Tuesday 16 December 2025
كتاب الرأي

عثمان بن شقرون: أخلاقيات الترجمة والسطو النصي

عثمان بن شقرون: أخلاقيات الترجمة والسطو النصي عثمان بن شقرون
لم تعد الترجمة، في التصورات الحديثة، مجرّد نقل آلي من لغة إلى أخرى، بل أضحت فعل كتابة ثانية، لها شروطها الجمالية وأعباؤها الأخلاقية. فالمترجم لا يعمل على نص خام، بل على عالم متكامل من التجربة والذاكرة والأسلوب، يقتضي منه زمنًا، وحدسًا، وتقمصًا دقيقًا لصوت الكاتب. ومن هنا، فإن أي تعامل مع الترجمة خارج هذا الأفق إنما هو مساس مباشر بجوهر العمل الثقافي. هذا المساس لا يقوّض الجهود الفردية فحسب، بل يهدد منظومة الثقة التي يقوم عليها حقل الإنتاج المعرفي برمته.
 
من حين إلى آخر، تُثار في الحقل الثقافي، إشكالات تتعلّق بملكية النصوص المترجمة، وبحدود ما يجوز وما لا يجوز في إعادة استعمالها أو التصرف فيها. ويزداد هذا الإشكال تعقيدًا حين تكون الترجمة ثمرة اتفاق غير موثق، لكنه قائم على الثقة المهنية، وعلى ما يُفترض أنه تعاقد أخلاقي قبل أن يكون قانونيًا.
 
إن النص المترجم، حتى في غياب عقد مكتوب، لا يفقد صفته كعمل مستقل، يحمل بصمة مترجمه وأسلوبه، وخياراته التعبيرية. ذلك أن الأسلوب الترجماتي، مهما حاول صاحبه أو غيره تمويهه، يظل قابلًا للتعرّف، شأنه في ذلك شأن البصمة أو الأثر الذي لا يُمحى.
 
حول البصمة الأسلوبية والملكية الفكرية
إن هذه "البصمة الأسلوبية" لا تعدو كونها إضافة عابرة، بل هي التجسيد الملموس لعملية التأويل. ودليل الموثوقية والحيازة الفكرية. إذ يُشتق الطابع الاستقلالي للترجمة من مجموعة من القرارات الحساسة التي يتخذها المترجم في مواجهة النص الأصلي. يظهر هذا الاستقلال في الخيارات المعجمية الدقيقة، حيث يختار المترجم مفردة محددة من بين عدة مرادفات متاحة، وهذا الاختيار يحمل عبئًا دلاليًا وتأويليًا. كذلك الحال بالنسبة لإيقاع الجملة وبنيتها. فالمترجم هو من يقرر إعادة تشكيل بنية الجمل في اللغة الهدف، مانحًا النص الجديد إيقاعًا خاصًا قد يختلف كليًا عن إيقاع المصدر. وصولا إلى التعامل مع الكثافة الثقافية، مثل قرار شرح مصطلح ثقافي في الهامش، أو البحث عن مقابل وظيفي له في اللغة الهدف.
 
هذه التراكمات من الخيارات تحوّل الترجمة من مجرد نقل آلي إلى تأويل خلاق وأصيل يضفي قيمة معرفية وجمالية فريدة. لذا، فمن الناحية القانونية، تُعتبر الترجمة "عملًا اشتقاقيًا" والمترجم يمتلك حقوق النشر الخاصة بصيغته هذه، ويجب الإشارة إليه والالتزام بذلك الحق كجزء أساسي من الاعتراف بقيمة الجهد التأويلي والتحويلي المبذول.
 
حول التأويل وسلطة الكاتب
إن ما يعقّد العلاقة بين المترجم والنص الأصلي ليس غياب العقد فحسب، بل التوتر المعرفي الكامن بين الأمانة والتأويل. في الحقل النظري، غالبًا ما يُنظر إلى الترجمة من زاوية الأمانة، أي مدى "عدم خيانة" المترجم للنص الأصلي. لكن، الترجمة في جوهرها هي قراءة نقدية وتأويل جديد؛ فالمترجم، بالضرورة، يمارس عملية اختيار وتفسير للمدلولات التي قد تكون مفتوحة أو غامضة في النص المصدر. هذا يقودنا إلى إشكالية سلطة الكاتب. الكاتب الأصلي غالبًا ما ينظر إلى نصه باعتباره كيانًا "مُطلقًا" أو نهائيًا، يحوي معناه الكامل الذي لا يجب المساس به. بينما يرى المترجم النص كـ "مادة قابلة للتحويل"، تتطلب تعديلات وإعادة صياغة لتتلاءم مع منطق وثقافة اللغة الهدف. إن سوء الفهم هذا ينبع من الفشل في إدراك أن ترجمة النص هي بمثابة إعطائه حياة ثانية في سياق لغوي وثقافي جديد. وعندما يُسمح بالسطو النصي، فإن ما يُنتهك ليس الكلمات المنقولة فحسب، بل حق المترجم في ممارسة هذا التأويل الجريء والأسلوبي، وهو ما يفرغ الترجمة من قيمتها المعرفية كعمل إبداعي مستقل.
 
لا يقتصر السطو النصي على النقل الحرفي أو النسخ المباشر، بل قد يتخذ أشكالًا أكثر مراوغة، كإعادة ترتيب الفقرات، وتقديم بعض المقاطع وتأخير أخرى، أو دمج مقاطع في بنية جديدة توحي ظاهريًا بالاختلاف، بينما الجوهر الأسلوبي والدلالي واحد.
 
حول أشكال السطو المراوغة
ومن أخطر أشكال هذا السطو المراوغ - وهو السائد- هو "السطو الدلالي" أو "السطو التحليلي". فالسارق قد لا ينسخ الجمل حرفيًا، لكنه يستولي على البنية الحجاجية أو السردية التي قام المترجم ببنائها، أو يسرق الإطار النظري الذي قدمه، أو يتجاهل الإشارة إلى الهوامش والتعليقات التوضيحية التي أضافها المترجم وكانت تشكل قيمة مضافة للعمل. هذه المناورات، مهما بلغت من الحذق، لا تلغي حقيقة أن النص المترجم يظل حاملًا لحمضه الأسلوبي الخاص. وهنا تكمن خطورة الأمر، إذ لا يتعلق السطو فقط بانتهاك حق فردي، بل بإفساد منظومة الثقة التي يقوم عليها الحقل الثقافي برمته. فحين يُسمح بمثل هذه الممارسات، يصبح المترجم حلقة هشّة، قابلة للإلغاء أو التهميش، رغم أنه أحد أعمدة الإنتاج المعرفي. وتتحمّل المؤسسات الثقافية، من مجلات ودور نشر، مسؤولية أخلاقية مضاعفة في هذا السياق. فالنشر ليس فعلًا تقنيًا محايدًا، بل هو إقرار ضمني بمشروعية النص ومصدره. ومن ثمّ، فإن غياب آليات التحقق من الأصول، خصوصًا في النصوص المترجمة أو المقتبسة، يفتح الباب أمام انزلاقات خطيرة، قد تمسّ مصداقية المؤسسة نفسها.
 
حول مسؤولية المؤسسات وآليات التدقيق
لذلك، يقتضي الواجب الأخلاقي من المؤسسات تطوير آليات تدقيق مهنية وشفافة. ليس المطلوب تحويل المنابر الثقافية إلى محاكم، لكن حضور الحد الأدنى من اليقظة المهنية يظل شرطًا أساسيًا لصون الذاكرة الثقافية من التزييف أو الالتباس. ويشمل ذلك المطالبة بتقديم النص المصدر في حال الشك، والعمل على اعتماد برمجيات كشف الانتحال التي بدأت تتطور لتشمل الترجمات، بالإضافة إلى صياغة "مدونة سلوك أخلاقي" واضحة وملزمة لكل المتعاملين مع النصوص المترجمة.
 
إن الدفاع عن أخلاقيات الترجمة ليس دفاعًا عن أشخاص بعينهم، بل عن معنى العمل الثقافي ذاته. فالترجمة التي تُنتهك، أو يُتصرّف فيها دون إذن أو يتم السطو عنها بسبق إصرار وترصد، إنما تُفرغ من بعدها الإبداعي، وتُختزل إلى مادة سائبة قابلة للاستعمال دون قيد أو إحالة. من هنا، تبدو الحاجة ملحّة إلى إعادة فتح النقاش حول موقع المترجم، وحقوقه الرمزية والمادية، داخل منظومة لا تزال، في كثير من الأحيان، تنظر إلى الترجمة باعتبارها عملًا ثانويًا أو تابعًا.
 
في المحصّلة، لا تُعدّ أخلاقيات الترجمة مسألة نظرية هامشية، بل دعامة أساسية لاستقامة الفعل الثقافي وموثوقية المعرفة. وكل تساهل في هذا الباب هو تساهل في حق الذاكرة، وفي حق اللغة، وفي حق القارئ نفسه. فحين تُفسد السرقات الترجمة، لا يتضرر فرد واحد، بل يُصاب الأدب في أحد أعصابه الدقيقة. لذلك، يجب أن تكون المطالبة بحماية المترجم ونصه نداءً جماعيًا، نداءً للمؤسسات لوضع قواعد صارمة، ونداءً للمترجمين للتمسك بتوثيق عملهم، ونداءً للقارئ ليصبح شريكًا في صون هذه الأمانة الثقافية من التهميش أو التزييف.