على المستوى القضائي أو التشريعي فحسب، بل على مستوى «الكثافة القوية» التي أصبحت للفساد في الأجهزة والمؤسسات، سواء أكانت إدارية أم حزبية أم عمومية، إذ أثبت الفساد، في كل المراحل، وفي العديد من المحطات والقضايا، أنه يجيد إبرام تسويات مع النخبة السياسية، بل أيضا مع وجوه من الإدارة الترابية، ومع فئات من النخبة الاقتصادية، ناهيك عن وجوه من القضاء، وذلك ببناء دعم شخصي للفاسدين، الأمر الذي يمكنهم من استغلال اقتصاد الدولة ومؤسساتها مقابل عمولات مهمة تسمح لهذه النخب بحماية مكاسبها ومصالحها، مما أسفر، في الوقت الراهن، عن ظهور كتلة سامة من النفوذ المطبوع بالفساد بعد وصول الفاسدين إلى مراكز السلطة، على مستوى التمثيلية البرلمانية، أو على مستوى التدبير الجماعي، بل على مستوى تدبير مجموعة من المؤسسات العمومية الحيوية.
إن محاربة الفساد من هذا المنطلق لن تتحقق إلا بمجموعة من الإجراءات التي بنبغي الانكباب عليها على وجه الاستعجال، ولعل أهمها على وجه الإطلاق، إعادة النظر في سلم القيم، ووضع السياسات التربوية والتعليمية والقانونية في خدمة هذا السلم، إضافة إلى تفعيل مؤسسات الرقابة، ودعم استقلالية القضاء في محاسبة المخالفين دون تسييس أو انتقائية، وإخراج قانون «الإفلات من العقاب» و«الإثراء غير المشروع»، واعتماد آليات التقييم الموضوعي للأداء والتسيير، فضلا عن إعادة هيكلة طرق تعيين المسؤولين عن طريق دمقرطة المساطر وتعزيز الشفافية، ثم حماية المبلغين والشهود في قضايا الفساد بقوانين واضحة وآمنة، ودعم حق جمعيات المجتمع المدني في حماية المال العام، وتشجيع الصحافة الاستقصائية والبحث الأكاديمي الجريء لرصد الاختلالات وتفكيكها، ناهيك عن إحداث مرصد حيوي للنزاهة، وتثمين دور النزهاء في كل القطاعات ..