حسنا فعلت قيادة حزب الاستقلال، عندما قررت عقد الاجتماعات الإقليمية للحزب، تحت شعار "تقوية المسارالديمقراطي رهين بتخليق الحياة العامة"، تمهيدا لاجتماع الدورة الربيعية للمجلس الوطني، التي تصادف الذكرى الواحدة والخمسين لوفاة زعيم التحرير علال الفاسي.
وبهذا الربط بين تخليق الحياة العامة وتعزيز المسار الديمقراطي لبلادنا، أكد الحزب وفاءه لإرث وإفكار الزعيم المصلح علال الفاسي ،الذي سلط الضوء قبل 74 سنة، في كتابه "النقد الذاتي"، على أهمية محاربة الفساد والالتزام بالتخليق لتطوير أوضاع البلاد، مشددا على واجب أن تكون الإدارة في خدمة الصالح العام وليست مطية لتحقيق الإثراء غير المشروع وتحقيق المصالح الشخصية.
راهنية توصيف الفساد
وقدم الزعيم في كتابه الصادر في سنة 1951 توصيفا للفساد، لا يزال يحتفظ براهنيته، بتأكيده أنه " إذا كان الاعتبار الصحيح في الإدارة هو التفكير بالمصلحة العامة، فمن المؤسف أن نجد الوظائف الإدارية لا تعتبر إلا موردا للإرتزاق وأحيانا مصدرا للإثراء، وكثيرا ما تستنزف من مخابئه أموال الأمة وخيراتها، وليس ذلك عن طريق التضخم المعتاد للمرتبات وما يتبعها من مختلف العلاوات فحسب ،ولكن عن سبيل الاستغلال للجاه الذي يحصل عليه الموظف من منصبه أو المكانة الاجتماعية التي تفسح له مجال الوصول لكثير من الظلامات".
وحذر علال الفاسي، الذي قدم في الكتاب نظرة شمولية لنهضة المغرب المستقل وإصلاح مجتمعه واستكشاف سبل تطوره ،من غياب تخليق الحياة العامة والتطبيع مع الفساد، بتسجيله" إن الإنسان حينما يلاحظ انتشار الرشوة ،ليستغرب كيف تتحول النفوس جميعها إلى الاطمئنان لعمل غير أخلاقي، لأنه لا فرق في الدين والخلق بين من يأخذ الرشوة وبين من يعطيها"، مستنتجا أن "الجو العام الناشئ عن هذه الحالة هو الذي يرغم الكثير من الموظفين على اتباع القدوة السيئة ويرغم المظلومين أيضا على أن يرضوا بالواقع ويتعلموا وسائل الإغراء والتزيين للرشوة، حتى ينالوا قليلا من العدل أو نصيبا من الحق.وهكذا تنقلب الأوضاع وتنعكس الاعتبارات ويصبح من المسلم به ضرورة حصول ذي الجاه على الثروة بمختلف الوسائل وضرورة استعمال ذي الحق طريقة الإغواء المحرم لقضاء مآربه".
ودعا إلى تثمين النزاهة والاستقامة والإخلاص في العمل، مستنكرا محاولات جر المسؤولين النزهاء إلى مستنقع الفساد والتطبيع معه أو السعي إلى إقصائهم.
التخليق في سلم الأولويات
وظل التخليق في سلم الأولويات التي رأى الزعيم علال ضرورة التعامل معها لوضع البلاد على سكة الإصلاح والتقدم ،بتأكيده أن مشكلة الإدارة في مقدمة المشاكل السياسية والاجتماعية التي يجب أن تأخذ حظا كبيرا من تفكيرنا وتوجهنا وأنه بطرق الدعاية والإقناع والتوجيه الصالح والتربية السلوكية نستطيع أن نخلق الجو الأخلاقي الذي يعتبر استغلال الجاه وانتهاز المناصب لاستعباد الأمة وإشاعة الفوضى في الدولة، سقوطا ينقص قيمة صاحبه في الاعتبار العام، داعيا إلى" ثورة شاملة في الأفكار والذهنيات واعتبار كل إدارة لا تنبني على اعتبار المصلحة العامة فوضى" .
وواصل زعيم التحرير بعد استقلال البلاد دعواته إلى إصلاح المرفق الإداري على قاعدة التخليق والنزاهة وخدمة المصلحة العامة، وتجلت أول المبادرات الإصلاحية في تقديم الفريق الاستقلالي في البرلمان المنبثق من الانتخابات التشريعية لسنة 1963 مقترح قانون "من أين لك هذا"، لمحاربة الرشوة وأشكال الفساد الأخرى في الإدارة .
مقترح قانون تفعيل"من أين لك هذا؟"
وسيرا على نفس النهج في المطالبة بتعزيز تخليق الحياة العامة ومحاصرة الفساد ، تقدم الفريق الاستقلالي في الولاية التشريعية السابقة لمجلس النواب في شتنبر 2020 بمقترح قانون يقضي بمنع تضارب المصالح، تفعيلا لمبدأ من أين لك هذا، يضع قواعد واضحة لمدبري الشأن العام لتلافي أي تعارض بين الفعل العمومي والمصالح المرتبطة بالقطاع الخاص والمجالات الاقتصادية، وتوضيح آليات المساءلة والمحاسبة لحماية المال العام وتعزيز الرقابة على الممارسات المخلة بقواعد الشفافية والنزاهة .ونص المقترح على أنه يدخل في باب تنازع المصالح أيضا "كل استغلال للموقع الوظيفي او المهني لتحقيق مصلحة خاصة بصفة مباشرة أو غير مباشرة، وكل تعاقد مع الإدارة أو المؤسسات المرتبطة بها وكل توظيف لمعلومات يتم الحصول بحكم الوظيفة أو المسؤولية من شأنه الإخلال بالمنافسة الحرة وتحقيق مكاسب شخصية أو لفائدة الغير ممن يرتبط بهم الخاضعون لأحكام هذا القانون بعلاقة مباشرة أو غير مباشرة وكذا تفضيل أشخاص أو مؤسسات بحكم العلاقات الشخصية أو القرابة العائلية".
الدفاع عن قانون جامع لمحاربة تضارب المصالح
ودافع الأمين العام لحزب الاستقلال نزار بركة ،حينئذ عن أهمية إقرار هذا المقترح ،باعتبار أن المشرع المغربي عالج عددا من حالات تضارب المصالح في نصوص قانونية متفرقة، و أصبحت الحاجة ملحة لوضع نص قانوني جامع يجيب على مسألتين ضروريتين، هي ملاءمة التشريع الوطني مع الالتزامات الدولية، وتفعيل مقتضيات الدستور، على قاعدة وضع إطار قانوني للممارسات الفضلى للوقاية من الفساد وتعزيز قواعد النزاهة والشفافية في تدبير الشأن العام والحياة الاقتصادية بصفة عامة، والسعي إلى أجرأة التزامات المغرب الدولية، خاصة الاتفاقية الأممية لمكافحة الفساد، مؤكدا أن تضارب المصالح يغذي الشعور بالحيف وفقدان الثقة في الشأن العام والحياة السياسية، وينعكس على علاقة الثقة التي تجمع بين المواطنين والمسؤولين عن اتخاذ القرار، وبالتالي اتساع الفجوة بينها، الأمر الذي تجلى في تراجع المشاركة في الشأن العام لدى عامة المواطنين، وتأزيم ثقتهم في المؤسسات المنتخبة.
عدة جبهات في معركة التخليق
ويرى حزب الاستقلال في تفسير موجبات تقديم هذا المقترح أن أية ممارسة اقتصادية أو مالية تخل بمبادئ الاستحقاق و المساواة في الفرص، لا يمكنها إلا أن تؤثر سلبا على التماسك الاجتماعي في بلادنا، وتغذي أزمة الثقة بين المواطنين و الإدارات والمؤسسات العمومية، معتبرا أنه لا خيار اليوم أمام بلادنا سوى جعل القانون يسود على الجميع، وإقرار ترسانة شمولية لتخليق الحياة العامة ووضع جيل جديد من الإصلاحات الهيكلية وإعادة تأهيل الفاعلين،وضمان شفافية الإدارة، وتيسير الولوج إلى الخدمات العمومية، ومكافحة الفساد .
وفي منظور الحزب ،يجب أن تشمل معركة التخليق عدة جبهات، ضمنها الرشوة الصغيرة و الأشكال الأخرى من الفساد ،من قبيل الإثراء غير المشروع ، وحالات تنازع المصالح ، واستغلال التسريبات المُخلة بالتنافس النزيه ، والتجاوزات في إسناد وتدبير الصفقات العمومية ، والشطط في استغلال مواقع النفوذ والامتياز، ووضعيات الاحتكار والهيمنة وكل الممارسات غير المشروعة .
محاربة الفساد قضية الدولة والمجتمع
وشهدت بلادنا في سياق الإصلاحات التي أرساها جلالة الملك محمد السادس النص في الدستور على ربط المسؤولية بالمحاسبة وتعزيز صلاحيات مؤسسات دستورية من قبيل مجلس المنافسة، والهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، والمصادقة على اتفاقيات دولية لمحاربة الفساد، وسبق لجلالة الملك أن أكد أن "محاربة الفساد هي قضية الدولة والمجتمع: الدولة بمؤسساتها، من خلال تفعيل الآليات القانونية لمحاربة هذه الظاهرة الخطيرة، وتجريم كل مظاهرها، والضرب بقوة على أيدي المفسدين، والمجتمع بكل مكوناته، من خلال رفضها، وفضح ممارسيها، والتربية على الابتعاد عنها، مع استحضار مبادئ ديننا الحنيف، والقيم المغربية الأصيلة، القائمة على العفة والنزاهة والكرامة".
وبموازاة تصدي القضاء لبعض ملفات الفساد في الجماعات المحلية وبعض الإدارات ، لا يزال جدول الأعمال الوطني مطبوعا بنقاش عام ينصب على أهمية بذل المزيد من الجهود لتخليق الحياة العامة ، بتأطير محاربة الإثراء غير المشروع ومحاربة تضارب المصالح وكل أشكال الفساد،لمواصلة النهوض اقتصاديا واجتماعيا ببلادنا في الداخل وخدمة صورتها في الخارج، بتحسين ترتيبها في مؤشر مدركات الفساد الصادرعن منظمة الشفافية الدولية .
وفي غمرة هذا النقاش ما أحوجنا إلى استحضار ما كتبه الزعيم علال الفاسي قبل 74سنة ، دفاعا عن التخليق وخدمة الصالح العام في المرفق الإداري، لتمكين البلاد من مقومات التقدم.