عرف ملف الصحراء، أحد أطول النزاعات الإقليمية في فترة ما بعد الاستعمار، في الشهور القليلة الأخيرة ديناميكية متسارعة على الصعيدين الدبلوماسي والأممي، ألقت بظلالها على مسار البحث عن حل سياسي دائم ومقبول من الأطراف، وقد أبرز المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، في إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن الدولي، ملامح هذا السياق المتغير، مشيراً إلى تطورين ثنائيين بارزين: المحادثات المغربية-الأمريكية رفيعة المستوى في واشنطن، والاتصالات الفرنسية-الجزائرية في الجزائر.
ومن الثابت أنه ورغم أن هذين التحركين، الصادرين عن دولتين فاعلتين ودائمتي العضوية في مجلس الأمن، يعكسان "اهتماماً متجدداً بالفرص والمخاطر" في المنطقة، إلا أنه في نفس الوقت لا ينفي وجود قلق أممي إزاء استمرار بل وتفاقم التوتر في العلاقات بين المغرب والجزائر والتي اعتبر دي ميستورا تحسنها "شرطاً أساسياً لتفادي مخاطر اندلاع نزاع إقليمي" سيكون ذا تداعيات وخيمة على الاستقرار الإقليمي وعلى البيئة التي تسعى فيها الأمم المتحدة لتيسير الحل السياسي.
وفي قلب هذه الديناميكية، برزت ثلاث رسائل مركزية نقلها المبعوث الأممي عن الإدارة الأمريكية، والتي لربما تحدد لنا بعض ملامح مقاربة واشنطن للملف بل وتعكس توجهات دولية أوسع، أولى هذه الرسائل هو ضرورة أن يكون أي نظام الحكم الذاتي المقترح "حقيقياً" (Genuine)، مما يستدعي، وفقاً لدي ميستورا، الحاجة الى جهود مغربية لتقديم "توضيحات أكثر تفصيلاً" للآليات العملية للمبادرة المغربية للحكم الذاتي وصلاحياتها الملموسة، وثانياً التأكيد على مبدأ "الحل المقبول من الطرفين" (Mutually Acceptable Solution)، مع الإشارة إلى أن تحقيقه يتطلب "مفاوضات فعلية" يجب أن تشمل "في الوقت المناسب، شكلاً موثوقاً من أشكال تقرير المصير"، وهي صياغة تفتح نقاشاً حول كيفية ممارسة هذا الحق ضمن إطار الحكم الذاتي المتفاوض عليه، وثالثاً وأخيرا إعلان الإدارة الأمريكية عن عزمها "الانخراط مباشرة في تسهيل التوصل إلى حل متفق عليه"، وهو ما قد يمثل قوة دفع جديدة للمسار الأممي، خاصة مع تزامن ذلك مع الذكرى الخمسين عام 2025، لإدراج القضية في المسار الأممي مما يضفي "إحساساً بالإلحاح" دائما وفق تعبير المبعوث الاممي.
في مستهل هذا التحليل وضمن هذا المشهد الدولي والإقليمي المعقد، تظل "المبادرة المغربية للتفاوض بشأن نظام حكم ذاتي لجهة الصحراء"، المقدمة رسمياً سنة 2007، الخيار السياسي الأكثر بروزاً وجدية على طاولة المفاوضات، حيث حظيت باعتراف متكرر من مجلس الأمن بوصفها أساساً "جاداً وذا مصداقية" للتوصل إلى حل، لكون هذه المبادرة تستند إلى فهم معاصر لمفهوم "الحكم الذاتي" والذي تطور بشكل كبير في القانون الدولي والممارسة السياسية.
ولا مراء في أنه بعد ما ارتبط تاريخياً بحقبة تصفية الاستعمار وتحقيق "تقرير المصير الخارجي" (External Self-determination) غالباً عبر الاستقلال، أصبح الحكم الذاتي يُنظر إليه بشكل متزايد كآلية لتجسيد "تقرير المصير الداخلي" (Internal Self-determination)، أي حق مجموعة سكانية معينة ضمن دولة قائمة في تدبير شؤونها الخاصة والحفاظ على خصوصيتها الثقافية، مع الحفاظ على وحدة الدولة وسيادتها، الشيء الذي جعله يمثل حلاً عملياً للمعضلة التي تواجه العديد من الدول في التوفيق بين ضرورات الوحدة الوطنية وتطلعات الديمقراطية والحكم المحلي.
تأسيساً على ما سبق فإن الانتقال من الإطار النظري لهذه المبادرة الواعدة إلى واقع عملي على الأرض يتطلب تجاوز المقاربات الجزئية وتبني مسارات متكاملة، تستند إلى تفعيل متزامن ومنسق لمجموعة من المداخل الأساسية اللازمة لتنزيل المبادرة المغربية، خاصة منها القانونية والدستورية والسياسية والدبلوماسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، وفي هذا الشأن تهدف هذه المعالجة إلى تقديم تحليل لهذه المداخل مع الأخذ بعين الاعتبار التطورات المفاهيمية والدبلوماسية الحديثة والتحديات العملية المصاحبة، وذلك بهدف استجلاء متطلبات بناء حل سياسي واقعي ودائم لنزاع الصحراء، حيث سنعمل من خلال هذا التحليل، على استكشاف وتفصيل هذه المداخل المتعددة والمتكاملة، باعتبارها الآليات الأساسية لتنزيل مبادرة الحكم الذاتي بالصحراء في هذه الفترة التي تتزامن مع اقتراب الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء التي شكلت محطة مفصلية في مسار استكمال الوحدة الترابية للمملكة وحقبة جديدة في تاريخ الأقاليم الجنوبية.
المدخل الأممي:
المرجعية القانونية، الآلية الراعية، وتحديات الوساطة في بيئة متوترة
لا جدال في أن الإطار الأممي يعتبر بلا منازع حجر الزاوية والمرجعية القانونية والسياسية العليا للجهود الدولية الرامية إلى تسوية نزاع الصحراء، فمنذ إدراج القضية على جدول أعمالها، اضطلعت الأمم المتحدة، وبشكل خاص مجلس الأمن بموجب الفصلين السادس والسابع من الميثاق، بالمسؤولية الرئيسية عن حفظ السلم والأمن في المنطقة وتيسير التوصل إلى حل سياسي.
وبالعودة إلى قرارات مجلس الأمن المتعاقبة، لاسيما تلك الصادرة بعد تقديم المبادرة المغربية سنة 2007، نجدها قد شكلت الإطار المعياري الذي يوجه العملية السياسية بدءاً بالقرار 1754 (2007) وصولاً إلى القرار 2756 (2025)، كرس المجلس لغة محددة تؤكد على ضرورة التوصل إلى "حل اقعي وبراغماتي ودائم وقائم على التوافق "، داعياً الأطراف (المغرب، الجزائر، موريتانيا، وجبهة البوليساريو) إلى مواصلة المفاوضات تحت رعاية الأمين العام، برعاية مبعوثه الشخصي.
بيد إن الإشارة المتكررة والواضحة في هذه القرارات إلى المبادرة المغربية للحكم الذاتي بوصفها "جدية وذات مصداقية" (Serious and Credible) لا يمكن قراءتها إلا كتوجيه سياسي وقانوني ضمني من قبل الجهاز التنفيذي للأمم المتحدة، يحدد أساساً متيناً وواقعياً للمفاوضات، متجاوزاً بذلك المقاربات السابقة التي أثبتت عدم قابليتها للتطبيق، وعلى رأسها خطة الاستفتاء الكلاسيكية التي تعثرت بسبب استحالة تحديد الهيئة الناخبة، هذا الموقف الأممي المستقر يمنح المبادرة المغربية شرعية دولية معتبرة ويوجه مسار البحث عن حل.
في هذا السياق لطالما اضطلع المبعوث الشخصي للأمين العام بدور محوري كوسيط نزيه وميسر للحوار بين الأطراف، وهو دور يزداد تعقيداً في ظل البيئة الإقليمية المتوترة التي وصفها ستيفان دي ميستورا بـ"غياب أي تحسن في العلاقات المغربية-الجزائرية، بل على العكس فقد اعتبر هذا التوتر عائقاً أساسياً أمام التقدم السياسي، وتبقى إحاطات المبعوث الاممي الدورية لمجلس الأمن تشكل أداة هامة لتقييم الوضع، وتحديد العقبات واقتراح السبل للمضي قدماً، وفي هذا الصدد اشارت إحاطته الأخيرة إلى محاولة استثمار "الاهتمام المتجدد" للقوى الكبرى (الولايات المتحدة وفرنسا) في المنطقة، وتحويله إلى زخم إيجابي يدفع نحو "خفض التصعيد الإقليمي" و"إعادة تنشيط خارطة طريق نحو حل نزاع الصحراء".
وبالتحول إلى الرسائل الأمريكية الثلاث التي نقلها الوسيط الاممي (الحكم الذاتي "الحقيقي"، الحل "المقبول من الطرفين" المتضمن لـ"شكل موثوق من تقرير المصير"، والانخراط الأمريكي "المباشر" في تيسير الحل) نجدها تحمل في طياتها إمكانات وفرص لكنها تتطلب أيضاً إدارة حكيمة لتجنب أي سوء فهم أو زيادة في الاستقطاب، فالتركيز على "حقيقية" الحكم الذاتي قد يدفع نحو تعميق النقاش حول تفاصيل الصلاحيات والضمانات، وهو أمر إيجابي إذا تم في إطار بناء، أما الإشارة إلى "شكل موثوق من تقرير المصير"، فيجب تأطيرها ضمن فهم القانون الدولي الذي لا يحصر تقرير المصير في الاستقلال فقط، بل يرى في الحكم الذاتي المقبول ديمقراطياً من الساكنة المعنية تجسيداً لهذا المبدأ في سياق "تقرير المصير الداخلي"، كما أن الانخراط الأمريكي المباشر يمكن أن يكون فعالاً إذا تم بالتنسيق الوثيق مع الأمم المتحدة ودون تجاوز لدورها المركزي كراعٍ للعملية.
من ناحية أخرى على الصعيد العملياتي تستمر بعثة المينورسو التي أنشئت أصلاً لمراقبة وقف إطلاق النار وتنظيم استفتاء لم يتم، في لعب دور حيوي في مراقبة الوضع الميداني والمساهمة في الحفاظ على الاستقرار النسبي، رغم التحديات الأمنية واللوجستية والمالية، وقد أكد كل من دي ميستورا ورئيس البعثة، ألكسندر إيفانكو، على أهمية استمرار دعم المجلس للبعثة، مشيرين إلى دورها المحتمل في "دعم المرحلة الأولى من أي حل متفق عليه".
وتجدر الإشارة إلى إن تقييم إيفانكو للوضع العسكري، الذي يؤكد محدودية قدرة جبهة البوليساريو على تغيير الوضع الراهن عسكرياً ويشير في الان ذاته إلى "ضبط النفس" المغربي، يعزز الحجة القائلة بأن الحل لا يمكن أن يكون إلا سياسياً، ويؤيد هذا التفسير ان استمرار نجاح المدخل الأممي رهين بتوفر الإرادة السياسية لدى جميع الأطراف الفاعلة، وقدرة المجتمع الدولي، ممثلاً في مجلس الأمن، على ممارسة دبلوماسية فعالة تتجاوز لغة الإدانة أو التوصيف نحو بلورة آليات عملية لتشجيع التوافق، مع التأكيد المستمر على مركزية المبادرة المغربية كإطار واقعي ومتقدم لتحقيق حل يضمن الاستقرار الإقليمي ويستجيب لتطلعات السكان في إطار السيادة المغربية، والتي لن تتحقق الا بالتناغم بين جهود الوساطة الأممية والديناميكيات الدبلوماسية للقوى المؤثرة، وقدرتها مجتمعة على خلق بيئة مواتية لمفاوضات جوهرية بناءة.
المدخل الدبلوماسي:
بناء التوافق وتوسيع دائرة الاعتراف
وفقاً لما استقر عليه العمل فان بناء توافق دولي واسع حول وجاهة وواقعية المبادرة المغربية للحكم الذاتي كحل سياسي أمثل للنزاع، وتوسيع دائرة الاعتراف الدولي والإقليمي بهذا التوجه يعتمد بالضرورة على قدرة الدبلوماسية المغربية، على نسج شبكة علاقات قوية ومتنوعة، وشرح أبعاد المبادرة ومزاياها القانونية والسياسية والتنموية، وتفنيد الأطروحات المضادة التي لا تزال تتمسك بخيارات متجاوزة أثبتت عدم قابليتها للتطبيق، وإقناع المنتظم الدولي بأن الحكم الذاتي الموسع تحت السيادة المغربية يمثل التوليفة المثلى التي توازن بين متطلبات القانون الدولي بما في ذلك التفسير الحديث لحق تقرير المصير الداخلي، وضرورات الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، واحترام الوحدة الترابية للدول القائمة، وتلبية التطلعات الديمقراطية لسكان المنطقة في تدبير شؤونهم بأنفسهم.
ولقد ترتب عن هذا المسار زخم لافت في السنوات الأخيرة، تجسد في تحولات نوعية في مواقف العديد من الدول الوازنة، فالاعتراف الأمريكي الصريح بسيادة المغرب على صحرائه في ديسمبر 2020، والذي أعادت الإدارة الحالية تأكيده وبشكل أكثر تحديداً على دعم الحكم الذاتي "الحقيقي"، شكل منعطفاً جيوسياسياً هاماً في هذا الملف، كما أن المواقف الداعمة التي عبرت عنها دول أوروبية مركزية كإسبانيا وألمانيا وهولندا، والموقف المتقدم لفرنسا والتي اعتبرت المبادرة المغربية "الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية" لحل النزاع، تعكس تحولاً في القراءة الأوروبية لملف الصحراء نحو مزيد من الواقعية السياسية.
ينضاف إلى ذلك، الدعم الثابت والتقليدي من الدول العربية الشقيقة، والدعم المتزايد من عدد كبير من الدول الإفريقية، الذي تجلى بوضوح في افتتاح ما يزيد عن ثلاثين قنصلية عامة لدول من إفريقيا والعالم العربي وأمريكا اللاتينية والكاريبي في مدينتي العيون والداخلة، هذه القنصليات التي لا تمثل مجرد اعتراف دبلوماسي رمزي، بل هي تجسيد عملي وقانوني وسياسي للاعتراف بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، وثقة في المسار التنموي الذي تشهده، وإقرار بوجاهة مبادرة الحكم الذاتي كإطار مستقبلي يضمن الاستقرار والسلم.
ولعله من ابرز متطلبات تنزيل الحكم الذاتي مواصلة نهج الدبلوماسية متعددة المستويات في مختلف دوائر السياسة الخارجية المغربية مع تكثيف الحوار الثنائي مع القوى الكبرى والشركاء الإقليميين؛ وتعزيز الحضور والتأثير في اطارا الدبلوماسية متعددة الأطراف داخل المنظمات الدولية والإقليمية (الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الاتحاد الإفريقي، جامعة الدول العربية، مجلس التعاون الخليجي)، مع توظيف الدبلوماسية البرلمانية والاقتصادية والثقافية والروحية لتعزيز الموقف الوطني؛ بناء تحالفات وشراكات استراتيجية قائمة على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل؛ والاستثمار في "القوة الناعمة" (Soft Power) للمغرب كنموذج للاستقرار والإصلاح والتنمية والانفتاح في منطقة مضطربة.
وأخذاً في الاعتبار ما سبق ذكره يقتضي الأمر مواصلة تقديم الأدلة الملموسة للمجتمع الدولي حول التزام المغرب الراسخ بتنمية الأقاليم الجنوبية، وتحسين الظروف المعيشية لسكانها، وتمكينهم من المشاركة الديمقراطية في تدبير شؤونهم المحلية، وهو ما تجسد في النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية ومعدلات المشاركة السياسية المرتفعة.
من هنا يصبح حشد دعم دولي واسع ومتزايد لا يقتصر على توفير الغطاء السياسي اللازم للمبادرة المغربية في المحافل الدولية، بل يساهم أيضاً في خلق بيئة دولية ضاغطة على الأطراف الأخرى، خاصة الجزائر، للانخراط بشكل بناء وواقعي في المسار الأممي، والتخلي عن المواقف المتصلبة التي تعيق التوصل إلى حل، ويزيد من فرص تأمين الضمانات الدولية اللازمة لاستدامة أي اتفاق يتم التوصل إليه، كما انه عنصر حاسم في نجاح عمليات تسوية النزاعات.
المدخل السياسي:
بناء الإجماع الوطني، تعزيز الديمقراطية المحلية، وتمكين المشاركة
تأسيساً على التجارب والممارسات الفضلى فلن تكتمل فعالية المقاربة الدولية والأممية دون قاعدة داخلية صلبة، وهنا تبرز أهمية المدخل السياسي كشرط أساسي لنجاح تنزيل مبادرة الحكم الذاتي، حيث تميز المقترح المغربي بكونه نابعاً من توافق وطني واسع، تجلى في الإجماع الذي حظيت به المبادرة منذ تقديمها من قبل مختلف مكونات الطيف السياسي المغربي بعد مشاورات موسعة، شملت على وجه الخصوص المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية (الكوركاس)، الذي يضم ممثلين عن سكان الأقاليم الجنوبية مرورا بالأحزاب السياسية بأغلب توجهاتها، والمؤسسات الدستورية، والنقابات، وصولا الى فعاليات المجتمع المدني.
هذا الإجماع الوطني منح المبادرة قوة دفع داخلية وحصنها ضد أي محاولات للتشكيك في شرعيتها أو تمثيليتها، بيد إن الانتقال من الإجماع على المبدأ إلى التنزيل العملي يتطلب جهداً سياسياً متواصلاً لتعميق هذا التوافق وترجمته إلى انخراط فعلي من كافة الفاعلين على الصعيدين الوطني والمحلي وهو ما يستلزم من جهة مواصلة النقاش العمومي البناء والمفتوح حول مضامين الحكم الذاتي، وشرح تفاصيله وأبعاده وآثاره المتوقعة على حياة المواطنين في الأقاليم الجنوبية، وتوضيح طبيعة الصلاحيات الواسعة التي ستنقل إلى الهيئات الجهوية المنتخبة (التشريعية والتنفيذية والقضائية المحلية)، والعلاقة التي ستربطها بالسلطات المركزية، وآليات تدبير الموارد الطبيعية، وضمانات الحفاظ على الوحدة الوطنية والهوية الثقافية الحسانية، ومن جهة ثانية تعزيز وتعميق الممارسة الديمقراطية على أرض الواقع في الأقاليم الجنوبية، باعتبارها المختبر الحقيقي والضمانة الأساسية لنجاح الحكم الذاتي من خلال تقوية دور وصلاحيات المؤسسات المنتخبة الحالية (المجالس الجهوية والإقليمية والجماعية)، وتمكينها من ممارسة اختصاصاتها الفعلية في إطار الجهوية المتقدمة، التي تعتبر بحد ذاتها خطوة تحضيرية هامة نحو الحكم الذاتي.
فضلاً عما تقدم تعتبر معدلات المشاركة السياسية المرتفعة التي تسجلها الأقاليم الجنوبية في مختلف الاستحقاقات الانتخابية (التشريعية والجماعية والجهوية)، والتي تفوق باستمرار المعدل الوطني، مؤشراً قوياً على انخراط الساكنة الصحراوية في المسلسل الديمقراطي المغربي، وتشبثها بمؤسسات بلادها، ورغبتها الأكيدة في تدبير شؤونها بنفسها ضمن إطار السيادة المغربية والوحدة الترابية.
ولا مناص من القول إن نجاح المدخل السياسي يكمن في القدرة المستمرة على بناء وتعزيز جسور الثقة بين الدولة المركزية والمواطنين والفاعلين المحليين في الأقاليم الجنوبية، وضمان تمثيلية ديمقراطية حقيقية وفعالة لجميع مكونات المجتمع الصحراوي في المؤسسات الحالية والمستقبلية، وتوفير فضاء سياسي مفتوح وتعددي يسمح بالتعبير عن مختلف الآراء والمطالب في إطار القانون والمؤسسات الدستورية، وهذا يتطلب مقاربة تشاركية حقيقية تدمج المواطنين والمنتخبين المحليين في عملية صنع القرار وتنفيذ السياسات العمومية، وتضمن استجابة المؤسسات لاحتياجاتهم وتطلعاتهم، مما يرسخ الشعور بالمواطنة الكاملة ويقطع الطريق على أي محاولة لاستغلال الفراغ أو التهميش المفترض.
المدخل الدستوري والقانوني:
التأطير المعياري، ضمان الانسجام الهرمي، وتوفير الاستقرار المؤسسي
ما يستدعي الإيضاح أن المدخل الدستوري والقانوني يشكل الأساس المعياري الصلب والضمانة المؤسسية العليا التي يجب أن ترتكز عليها عملية تنزيل مبادرة الحكم الذاتي، وذلك لضمان اندماجها السلس والمتناغم في البناء القانوني والمؤسساتي للدولة، وتوفير الحماية الدستورية اللازمة لاستدامتها وفعاليتها ضد أي تقلبات سياسية محتملة.
وفي هذا السياق أرست المملكة المغربية، من خلال دستور 2011، أسساً دستورية متقدمة تتيح استيعاب وتأطير نظام حكم ذاتي خاص بجهة الصحراء، فديباجة الدستور تؤكد على تشبث المملكة بوحدتها الترابية التي لا تتجزأ، وعلى صون تلاحم وتنوع مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية – الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية.
كما أن التنصيص الصريح في الباب التاسع من الدستور على "الجهوية المتقدمة" كتنظيم ترابي لا مركزي للمملكة، يقوم على مبادئ التدبير الحر، والتعاون والتضامن، ويؤمن مشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونهم، والرفع من مساهمتهم في التنمية البشرية المندمجة، يوفر إطاراً دستورياً مرناً وملائماً يمكن البناء عليه لمنح جهة الصحراء نظام حكم ذاتي يتمتع بصلاحيات أوسع ووضع خاص يراعي خصوصيات النزاع ومتطلبات الحل السياسي المتفاوض عليه، دون المساس بالبنية الموحدة للدولة أو بالاختصاصات السيادية للملك والحكومة المركزية.
من المؤكد إن جوهر المبادرة المغربية لعام 2007، وخاصة التزامها الصريح في الفقرة 29 بـ"مراجعة الدستور المغربي وإدراج نظام الحكم الذاتي فيه"، يمثل نقطة قوة استثنائية تمنح المقترح المغربي مصداقية وضمانة حقيقية، فالارتقاء بنظام الحكم الذاتي إلى مرتبة دستورية يعني تحصينه ضد أي تعديل إلا وفق المساطر المشددة والمعقدة لمراجعة الدستور، مما يضمن استقراره وديمومته ويجعله جزءاً لا يتجزأ من النظام القانوني الأساسي للمملكة.
غير ان التنزيل الفعلي لهذا الالتزام، يتطلب بعد التوصل إلى اتفاق سياسي نهائي، صياغة وإقرار "قانون تنظيمي" خاص بجهة الحكم الذاتي للصحراء، يحدد بدقة متناهية طبيعة وصلاحيات الهيئات الجهوية (برلمان جهوي منتخب، حكومة جهوية منتخبة ومنصبة من الملك، محاكم جهوية)، وآليات انتخابها وتشكيلها، ومصادر تمويلها (بما في ذلك حصة من الموارد الطبيعية وفق الفقرة 13 من المبادرة)، وكيفية ممارستها للاختصاصات الذاتية والمشتركة والمنقولة في مجالات واسعة كالإدارة المحلية، التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، البنيات التحتية، الشرطة المحلية، وحتى علاقات التعاون الخارجي في حدود اختصاصاتها (الفقرة 15) .
ومن الثابت في الفقه أن هذا القانون التنظيمي الذي سيصدر وفق الإجراءات الدستورية، يجب أن يضمن التوازنات الدقيقة بين مبدأ "التدبير الحر" للجهة لشؤونها، ومبدأ "وحدة الدولة" وهرمية النظام القانوني، وبين تمكين السكان المحليين من إدارة شؤونهم بأنفسهم تحت السيادة المغربية، والحفاظ على الاختصاصات الحصرية للدولة المركزية في مجالات السيادة (الدفاع، الخارجية، العملة، الشؤون الدينية، الأمن الوطني، النظام القضائي العام) كما حددتها الفقرة 14 من المبادرة.
كما يجب أن يتضمن هذا الإطار القانوني ضمانات قوية لحماية الحقوق والحريات الأساسية لجميع المواطنين المقيمين في الجهة، وآليات فعالة للرقابة القضائية على دستورية وقانونية أعمال هيئات الجهة (من خلال المحكمة الدستورية والمحاكم الإدارية والمحكمة العليا الجهوية المنصوص عليها في الفقرتين 22 و 23)، وآليات لفض النزاعات المحتملة بين السلطات المركزية والجهوية.
نستخلص مما سبق إن وضوح ودقة وقوة الإطار الدستوري والقانوني، وانسجامه مع المعايير الدولية المتعلقة بالحكم الذاتي، يعتبر شرطاً جوهرياً لبناء الثقة، وضمان الشرعية، وتوفير الاستقرار المؤسسي اللازم لتنزيل الحكم الذاتي.
المدخل التنموي:
النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية كرافعة للجاذبية الاقتصادية والرفاه الاجتماعي
لا مراء في أن المدخل التنموي بعداً حاسماً في تعزيز جاذبية ومصداقية مبادرة الحكم الذاتي، وتحويلها من مجرد صيغة سياسية-قانونية إلى مشروع مجتمعي واعد يحقق الرفاه والازدهار لساكنة الأقاليم الجنوبية، فالتنمية الاقتصادية والاجتماعية لا تقتصر على تحسين المؤشرات الماكرو-اقتصادية أو توفير الخدمات الأساسية، بل هي عملية متكاملة تهدف إلى تمكين الأفراد والمجتمعات، وتوسيع خياراتهم، وتعزيز قدراتهم، وترسيخ الشعور بالانتماء والكرامة، وتقوية التماسك الاجتماعي.
وفي هذا السياق، أطلق المغرب، بتوجيهات ملكية سامية، "النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية" سنة 2015، والذي يمثل رؤية طموحة وخطة عمل متكاملة، رُصدت لها استثمارات مالية ضخمة (تناهز 8 مليارات دولار)، بهدف إحداث تحول هيكلي في اقتصاد المنطقة، وتنويع مصادره، وتعزيز جاذبيته، وجعل الأقاليم الجنوبية قطباً اقتصادياً رائداً ومنصة لوجيستية هامة للتبادل بين المغرب وعمقه الإفريقي، وبين إفريقيا وأوروبا.
بناءً على ذلك ارتكز هذا النموذج على مقاربة تشاركية ومندمجة، وشمل محاور متعددة تجاوزت الاستغلال التقليدي للموارد الطبيعية نحو بناء اقتصاد تنافسي تضمنت أبرز مكوناته مشاريع هيكلية كبرى في مجال البنيات التحتية (مثل ميناء الداخلة الأطلسي، والطريق السريع تزنيت-الداخلة الذي يربط شمال المملكة بجنوبها)، ومشاريع ضخمة في مجال الطاقات المتجددة (الطاقة الشمسية والريحية) غايتها جعل المنطقة رائدة في إنتاج الطاقة النظيفة وتصديرها، وبرامج لتثمين الموارد الطبيعية المحلية (الفوسفاط من خلال مشاريع صناعية تحويلية كبرى في فوسبوكراع، والثروة السمكية عبر تطوير صناعة الصيد المستدام وتثمين المنتجات البحرية)، ودعم الفلاحة التضامنية والواحات، وتطوير قطاع السياحة البيئية والثقافية والصحراوية، بالإضافة إلى استثمارات كبيرة في القطاعات الاجتماعية الحيوية كالتعليم العالي والتكوين المهني (بإنشاء انوية جامعية ومعاهد متخصصة) والصحة (بناء مستشفى جامعي ومراكز صحية متطورة) .
ولكن الأهم من ذلك، وكتعبير عن الإرادة السياسية الجادة والتحضير الفعلي والملموس لتهيئة الظروف المادية والمؤسساتية اللازمة لتنزيل ناجح وفعال لنظام الحكم الذاتي، لم تكتف الدولة فقط بإطلاق برامج تنموية فحسب، بل عملت بشكل استباقي وممنهج على إرساء بنيات تحتية كبرى ومهيكلة ذات طابع سيادي ومؤسساتي في الأقاليم الجنوبية، تشكل الأساس المادي الضروري لعمل مؤسسات الحكم الذاتي المستقبلية وضمان استمرارية الدولة وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين والفاعلين الاقتصاديين في إطار النظام الجديد.
وترتب عن ذلك في المجال المالي والنقدي، الذي يمثل أحد ركائز السيادة الاقتصادية، إنشاء مقر جهوي مركزي لبنك المغرب (البنك المركزي) بمدينة العيون، وهو ما يمثل ترسيخاً للسلطة النقدية للدولة في الجهة، ويضمن توفير السيولة المالية اللازمة، ومراقبة النشاط البنكي، والمساهمة في الحفاظ على استقرار الأسعار والكتلة النقدية الوطنية الموحدة، ويواكب ذلك انتشار سلسلة واسعة من فروع الأبناك التجارية والمؤسسات المالية الأخرى، مما يعكس حيوية اقتصادية متنامية ويوفر الخدمات البنكية الضرورية للأفراد والمقاولات التي ستنشط في ظل الحكم الذاتي، ويمكن الهيئات الجهوية من تدبير معاملاتها المالية بكفاءة.
أما في المجال القضائي والأمني، الذي يمثل ضمانة أساسية لسيادة القانون والاستقرار، فقد قامت الدولة بإطلاق مشاريع ضخمة لبناء "قصور عدالة" حديثة ومتكاملة في كل من جهتي العيون الساقية الحمراء والداخلة وادي الذهب، لتوفير مقرات لائقة ومجهزة للمحاكم التي ستعمل في إطار التنظيم القضائي للمملكة، بما في ذلك المحاكم الجهوية التي قد ينص عليها نظام الحكم الذاتي، كما تم تعزيز بنيات محاكم القرب ومراكز القاضي المقيم لضمان ولوج المواطنين إلى "عدالة القرب" بشكل ميسر.
وسيرا على نفس النهج تم على الصعيد الأمني إنشاء وتحديث مقرات ومؤسسات أمنية مؤهلة تابعة للأمن الوطني والدرك الملكي والقوات المساعدة، لتعزيز القدرات العملياتية في حفظ النظام ومكافحة الجريمة، بما يوفر البيئة الآمنة لعمل الشرطة المحلية التي قد ينشئها نظام الحكم الذاتي.
وضمن نفس الجهود تم تشييد سجن محلي كبير بمدينة العيون بمعايير دولية حديثة، يراعي متطلبات أنسنة ظروف الاعتقال ويستجيب للحاجيات المستقبلية للمنظومة القضائية والأمنية بالجهة.
وفي سياق متصل في المجال الاجتماعي والخدماتي، فتجسد الاهتمام بصحة المواطنين، كحق أساسي وركيزة للتنمية البشرية، في إنشاء مستشفى جامعي ضخم ومتطور بمدينة العيون، مجهز بأحدث التقنيات وبطاقة استيعابية كبيرة، وهو مشروع استراتيجي يستجيب للتحديات الصحية الحالية والمستقبلية لسكان الجهة في إطار مشروع الحكم الذاتي، ويقلل من الحاجة إلى التنقل لمسافات طويلة للعلاج، كما يشكل نواة لتكوين الأطر الطبية والبحث العلمي الصحي على المستوى الجهوي.
فضلاً عن ما تقدم تم في مجال البنيات التحتية الحيوية للطاقة والمياه، التي تعد عصب الحياة والتنمية، الاستثمار بكثافة في محطات ضخمة للطاقات المتجددة (الشمسية والريحية)، تهدف ليس فقط إلى ضمان الاكتفاء الذاتي للجهة من الكهرباء النظيفة وتلبية الطلب المتزايد في ظل التوسع العمراني والصناعي، بل أيضاً إلى جعل المنطقة قطباً رائداً في إنتاج وتصدير الطاقة الخضراء والهيدروجين الاخضر، وبالتوازي مع ذلك تم تشييد محطات كبرى لتحلية مياه البحر، لمواجهة تحدي ندرة المياه في هذه المنطقة الصحراوية، وضمان توفير الماء الشروب بشكل دائم للسكان، ودعم التنمية الفلاحية والصناعية التي تتطلب كميات كبيرة من المياه.
وبهذا يمكن القول ان تكامل هذه البنيات التحتية المؤسساتية والخدماتية مع إطلاق مشاريع اقتصادية كبرى ومتنوعة كان غايتها المثلى هو خلق الثروة وفرص الشغل وتنويع القاعدة الاقتصادية للجهة، وتثمين مواردها الطبيعية بشكل يعود بالنفع المباشر على الساكنة المحلية، حيث شمل ذلك إقامة مشاريع فلاحية طموحة تعتمد على تقنيات الري الحديثة والمياه المحلاة، ومشاريع واعدة في إطار "الاقتصاد الأزرق" تستهدف تثمين الثروة السمكية الهائلة بشكل مستدام وتطوير قطاع تربية الأحياء المائية والصناعات التحويلية المرتبطة بها نشاطات السياحة الشاطئية، كما تواصلت الجهود في تثمين مادة الفوسفاط بهدف تطوير صناعات تحويلية ذات القيمة المضافة العالية في مركب فوسبوكراع وإنتاج الأسمدة بما يحقق الامن الغذائي من جهة، و من جهة أخرى يساهم في خلق فرص عمل مؤهلة ويرفع من إيرادات الجهة.
وينضاف إلى هذه الجهود مشاريع التأهيل الحضري الشامل للمدن والمراكز، وتحديث شبكات الطرق، وعلى رأسها مشروع الطريق السريع تزنيت-الداخلة الذي يربط الأقاليم الجنوبية بباقي جهات المملكة ويعزز جاذبيتها الاقتصادية والسياحية، ومشروع الميناء الأطلسي الكبير بالداخلة الذي سيشكل منصة لوجيستية وبوابة اقتصادية نحو إفريقيا والعالم.
ومن خلال ما سبق تحليله يبدو إن الهدف من هذا النموذج التنموي الطموح ليس فقط تحقيق قفزة نوعية في مؤشرات التنمية البشرية والمادية، بل أيضاً خلق اقتصاد محلي قوي قادر على توفير فرص عمل لائقة للشباب الصحراوي، وتقليل الاعتماد على القطاع العام أو على الموارد الطبيعية غير المتجددة، وتشجيع المبادرة الخاصة وريادة الأعمال، وضمان استفادة الساكنة المحلية بشكل مباشر ومنصف من ثمار التنمية، ولهذا تضمن النموذج آليات الحكامة الجيدة والشفافية في تدبير المشاريع، وإشراك الفاعلين المحليين (المنتخبين والمجتمع المدني والقطاع الخاص) في التخطيط والتنفيذ والمتابعة، وتحقيق العدالة المجالية في توزيع الاستثمارات والمشاريع بين مختلف أقاليم ومدن الجهة.
وبالنتيجة النهائية لهذه الاستثمارات الضخمة والمتكاملة في البنيات التحتية المهيكلة والمشاريع الاقتصادية الكبرى، نستشف انها لا تمثل فقط استجابة للحاجيات التنموية الحالية والمستقبلية للأقاليم الجنوبية، بل هي أيضاً تعبير ملموس عن التزام الدولة بتوفير كل الشروط المادية والمؤسساتية اللازمة لنجاح تنزيل مبادرة الحكم الذاتي، بحيث تجد الهيئات الجهوية المنتخبة عند توليها للمسؤولية، بنية تحتية صلبة وموارد اقتصادية متنوعة وإطاراً مؤسساتياً داعماً يمكنها من ممارسة صلاحياتها الواسعة بفعالية واستقلالية لتحقيق التنمية والرفاه المنشودين لجميع سكان الصحراء في إطار السيادة الوطنية.
كما أنها تقوي بشكل كبير جاذبية مبادرة الحكم الذاتي التي ستمنح الهيئات الجهوية المنتخبة صلاحيات واسعة في مجال التخطيط الاقتصادي والاجتماعي، وتدبير الموارد المالية والبشرية، وجذب الاستثمارات، مما يمكنها من مواصلة وتعزيز هذا المسار التنموي الطموح وتكييفه مع الأولويات والخصوصيات المحلية، مع الحفاظ على آليات التضامن الوطني الضرورية.
المدخل الثقافي:
تثمين الهوية الحسانية كرافد أساسي للهوية الوطنية المتعددة
من المسلم به أن المدخل الثقافي بعداً جوهرياً وحساساً في أي مقاربة تهدف إلى تنزيل الحكم الذاتي بالصحراء، نظراً للعمق التاريخي والخصوصية المتميزة للمجتمع الصحراوي وثقافته الحسانية العريقة، التي تشكل بوتقة انصهرت فيها روافد عربية وأمازيغية وإفريقية، وتجلت في لغة (اللهجة الحسانية) وأدب (الشعر الحساني "لغن") وموسيقى وفنون ونمط عيش وعادات وتقاليد ونظام اجتماعي متفرد.
الأمر الذي لا يدع مجالاً للشك إن أي حل سياسي، لكي يحظى بالقبول والشرعية، يجب أن يعترف بهذه الخصوصية الثقافية، وأن يضمن حمايتها وتثمينها وتعزيزها، ليس ككيان منفصل أو منغلق، بل كجزء لا يتجزأ ومكون أساسي من الهوية الوطنية الغنية بتعدد روافدها وتنوع مكوناتها، كما أكدت على ذلك بوضوح ديباجة دستور 2011 التي تحتفي بالرافد الصحراوي الحساني إلى جانب الروافد الأخرى (العربية الإسلامية، الأمازيغية، الإفريقية، الأندلسية، العبرية، المتوسطية) التي شكلت الهوية الموحدة.
وإذا كانت مبادرة الحكم الذاتي في جوهرها تهدف إلى تمكين سكان المنطقة من تدبير شؤونهم بأنفسهم في إطار السيادة المغربية، فإن هذا يشمل بالضرورة، وبشكل أساسي، الشأن الثقافي والهوياتي لذلك يجب أن ينص نظام الحكم الذاتي والقانون التنظيمي المطبق له، على صلاحيات واضحة ومحددة للهيئات الجهوية المنتخبة (البرلمان والحكومة الجهويين) في مجال الثقافة، بحيث تشمل هذه الصلاحيات، على سبيل المثال لا الحصر:
الحفاظ على التراث المادي واللامادي الحساني وحمايته وتوثيقه وتثمينه (المواقع الأثرية، الخيام التقليدية، الحرف اليدوية، الشعر الشفهي، الموسيقى، الرقصات، الأمثال، الحكايات الشعبية، المخطوطات)؛ دعم وتشجيع الإبداع الفني والأدبي باللهجة الحسانية في مختلف المجالات (الشعر، الرواية، المسرح، السينما، الفنون التشكيلية)؛
العمل على إدماج الثقافة والتاريخ المحليين للمنطقة في المناهج التعليمية على المستوى الجهوي، بما يعزز معرفة الأجيال الجديدة بتراثها؛ دعم وسائل الإعلام المحلية، المكتوبة والمسموعة والمرئية والرقمية، الناطقة باللهجة الحسانية أو المهتمة بالشأن الثقافي الحساني؛
تنظيم المهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنية التي تحتفي بالموروث الحساني الغني وتعرف به على الصعيدين الوطني والدولي؛ وإنشاء وإدارة المؤسسات الثقافية الجهوية (متاحف، مكتبات، مراكز ثقافية، معاهد موسيقية وفنية).
من الأهمية بمكان التنويه الى أن الدولة قد اتخذت بالفعل خطوات مهمة في هذا الاتجاه، مثل إحداث قناة العيون الجهوية التي تبث برامج متنوعة باللهجة الحسانية، ودعم العديد من المهرجانات الثقافية الكبرى (مهرجان طانطان المصنف تراثاً عالمياً لامادياً من قبل اليونسكو، مهرجان السمارة، وغيرها)، ودعم الجمعيات المدنية النشطة في المجال الثقافي الحساني، والاهتمام الرسمي المتزايد بالتراث الشفهي الحساني وتوثيقه، بالإضافة إلى الترسيم الدستوري للغة الأمازيغية إلى جانب العربية، مما يعكس التزام الدولة بالتنوع الثقافي واللغوي كمصدر غنى وقوة للمغرب.
وموجز القول هو إنه اذا كان تنزيل الحكم الذاتي سيوفر لاحقا الإطار المؤسسي والقانوني الأمثل لتعميق هذه الجهود وجعلها أكثر منهجية وفعالية، بحيث تصبح الهيئات الجهوية هي الفاعل الرئيسي في رسم وتنفيذ السياسات الثقافية المحلية، بالتشاور والتكامل مع السياسات الوطنية، فإنه لا يجب أن يُنظر إلى الثقافة الحسانية ليس فقط كإرث تاريخي يجب الحفاظ عليه من الاندثار، بل أيضاً كرافعة للتنمية المحلية (من خلال السياحة الثقافية والصناعات الثقافية والإبداعية) وعامل أساسي لتعزيز التماسك الاجتماعي والحوار الثقافي وبناء جسور التفاهم بين مختلف مكونات المجتمع في الجهة، وتقوية الشعور بالانتماء الوطني المبني على الاعتراف المتبادل والاحترام العميق للتنوع ضمن الوحدة.
المدخل الحقوقي:
ضمان الكرامة، تعزيز الحريات، وترسيخ سيادة القانون
لاعتبارات متعددة تتقاطع فيها الأبعاد القانونية والأخلاقية والسياسية يكتسي المدخل الحقوقي أهمية محورية في عملية تنزيل مبادرة الحكم الذاتي من هنا بات ضمان وحماية حقوق الإنسان لجميع سكان الصحراء دون أي تمييز التزاماً قانونياً دولياً ووطنياً راسخاً للمغرب.
هذا الالتزام نبع من المقتضيات المتقدمة لدستور 2011، الذي كرس باباً كاملاً (الباب الثاني) للحريات والحقوق الأساسية، وأكد على سمو الاتفاقيات الدولية المصادق عليها على التشريعات الوطنية، وكذا عضوية المملكة في منظومة الأمم المتحدة، ومصادقتها على جل الاتفاقيات الدولية الرئيسية لحقوق الإنسان (مثل العهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية وبالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واتفاقية مناهضة التعذيب، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وغيرها).
ومن جهة أخرى شكل تعزيز وحماية حقوق الإنسان على أرض الواقع في الأقاليم الجنوبية عنصراً جوهرياً لبناء جسور الثقة مع الساكنة المحلية، بما في ذلك أولئك الذين قد يحملون آراءً مختلفة، ومع المجتمع الدولي وهيئاته الحقوقية.
ومما لا شك فيه ان سجلا حقوقيا إيجابيا وموثوقا سيساهم بشكل كبير في تعزيز مصداقية المبادرة المغربية ويفند الادعاءات والمغالطات التي تسعى بعض الجهات لترويجها واستغلال ملف حقوق الإنسان لخدمة أجندات سياسية معادية تسعى لتعطيل هذا المقترح.
ومن ناحية ثالثة يجب أن يكون نظام الحكم الذاتي المقترح بحد ذاته إطاراً مؤسساتياً وقانونياً ضامناً ومُعززاً لحقوق الإنسان داخل الجهة، بحيث تتمتع هيئاته (التشريعية والتنفيذية والقضائية المحلية) بالصلاحيات والآليات اللازمة لضمان احترام الحقوق والحريات الأساسية لجميع المواطنين الخاضعين لولايتها.
لا يخفى على أحد أن المغرب قد قطع أشواطاً معتبرة في هذا المجال خلال العقدين الأخيرين، من خلال سياسة إصلاحية متدرجة شملت تعزيز الإطار القانوني والمؤسساتي لحماية حقوق الإنسان، وإنشاء المجلس الوطني لحقوق الإنسان كمؤسسة وطنية مستقلة تتمتع بالاعتماد الدولي (وضع "أ")، وتفعيل لجانه الجهوية في العيون والداخلة التي تلعب دوراً هاماً في الرصد والتوعية ومعالجة الشكايات، ومن الثابت أيضا تفاعل المغرب الإيجابي والبناء مع آليات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، بما في ذلك الإجراءات الخاصة لمجلس حقوق الإنسان (زيارات المقررين الخاصين) والاستعراض الدوري الشامل، والرد على المراسلات وتقديم التقارير الدورية.
وعطفا على ما سلف تجدر الإشارة الى ان الأقاليم الجنوبية بدورها شهدت دينامية ملحوظة في مجال ممارسة الحريات العامة، حيث ينشط عدد كبير من الجمعيات المدنية، وتُنظم وقفات احتجاجية وتجمعات للتعبير عن مختلف المطالب، حتى تلك التي تتبنى مواقف معارضة للموقف الرسمي المغربي، وهو ما عكسه بدرجات متفاوتة تقارير المنظمات الدولية وبعض الدول.
مما تقدم يظهر أن تنزيل الحكم الذاتي يتطلب مواصلة هذه الجهود وتعميقها، من خلال:
ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان لدى جميع الفاعلين، وخاصة الموظفين المكلفين بإنفاذ القانون والقضاة؛ ضمان استقلالية وحيادية القضاء المحلي الذي سيتم إنشاؤه في إطار الحكم الذاتي وتعزيز ضمانات المحاكمة العادلة؛
توفير آليات رقابة وتظلم فعالة ومستقلة ومتاحة للجميع داخل الجهة؛ ضمان الحماية الكاملة للحقوق الثقافية واللغوية للمكون الحساني كمجموعة ذات خصوصية؛
ومواصلة معالجة الإرث المتعلق بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي قد تكون وقعت في الماضي من كلا الطرفين، في إطار مقاربة شاملة للعدالة الانتقالية تجمع بين كشف الحقيقة وجبر الضرر الفردي والجماعي والمساءلة (مع مراعاة مقتضيات المصالحة) وضمانات عدم التكرار، استلهاماً للمبادئ التي أرستها تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة.
ومجمل القول إن بناء ثقافة وممارسة راسخة لسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان في الأقاليم الجنوبية ليس فقط واجباً قانونياً وأخلاقياً، بل هو اختيار واستثمار في بناء مجتمع ديمقراطي ومستقر، قادر على احتضان مشروع الحكم الذاتي وضمان نجاحه.
المدخل المرتبط بالمصالحة:
تجاوز إرث الماضي، بناء الثقة، وتأسيس العيش المشترك
لا ريب في أي حل سياسي أو تسوية قانونية، مهما كانت متقدمة ومتقنة، أن لا يمكن أن تحقق سلاماً حقيقيا ما لم تترافق وتتأسس على عملية مصالحة وطنية ومجتمعية شاملة، تهدف إلى تضميد جراح الماضي الأليم، وتجاوز الانقسامات والصراعات التي خلفها النزاع، وإعادة بناء جسور الثقة المفقودة، وتأسيس مستقبل مشترك قائم على الاعتراف المتبادل والاحترام والتسامح والعيش المشترك بين جميع مكونات المجتمع في الصحراء، وبينهم وبين باقي مكونات الأمة المغربية.
ومن المسلم به ان نزاع الصحراء الذي امتد لعقود قد خلف آثاراً إنسانية واجتماعية ونفسية وسياسية عميقة على النسيج المجتمعي، سواء داخل الأقاليم الجنوبية أو بشكل خاص ومأساوي في مخيمات تندوف فوق التراب الجزائري، وترك إرثاً من المعاناة والضغائن والمظالم المتبادلة يتطلب معالجة شجاعة وحكيمة ومتأنية.
ويتوقع من مدخل المصالحة خلق الظروف الملائمة والمناخ النفسي والاجتماعي المواتي لطي صفحة الماضي بكل تعقيداته، والتوجه نحو المستقبل بروح من التفاؤل والأمل المشترك بحيث تتضمن عملية المصالحة هذه أبعاداً متعددة ومتشابكة:
أولاً، معالجة قضية المحتجزين في مخيمات تندوف، من خلال تسهيل عودتهم الطوعية والآمنة والكريمة إلى وطنهم الأم المغرب، وضمان إعادة اندماجهم السلس والكامل في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتوفير الدعم اللازم لهم للتغلب على الصعوبات التي قد تواجههم.
ثانياً، معالجة الإرث المتعلق بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي قد تكون ارتكبت في الماضي من قبل مختلف الأطراف المتورطة في النزاع (بما في ذلك الاختفاء القسري، والاعتقال التعسفي، والتعذيب، والإعدامات خارج نطاق القضاء، وغيرها)، ويتطلب ذلك تفعيل آليات العدالة الانتقالية (Transitional Justice) التي تجمع بين الحق في معرفة الحقيقة (Truth)، والحق في جبر الضرر للضحايا وعائلاتهم (Reparation)، والحق في المساءلة والمحاسبة (Accountability) للمسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة (مع مراعاة ضرورات السلم الاجتماعي ومتطلبات عدم الإفلات من العقاب في الجرائم الدولية)، والحق في الإصلاحات المؤسسية لضمان عدم تكرار الانتهاكات في المستقبل (Guarantees of Non-recurrence) .
انطلاقاً من الاعتبارات السابقة راكم المغرب تجربة رائدة ومشهوداً لها دولياً في مجال العدالة الانتقالية من خلال عمل هيئة الإنصاف والمصالحة بين عامي 2004 و2005، التي تناولت ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المغرب بين عامي 1956 و1999، ويمكن الاستلهام بشكل كبير من منهجية هذه الهيئة وآلياتها وتوصياتها في بلورة مقاربة للمصالحة خاصة بسياق نزاع الصحراء، تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات هذا النزاع وتحدياته.
ثالثاً، حفظ الذاكرة الجماعية (Collective Memory) بكل تناقضاتها وتعدد رواياتها، ليس بهدف إثارة النعرات، بل بهدف استخلاص العبر والدروس من الماضي وتكريم الضحايا ومنع النسيان، من خلال إنشاء متاحف أو نصب تذكارية أو أرشيفات تاريخية، وتشجيع البحث العلمي والتاريخي النزيه حول فترة النزاع.
رابعاً، تعزيز الحوار المجتمعي وبناء الثقة على المستوى المحلي، من خلال تنظيم لقاءات حوار بين مختلف مكونات المجتمع الصحراوي، بما في ذلك العائدون من تندوف، وتشجيع المبادرات المحلية للمصالحة والتسامح التي يقودها المجتمع المدني والزعمات التقليدية من شيوخ القبائل، والشخصيات الدينية، والنسائية، والشبابية.
خامساً، يجب أن تشمل المصالحة أيضاً البعد النفسي والاجتماعي، من خلال توفير برامج الدعم النفسي والاجتماعي للضحايا وعائلاتهم، ومساعدتهم على تجاوز الصدمات النفسية المرتبطة بالنزاع والعنف، إن تحقيق المصالحة ليس عملية سهلة أو سريعة، ولا يمكن فرضها من فوق، بل هي مسار طويل وشاق ومعقد، يتطلب إرادة سياسية قوية وصادقة من أعلى المستويات، ومشاركة واسعة من جميع فئات المجتمع، وصبراً ومثابرة والتزاماً من الجميع، ولكنه يبقى شرطاً ضرورياً وأساسياً لتحويل اتفاق الحكم الذاتي من مجرد تسوية سياسية أو قانونية فوقية إلى عقد اجتماعي جديد ومتين، يرتكز على قناعة ورضى وقبول جميع مكونات المجتمع، ويطوي صفحة الماضي الأليم بكل مآسيه، ويفتح آفاقاً واعدة لمستقبل يسوده السلام والعدل والتعايش والتنمية المشتركة لجميع أبناء الصحراء في ظل مغرب موحد، قوي، ديمقراطي، ومتصالح مع ذاته ومع تاريخه.
المدخل المرتبط بالهيئة الناخبة:
إشكالية التحديد بين الحق التاريخي ومتطلبات الحل السياسي
يطرح تنزيل مبادرة الحكم الذاتي، وخاصة في شقه المتعلق بإنشاء هيئات جهوية منتخبة (برلمان وحكومة جهوية) تتمتع بصلاحيات واسعة، مسألة حساسة ومعقدة من الناحية القانونية والسياسية والديمغرافية، وهي مسألة تحديد "الهيئة الناخبة" (Electorate)، أي مجموع الأشخاص الذين سيحق لهم المشاركة في انتخاب هذه الهيئات ومن ثم الاستفادة من الحقوق وتحمل الواجبات المرتبطة بنظام الحكم الذاتي.
فالهيئة الناخبة أو الجسم الشعبي الذي يحق له التعبير عن إرادته فيما يتعلق بمستقبل إقليم الصحراء بهذا المنحى تعد إحدى أكثر النقاط حساسية وتعقيداً في صلب النزاع، سواء في سياق خطط التسوية السابقة القائمة على الاستفتاء أو في إطار النقاش الحالي حول تنزيل حل سياسي قائم على الحكم الذاتي، إن تحديد "من" له الحق في المشاركة في تقرير مصير الإقليم أو في انتخاب هيئاته التمثيلية المستقبلية ليس مجرد مسألة إجرائية، بل يمس جوهر مبدأ تقرير المصير نفسه ويطرح إشكاليات قانونية وسياسية وديموغرافية عميقة الجذور.
وفي هذا الإطار، يكتسب الإحصاء الذي أجرته السلطات الاستعمارية الإسبانية عام 1974 أهمية قانونية وتاريخية مركزية، لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها عند مقاربة مسألة الهيئة الناخبة، فهذا الإحصاء، على الرغم من الانتقادات التي قد توجه لمنهجيته أو شموليته، يمثل اللبنة الأساسية والمرجع الرسمي الوحيد المتاح والمعترف به دولياً لتحديد هوية السكان الذين كانوا يقطنون فعلياً في إقليم "الصحراء الإسبانية" عشية إنهاء الاستعمار الإسباني واندلاع النزاع.
كما استقر القانون الدولي المتعلق بتصفية الاستعمار، ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وقرارات الجمعية العامة ذات الصلة (خاصة القرار 1514 (د-15) بشأن منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة، والقرار 1541 (د-15) الذي يحدد المبادئ التي يجب أن تسترشد بها الدول الأعضاء في تحديد ما إذا كان يترتب عليها أو لا يترتب عليها الالتزام المنصوص عليه في المادة 73 (هـ) من الميثاق المتعلقة بنقل المعلومات عن الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي)، على إن الحق في تقرير المصير الخارجي (External Self-determination)، أي الحق في تحديد الوضع السياسي النهائي للإقليم (الاستقلال، الاندماج، أو أي وضع سياسي آخر يتم اختياره بحرية)، يعود للشعب الأصلي للإقليم غير المتمتع بالحكم الذاتي كما كان معرفاً وموجوداً في "التاريخ الحاسم" (Critical Date)، أي لحظة انتهاء السيطرة الاستعمارية أو الفترة التي تسبقها مباشرة.
وبالتالي شكل هذا المبدأ الأساس الذي قامت عليه جهود الأمم المتحدة لتنظيم استفتاء تقرير المصير في الصحراء بموجب خطة التسوية لعام 1991، حيث أنشأت الأمم المتحدة "لجنة تحديد الهوية" (Identification Commission) التابعة لبعثة المينورسو، وكلفتها بمهمة مضنية ومعقدة تمثلت في تحديد هوية الأفراد الذين يحق لهم المشاركة في الاستفتاء، وذلك بالاعتماد بشكل أساسي على إحصاء 1974 الإسباني كقاعدة بيانات مرجعية، مع معايير إضافية للتحقق من الانتماء للإقليم، وقد واجهت هذه العملية صعوبات جمة وعراقيل سياسية أدت في نهاية المطاف إلى استحالة إتمامها وتعثر خطة التسوية برمتها، وكان من أبرز أسباب هذا التعثر هو الخلاف العميق حول تفسير وتطبيق معايير الأهلية، ومحاولات إدراج أعداد كبيرة من الأفراد الذين لم تثبت صلتهم المباشرة والمستمرة بالإقليم قبل عام 1975.
وفي ضوء ما تقدم برزت أهمية الحجة القانونية والسياسية القائلة بضرورة الحفاظ على نقاء وسلامة الهيئة الناخبة الأصلية المنبثقة عن إحصاء 1974 وذريتهم المباشرة، وعدم السماح بـ"إغراقها" أو "تمييعها" من خلال إدراج أعداد كبيرة من السكان القادمين من دول الجوار (كالجزائر وموريتانيا ومالي وغيرها)، حتى وإن كانوا يتقاسمون بعض الخصائص اللغوية (الحسانية) أو الثقافية أو القبلية مع سكان الصحراء الأصليين، فالانتماء القبلي أو الثقافي العابر للحدود، وهو سمة مميزة للمنطقة الساحلية-الصحراوية بأكملها، لا يمنح تلقائياً الحق في تقرير المصير السياسي لإقليم محدد له حدوده المعترف بها دولياً كإقليم غير متمتع بالحكم الذاتي.
وهذا القلق سبق وان عبرت عنه المملكة المغربية فيما يتعلق بأي حديث مستقبلي عن "حق العودة" لسكان المخيمات إلى الأقاليم الجنوبية، حيث أكد ممثلها الدائم لدى الأمم المتحدة السفير عمر هلال، أن أي عملية للعودة يجب أن تجد مرجعيتها القانونية الوحيدة والحصرية في الإطار الذي تم اعتماده دولياً لهذا الغرض، والمتمثل بشكل أساسي في الإحصاء السكاني الذي أجرته الإدارة الاستعمارية الإسبانية عام 1974، وموضحا أن غياب إحصاء رسمي يفتح الباب أمام التلاعب بالتركيبة السكانية للمخيمات وإدخال أفراد لا تربطهم علاقة تاريخية أو ديمغرافية بالأقاليم الجنوبية.
وحيث إن الحق في تقرير المصير، في سياق تصفية الاستعمار، يبقى حق للسكان المحددين المرتبطين بالإقليم المعني بالذات، وليس حقاً مفتوحاً لكل من يشاركهم بعض السمات الثقافية أو الإثنية عبر الحدود، فإن أي محاولة لتوسيع نطاق الهيئة الناخبة بشكل مصطنع لتشمل مجموعات سكانية لا تنتمي تاريخياً وجغرافياً لمنطقة النزاع المحددة، من شأنها أن تشوه جوهر مبدأ تقرير المصير، وتحرف مساره لخدمة أجندات سياسية لدول أخرى، وتخل بالتوازن الديموغرافي الذي كان قائماً عشية إنهاء الاستعمار، وهو ما يتعارض مع روح ونص قرارات الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي المتعلقة بتصفية الاستعمار.
ومع التسليم بأن مسار الأمم المتحدة قد تطور نحو البحث عن "حل سياسي واقعي وعملي ودائم وقائم على التوافق"، وأن مجلس الأمن قد وصف المبادرة المغربية للحكم الذاتي بأنها "جدية وذات مصداقية"، فإن هذا التطور لا يلغي الأهمية القانونية والتاريخية لإحصاء 1974 كمرجع أساسي لتحديد "النواة الصلبة" للساكنة الصحراوية الذي يعود لها الحق الأصيل في التعبير عن إرادتها بشأن مستقبل الإقليم، فحتى في إطار حل قائم على الحكم الذاتي ضمن السيادة المغربية، فإن قبول وموافقة السكان الصحراويين الأصليين المنحدرين من هذا الإحصاء على هذا الحل يعتبر شرطاً جوهرياً لضمان شرعيته ومصداقيته واستدامته، يجب أن يتضمن أي اتفاق نهائي آليات واضحة تضمن أن تكون لهذه المجموعة السكانية الأصلية الكلمة الفصل أو الدور المحوري في المصادقة على نظام الحكم الذاتي، وأن يتمتعوا بضمانات خاصة داخل مؤسسات الحكم الذاتي المستقبلية تحافظ على هويتهم وحقوقهم ودورهم الريادي في تدبير شؤون جهتهم.
على إن هذا التأكيد على مركزية دور السكان الصحراويين الأصليين المنبثقين عن إحصاء 1974 لا يعني بالضرورة إقصاءً كاملاً لباقي المواطنين المغاربة المقيمين حالياً في الأقاليم الجنوبية او امتدادات القبائل المعنية في باقي المجالات الترابية خاصة بجهة كلميم وادنون للمساهمة في تنمية الاقليم وادارة شؤونهم عبر المؤسسات المنتخبة، فمبادئ الديمقراطية والمواطنة الحديثة تقتضي ضمان حقوق المشاركة السياسية لجميع المقيمين الشرعيين.
ولكن في مقابل ذلك يجب التمييز بوضوح بين الحق التاريخي والقانوني في تقرير المصير المرتبط بسياق يعود بالأساس للسكان الأصليين المحددين في الإحصاء المذكور، وبين آليات الممارسة الديمقراطية اليومية للحكم الذاتي وتدبير الشأن المحلي في المستقبل، والتي يمكن أن تشمل مشاركة أوسع للمقيمين الحاليين وفق ضوابط قانونية واضحة، حيث يجب أن يضمن نظام الحكم الذاتي التوازن الدقيق بين احترام الحقوق التاريخية الراسخة للسكان الصحراويين الأصليين ودورهم المحوري، وبين متطلبات الحكامة الديمقراطية والفعالة التي تشمل جميع مكونات المجتمع المحلي المقيم بصفة قانونية، مع الحرص المطلق على عدم تكرار محاولات الجزائر لتغيير التركيبة الديموغرافية للإقليم بشكل مصطنع من خلال استقدام سكان من خارج منطقة النزاع المحددة، لإن احترام هذه المبادئ هو الكفيل الوحيد بضمان حل عادل ودائم يحترم القانون الدولي ويستجيب لتطلعات السكان المعنيين الحقيقيين.
المدخل المرتبط بتأهيل النخب الصحراوية:
بناء القدرات المؤسسية والبشرية وتمكين القيادات المحلية
بادئ ذي بدء يعتمد نجاح أي تجربة للحكم الذاتي، بشكل حاسم، على مدى توفر وجاهزية وكفاءة النخب المحلية (السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية) لتولي المسؤوليات الجسيمة والمعقدة التي ستناط بها في تسيير شؤون الجهة المتمتعة بالحكم الذاتي، فالغاية الأساسية من الحكم الذاتي ليست مجرد نقل الصلاحيات شكلياً من المركز إلى الجهة، بل هي تمكين فعلي وحقيقي للساكنة المحلية، عبر ممثليها ونخبها، من تدبير أمورها بنفسها، واتخاذ القرارات التي تهم مستقبلها، وتنفيذ السياسات والبرامج التي تستجيب لاحتياجاتها وتطلعاتها.
و تأسيساً على هذا يتطلب الامر بالضرورة وجود كوادر وقيادات محلية مؤهلة ومتمكنة ومستعدة لتسلم زمام المبادرة في مختلف المجالات التي ستحتويها الصلاحيات الواسعة للحكم الذاتي، والتي قد تشمل كما هو مقترح في المبادرة المغربية، مجالات التشريع المحلي، والتنفيذ الحكومي الجهوي، والتخطيط الاستراتيجي، وإدارة الميزانية والمالية المحلية، وتدبير الموارد البشرية الجهوية، وتطوير البنيات التحتية، وإدارة القطاعات الاجتماعية، وتعزيز الثقافة المحلية، وحتى نسج علاقات تعاون خارجية في مجالات محددة، مما يجعل تأهيل النخب الصحراوية وبناء القدرات المؤسسية والبشرية على المستوى الجهوي مدخلاً حيوياً يواكب عملية التنزيل التدريجي للحكم الذاتي ويتضمن هذا التأهيل أبعاداً متعددة نذكر منها:
التأهيل السياسي، الذي يهدف إلى تمكين المنتخبين المحليين والفاعلين السياسيين من فهم أعمق لمبادئ الحكم الذاتي، وآليات عمل المؤسسات الديمقراطية (البرلمان والحكومة الجهويين)، وتقنيات التفاوض وصنع السياسات العامة، وقواعد الحكامة الجيدة والشفافية والمساءلة،
التأهيل الإداري والقانوني، الذي يستهدف الأطر والموظفين الإداريين المحليين لتزويدهم بالمعارف والمهارات اللازمة لإدارة الإدارات والمرافق العمومية الجهوية بكفاءة وفعالية، وفهم الإطار القانوني المنظم لصلاحيات الجهة وعلاقتها بالمركز، وإتقان تقنيات التدبير الإداري الحديث (التخطيط، التنظيم، التوجيه، الرقابة).
التأهيل التقني والقطاعي، الذي يركز على تكوين خبراء وأخصائيين محليين في مجالات حيوية للتنمية الجهوية، مثل التخطيط الاستراتيجي والتنمية الترابية، والهندسة المالية وإدارة الميزانيات، وإدارة المشاريع الكبرى، وتدبير الموارد الطبيعية (المياه، الطاقة، البيئة)، وتكنولوجيا المعلومات والاتصال، والتسويق الترابي وجذب الاستثمارات.
التأهيل القيادي وتنمية المهارات الناعمة، الذي يسعى إلى تنمية مهارات القيادة والتواصل الفعال والتفاوض وحل النزاعات لدى الشخصيات التي ستتولى المناصب العليا والمسؤوليات القيادية في هيئات الحكم الذاتي، وتعزيز قدرتها على تعبئة الموارد وتحفيز الفرق وبناء الشراكات.
وقد بدأ المغرب بالفعل في الاستثمار في الرأسمال البشري من خلال برامج متنوعة للتكوين المستمر ودعم الكفاءات المحلية في الأقاليم الجنوبية، وتشجيع مشاركة الشباب والنساء في الحياة السياسية والاقتصادية والجمعوية، وإتاحة الفرص للكفاءات الصحراوية لتولي مناصب المسؤولية على المستوى المحلي والجهوي والوطني، ومع ذلك فإن متطلبات تنزيل نظام حكم ذاتي موسع تتطلب تكثيف هذه الجهود بشكل كبير، ووضع خطة وطنية متكاملة وطموحة لبناء القدرات (Capacity Building Plan) تستهدف مختلف الفئات المعنية، وتعتمد على مناهج حديثة، وتستفيد من الخبرات الوطنية والدولية المتخصصة في مجال اللامركزية والحكم الذاتي وبناء قدرات الإدارة المحلية.
بيد أن تصميم هذه الخطة يجب أن يتم بشكل تشاركي مع الفاعلين المحليين لتحديد الاحتياجات بدقة، وأن توفر برامج تكوينية نظرية وعملية، بما في ذلك التدريب الميداني وتبادل الخبرات مع جهات أخرى داخل المغرب وخارجه، كما يجب أن يهدف هذا التأهيل ليس فقط إلى نقل المعرفة والمهارات التقنية، بل أيضاً وبشكل أساسي إلى ترسيخ قيم المسؤولية والنزاهة والشفافية والمصلحة العامة والخدمة العمومية لدى النخب المحلية التي ستتحمل أمانة تدبير شؤون الجهة.
ولا شك إن نظام للحكم الذاتي، مهما كانت أسسه الدستورية والقانونية متينة، يعتمد بشكل حاسم ومباشر على مدى توفر وجاهزية وكفاءة النخب المحلية التي ستناط بها مسؤولية تسيير وإدارة شؤون الجهة المتمتعة بهذا النظام، فالغاية الجوهرية من الحكم الذاتي تتجاوز مجرد نقل الصلاحيات الإدارية أو التشريعية من المركز إلى المحيط؛ إنها تهدف بالأساس إلى تمكين فعلي وحقيقي للسكان المحليين، من خلال نخبهم وقياداتهم المنتخبة والمعينة، من ممارسة "التدبير الحر" لشؤونهم، واتخاذ القرارات التي تلامس واقعهم وتستجيب لتطلعاتهم، وتنفيذ السياسات والبرامج التنموية بكفاءة ومسؤولية، وذلك ضمن إطار السيادة الوطنية والوحدة الترابية.
وهذا يتطلب، بشكل حتمي، وجود كوادر بشرية وقيادات محلية مؤهلة ومتمكنة علمياً وعملياً، ومستعدة لتولي المسؤوليات الجسيمة والمعقدة التي ستشملها الصلاحيات الواسعة لنظام الحكم الذاتي المقترح، والتي تمس السلطات الثلاث: التشريعية، التنفيذية، والقضائية على المستوى الجهوي.
وفي هذا الإطار يكتسي تأهيل الكفاءات لتولي مهام السلطة القضائية الجهوية أهمية بالغة، لضمان سيادة القانون وحماية الحقوق والحريات داخل الجهة، وتجدر الإشارة إلى أن المبادرة المغربية قد نصت على إنشاء محاكم جهوية (الفقرة 22 و 23)، مما يستدعي إعداد قضاة وأطر قضائية مؤهلة لتشغيل هذه المحاكم، وهنا، يبرز دور المجلس الأعلى للسلطة القضائية، كهيئة دستورية ضامنة لاستقلال القضاء، في الاضطلاع بمهمة اساسية تتمثل في استقطاب الكفاءات القانونية والقضائية من أبناء الأقاليم الجنوبية وتأهيلها وتكوينها بشكل متخصص لتولي مختلف مهام ومناصب السلطة القضائية في إطار الحكم الذاتي (قضاة حكم، قضاة نيابة عامة، قضاة تحقيق، كتاب ضبط، مساعدو قضاء، إلخ)، ومما يسهل هذه المهمة، التوفر الملحوظ والكثير لهذه الكفاءات القانونية الصحراوية داخل هياكل وزارة العدل الحالية وفي مختلف أسلاك المهن القضائية والقانونية الأخرى.
أخذاً في الاعتبار ما سبق فإن استثمار هذه الطاقات البشرية وتأهيلها بشكل جيد سيضمن قيام قضاء جهوي مستقل، كفء، ونزيه، قريب من المتقاضين، وملم بخصوصيات المنطقة وأعرافها، وقادر على تطبيق القانون بروح العدل والإنصاف، مما يعزز ثقة المواطنين في نظام الحكم الذاتي برمته.
وفي سياق متصل على صعيد السلطة التنفيذية الجهوية، التي ستكون مسؤولة عن تنفيذ القوانين والسياسات الجهوية وتدبير الإدارة والمرافق العمومية المحلية، فإن تأهيل الأطر الإدارية والتقنية يعد شرطاً أساسياً لفعاليتها، ولا يقتصر هذا التأهيل على التكوين المستمر فحسب، بل يجب أن يشمل أيضاً، وكخطوة استباقية وتحضيرية مهمة، قيام السلطة التنفيذية المركزية (الحكومة) بتبني سياسة واضحة وممنهجة لتعيين وتوظيف الأطر الإدارية الكفؤة من أبناء الأقاليم الجنوبية في مناصب المسؤولية داخل الإدارات المركزية نفسها، لا سيما في مواقع حساسة كالمديريات المركزية ومناصب الكتابة العامة بالوزارات.
إن هذه المقاربة لا تهدف فقط إلى تعزيز التمثيلية الجهوية داخل دواليب الدولة المركزية، بل تهدف بالأساس إلى إكساب هذه الأطر تجربة عملية غنية ومعمقة في تدبير الشأن العام على المستوى الوطني، واطلاعها على آليات صنع القرار وتنسيق السياسات القطاعية.
وعليه تبرز ضرورة حتمية أن تعمل وزارة الداخلية بشكل خاص على تأهيل أطرها الصحراوية التي تزخر بها هياكلها المركزية والترابية، وذلك لتمكينهم من تولي المهام القيادية في الإدارة الترابية، كمناصب العمال والولاة لإن تنزيل الحكم الذاتي يقتضي بشكل ملح ترقية الأطر الصحراوية الكثيرة التي تزخر بها الوزارة وإعطاء أولوية قصوى لهذه الخطوة لما لها من أهمية بالغة في هذه المرحلة الحاسمة، لضمان أن تكون الإدارة الترابية، كممثل للسلطة المركزية وضامن لتطبيق القانون، تحت قيادة أبناء المنطقة العارفين بخصوصياتها، مما يسهل التنسيق ويعزز الثقة المتبادلة، وهذا التأهيل المسبق سيمكنهم من تولي المهام القيادية في هياكل السلطة التنفيذية لجهة الحكم الذاتي المستقبلية (الحكومة الجهوية وإداراتها) بكفاءة واقتدار، مما يضمن انتقالاً سلساً وفعالاً للسلطات التنفيذية.
فضلاً عن ما تقدم فإن ضمان الأمن الداخلي يمثل بدوره ركيزة أساسية لاستقرار ونجاح تجربة الحكم الذاتي، وهنا تبرز ضرورة قيام الإدارة العامة للأمن الوطني بتبني استراتيجية استباقية لترقية وتكوين الأطر الأمنية العليا والمتوسطة من أبناء الأقاليم الجنوبية، مع التركيز على تأهيلهم لتولي المسؤوليات القيادية في مجال الأمن على المستوى الجهوي، بما يسمح إعدادهم لتولي مهام ولاة الأمن، وعمداء الشرطة بمختلف رتبهم، وضباط الأمن، القادرين على قيادة وإدارة جهاز الشرطة المحلية الذي سيتم إنشاؤه بموجب نظام الحكم الذاتي، بالإضافة إلى المساهمة الفعالة في باقي هياكل الأجهزة الأمنية العاملة بالجهة، حيث إن وجود قيادات أمنية محلية كفؤة، متدربة، وملمة بالواقع الاجتماعي والثقافي للمنطقة، سيعزز من فعالية العمل الأمني، ويقوي علاقة الثقة بين جهاز الأمن والمواطنين، ويضمن تطبيق القانون وحفظ النظام العام بطريقة تحترم الحقوق والحريات وتراعي الخصوصيات المحلية، وهو أمر حيوي لترسيخ الشعور بالأمن والاستقرار لدى الساكنة.
وفي منحى متصل فانه عندما يتعلق الامر بالسلطة التشريعية الجهوية (البرلمان الجهوي)، فإن الوضع يبدو أكثر تقدماً وجاهزية نسبياً، فقد أفرزت الممارسة الديمقراطية والانتخابية في الأقاليم الجنوبية على مدى العقود الماضية، سواء على مستوى المجالس الجماعية والإقليمية والجهوية أو على مستوى التمثيلية في البرلمان الوطني بغرفتيه، نخباً سياسية ومنتخبة تتمتع بتجربة متميزة وكفاءة مشهودة في تدبير الشأن العام والعمل البرلماني والتشريعي، وتتميز هذه النخب بكونها مختلطة ومتنوعة، حيث تجمع بين النخب التقليدية (شيوخ القبائل والأعيان) التي تحظى بشرعية تاريخية ومعرفة عميقة بالمجتمع المحلي، وبين النخب الجديدة من الأطر الشابة والمتعلمة والنساء والفاعلين الاقتصاديين والمدنيين الذين يمثلون الدينامية الحديثة للمجتمع.
ولعل هذا المزيج الغني من الخبرة التقليدية والكفاءة الحديثة، ومن الشرعية التاريخية والشرعية الديمقراطية، يشكل رصيداً هاماً يؤهل السلطة التشريعية الجهوية المستقبلية للقيام بمهامها في التشريع المحلي والرقابة على الحكومة الجهوية وتمثيل مصالح سكان المنطقة بفعالية ومسؤولية، ومع ذلك، يبقى من الضروري مواصلة دعم وتطوير قدرات هذه النخب المنتخبة من خلال برامج تكوينية متخصصة في تقنيات التشريع والرقابة البرلمانية وتقييم السياسات العمومية.
وصفوة القول إن الاستثمار التدريجي الممنهج في تأهيل النخب الصحراوية عبر هذه المداخل المتخصصة للسلطات الثلاث (القضائية، التنفيذية، التشريعية)، بالإضافة إلى التأهيل العام في مجالات القيادة والتخطيط والحكامة وللأدوار القيادية في مجالات الأمن والإدارة الترابية، لا يمثل فقط ضرورة تقنية لضمان حسن سير مؤسسات الحكم الذاتي، بل هو أيضاً تعبير سياسي قوي عن الثقة في قدرات أبناء المنطقة، والتزام فعلي بتمكينهم من تدبير شؤونهم بأنفسهم، وتجسيد عملي لجوهر مشروع الحكم الذاتي كإطار ديمقراطي وتنموي يهدف إلى تحقيق الرفاه والكرامة لجميع سكان الصحراء في ظل السيادة المغربية والوحدة الوطنية بما يعزز اندماجها وتطورها في إطار مغرب موحد ومتقدم.
وبالتالي فالرهان على وجود نخبة صحراوية مؤهلة، كفؤة، وطنية، ملتزمة بقيم الديمقراطية والحكامة الجيدة، ومؤمنة بمشروع الحكم الذاتي كإطار للتقدم والازدهار ضمن السيادة المغربية، هو الضمانة الأساسية لتحويل هذا المشروع من مجرد نص قانوني أو اتفاق سياسي إلى ممارسة على ارض الواقع.
المدخل الإجرائي:
بناء الثقة، إدارة التعقيد، وتحقيق الواقعية
ويستفاد من المدخل الإجرائي التدريجي التراكمي أن تنزيل مشروع سياسي ومؤسساتي معقد وطموح بحجم الحكم الذاتي، خاصة في سياق نزاع طويل الأمد يتسم بانعدام الثقة بين بعض الأطراف وبتراكمات تاريخية وسياسية معقدة، يتطلب فلسفة براغماتية واقعية ومقاربة مرنة وحذرة، تعتمد على التقدم خطوة بخطوة (Step-by-step approach)، لبناء الثقة بشكل متواصل وتدريجي، وتقييم النتائج المحققة في كل مرحلة وتصحيح المسار عند الضرورة.
فبدلاً من محاولة تطبيق شامل وفوري لجميع جوانب نظام الحكم الذاتي دفعة واحدة، بما قد يثير مقاومة غير متوقعة أو يؤدي إلى صعوبات عملية في التنفيذ أو يخلق فراغاً مؤسسياً، تقترح هذه المقاربة البدء بتفعيل الجوانب التي تحظى بتوافق أوسع أو التي تعتبر ذات أولوية ملحة أو الأقل إثارة للجدل، مع تأجيل الجوانب الأكثر تعقيداً أو حساسية، مثل نقل بعض الصلاحيات السيادية أو إنشاء هيئات قضائية محلية متخصصة، إلى مراحل لاحقة بعد توفر الشروط اللازمة.
ومن الأهمية بما كان التوضيح ان هذا التدرج المدروس يهدف في المراحل الأولى إلى تحقيق "مكاسب سريعة وملموسة" (Quick Wins) ، مما يعزز ثقة الساكنة المحلية والفاعلين السياسيين في جدوى العملية، ويظهر بشكل عملي الفوائد الملموسة للحكم الذاتي كإطار لتحسين ظروف العيش وتعزيز المشاركة الديمقراطية.
يمكن أن يشمل هذا التدرج على سبيل المثال البدء بنقل صلاحيات محددة وواضحة في مجالات التنمية الاقتصادية المحلية (مثل تشجيع الاستثمار المحلي، دعم المقاولات الصغرى والمتوسطة)، أو الشؤون الاجتماعية (إدارة برامج المساعدة الاجتماعية المحلية)، أو الثقافة (دعم الجمعيات الثقافية المحلية، تنظيم مهرجانات جهوية)، أو البيئة (تدبير النفايات الصلبة، حماية المواقع الطبيعية المحلية)، إلى المجالس الجهوية المنتخبة الحالية أو تلك التي سيتم انتخابها وفق القانون التنظيمي الجديد.
ويترافق هذا النقل التدريجي للصلاحيات مع تزويد الهيئات الجهوية بالموارد المالية والبشرية اللازمة لممارستها بفعالية، إضافة الى برامج مكثفة لبناء قدرات المنتخبين والأطر الإدارية المحلية، ومع تحقيق النجاح في هذه المجالات الأولية، وتراكم الخبرة العملية لدى الفاعلين المحليين، وتوطيد آليات التنسيق والتعاون بين السلطات المركزية والجهوية، وتعزيز مناخ الثقة المتبادلة، يمكن الانتقال تدريجياً في مراحل لاحقة إلى نقل صلاحيات أوسع وأكثر حساسية، مثل صلاحيات تشريعية محلية في مجالات محددة، أو إدارة قطاعات حيوية كالتعليم أو الصحة على المستوى الجهوي، أو إنشاء الشرطة المحلية، وصولاً في نهاية المطاف إلى التطبيق الكامل والمتكامل لنظام الحكم الذاتي الموسع كما سيتم تحديده في الاتفاق السياسي النهائي والقانون التنظيمي المطبق له.
وسوف تسمح هذه المقاربة التراكمية بالتعلم المستمر من التجربة (Learning by doing)، وتكييف الآليات والإجراءات التنظيمية مع الواقع المتغير واحتياجات الساكنة، وإدارة التوقعات بشكل واقعي لدى جميع الأطراف، وتجنب الصدمات المؤسسية أو السياسية المفاجئة، كما تتيح وقتاً كافياً لبناء التوافق السياسي والاجتماعي اللازم حول كل خطوة من خطوات التنفيذ، وتفكيك المقاومات المحتملة بشكل تدريجي.
ويشير خبراء إدارة التغيير وتنفيذ السياسات العامة إلى أن المقاربات التدريجية والتصاعدة (Incrementalism) غالباً ما تكون أكثر نجاحاً واستدامة في البيئات السياسية والاجتماعية المعقدة وغير المستقرة، لأنها تقلل من المخاطر الكلية، وتسمح بالتكيف المستمر مع الظروف، وتزيد من فرص قبول التغيير من قبل الفاعلين المعنيين.
في سياق تنزيل الحكم الذاتي بالصحراء، يمكن لهذا المدخل أن يساعد في تجاوز العقبات التاريخية والنفسية، وإشراك مختلف الفاعلين بشكل متزايد في بناء المشروع، وتحويل الحكم الذاتي من مجرد مفهوم نظري إلى مسار عملي ملموسة يتطور بشكل تدريجي، مما يجعله أكثر جاذبية وقابلية للتطبيق على المدى الطويل، يتطلب هذا المدخل، بطبيعة الحال، تخطيطاً استراتيجياً دقيقاً يحدد بوضوح مراحل التنفيذ وأولوياتها ومؤشرات قياس التقدم، وآليات مرنة وشفافة للمتابعة والتقييم والتصحيح المستمر للمسار.
المدخل المرتبط بالضمانات الدولية
استدامة الحل القائم على الحكم الذاتي
من المؤكد أنه حتى بعد التوصل إلى اتفاق سياسي نهائي حول الحكم الذاتي، وإقراره دستورياً وقانونياً، وتنزيله إجرائياً على الأرض، تظل مسألة ضمان استدامة هذا الحل على المدى الطويل، وحمايته من أي محاولات مستقبلية للتراجع عنه أو تقويضه، رهينة بتوفير إطار متين من الضمانات الدولية (International Guarantees).
وفي هذا الصدد يرى الفقه الغالب أن بناء آلية أو ترتيبات دولية، تحظى بقبول الأطراف المعنية ومباركة المجتمع الدولي، وبشكل خاص مجلس الأمن الدولي، سوف تضمن احترام جميع الأطراف لالتزاماتها بموجب الاتفاق، وتمنع أي طرف من التنصل منها، وتساهم في ترسيخ الحل السياسي وتثبيت الاستقرار الإقليمي بشكل دائم، بحيث تكتسب هذه الضمانات الدولية أهمية حاسمة بالنظر إلى الطبيعة المعقدة للنزاع، وتاريخه الطويل الحافل بالتوتر وانعدام الثقة بين بعض الأطراف، ووجود قوى إقليمية قد تكون لها مصالح متباينة تجاه الحل، واحتمال ظهور تحديات أو خلافات في المستقبل حول تفسير أو تطبيق بنود اتفاق الحكم الذاتي.
ما يستدعي الإيضاح هنا هو إن وجود ضمانات دولية قوية وذات مصداقية تعمل كشبكة أمان تحمي الاتفاق وتزيد من فرص نجاحه واستمراريته، ويمكن أن تتخذ هذه الضمانات الدولية أشكالاً متعددة ومتكاملة، يتم التفاوض بشأن تفاصيلها بين الأطراف المعنية وبمواكبة من الأمم المتحدة والقوى الدولية المؤثرة، بحيث قد تشمل هذه الضمانات المحتملة، على سبيل المثال:
أولاً، إقرار الاتفاق النهائي في قرار ملزم لمجلس الأمن الدولي، ربما بموجب الفصل السابع من الميثاق إذا سمحت الظروف السياسية بذلك (وهو أمر صعب التحقق لكنه يظل الطموح الأعلى)، أو على الأقل تبني قرار قوي بموجب الفصل السادس يؤيد الاتفاق ويحث جميع الدول الأعضاء على احترامه ودعمه.
ثانياً، إنشاء آلية دولية محددة لمراقبة تنفيذ الاتفاق بشكل نزيه وموضوعي، ورفع تقارير دورية إلى الأمين العام ومجلس الأمن حول مدى التزام الأطراف ببنوده، يمكن أن يتم ذلك من خلال تكييف وتوسيع ولاية بعثة المينورسو الحالية، أو إنشاء هيئة مراقبة جديدة لهذا الغرض، تتشكل من خبراء دوليين وممثلين عن الأطراف.
ثالثاً، التزام صريح وواضح من القوى الكبرى (خاصة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن) ومن الدول المجاورة ذات التأثير (خاصة الجزائر وموريتانيا) بدعم الاتفاق السياسي والامتناع عن أي عمل أو تصريح قد يقوضه أو يشجع على عدم احترامه، وتقديم الدعم السياسي والاقتصادي اللازم لنجاح تجربة الحكم الذاتي.
رابعاً، يمكن التفكير في نشر عدد محدود من المراقبين الدوليين (مدنيين أو عسكريين غير مسلحين) في مرحلة انتقالية أولى للمساهمة في بناء الثقة، وتأمين عملية عودة اللاجئين (إذا تمت)، وضمان سير الانتخابات الأولى لهيئات الحكم الذاتي بنزاهة وشفافية.
خامساً، وضع آلية دولية أو إقليمية محايدة وفعالة لتسوية المنازعات التي قد تنشأ في المستقبل حول تفسير أو تطبيق اتفاق الحكم الذاتي أو القانون التنظيمي المنبثق عنه، يمكن اللجوء إليها إذا فشلت الآليات الوطنية (مثل المحكمة الدستورية أو القضاء الإداري) في حسم الخلاف.
ولعل طبيعة ومدى هذه الضمانات الدولية سوف تعتمد بشكل كبير على موازين القوى الدولية والإقليمية السائدة عند التوصل إلى الحل، وعلى درجة التوافق التي ستحيط بالاتفاق السياسي، وقد أشار المغرب في مبادرته الأصلية للحكم الذاتي إلى انفتاحه واستعداده لمناقشة مسألة الضمانات اللازمة في إطار المفاوضات التي ترعاها الأمم المتحدة.
وصفوة القول إن الحصول على ضمانات دولية قوية وذات مصداقية من شأنه أن يعزز بشكل كبير ثقة جميع الأطراف المعنية، وخاصة ثقة ساكنة الصحراء، في مستقبل الحل واستدامته، ويشجع على الاستثمار الأجنبي المباشر في المنطقة، ويساهم في تطبيع العلاقات بين دول المغرب العربي بشكل نهائي، مما يخدم مصالح السلم والاستقرار والتنمية المشتركة في المنطقة بأسرها، وكما تظهر العديد من تجارب تسوية النزاعات الداخلية أو الإقليمية حول العالم، فإن الضمانات الدولية غالباً ما تلعب دوراً حاسماً في تأمين استدامة اتفاقات السلام الهشة، خاصة في مراحلها الأولى بعد عقود من الصراع وانعدام الثقة، لذلك يشكل العمل الدبلوماسي الهادئ والمستمر على بناء توافق دولي حول ضرورة وطبيعة هذه الضمانات جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية شاملة لتنزيل وتأمين نجاح مبادرة الحكم الذاتي وضمان عدم انتكاس المسار نحو الحل.
مداخل أخرى متكاملة وضرورية لنجاح التنزيل
بالإضافة إلى المداخل الرئيسية التي تم تحليلها بتفصيل، هناك مجموعة من المداخل الأخرى لا تقل أهمية عنها في عملية تنزيل مبادرة الحكم الذاتي، حيث تتفاعل بشكل وثيق ومترابط مع المداخل السابقة، وتشكل جزءاً لا يتجزأ من المقاربة الشمولية المطلوبة، من أبرز هذه المداخل:
المدخل الأمني: يظل ضمان الأمن والاستقرار في منطقة الصحراء، التي تقع في بيئة إقليمية هشة (منطقة الساحل والصحراء) وتواجه تحديات أمنية متزايدة (الإرهاب، الجريمة المنظمة العابرة للحدود، الاتجار بالبشر، الهجرة غير الشرعية، انتشار الأسلحة)، شرطاً أساسياً وحيوياً لنجاح أي حل سياسي ولكل جوانب التنمية والحياة الطبيعية، والأكيد ان ذلك يتطلب استمرار اليقظة والجهود الحثيثة التي تبذلها القوات المسلحة الملكية وقوات الأمن في تأمين الحدود، ومكافحة الشبكات الإجرامية والإرهابية، والحفاظ على النظام العام، وذلك بالتعاون والتنسيق مع الشركاء الإقليميين والدوليين في إطار مقاربات أمنية شاملة.
وفي سياق تنزيل الحكم الذاتي، يجب أن يحدد القانون التنظيمي بوضوح ودقة توزيع المسؤوليات الأمنية بين السلطات المركزية (التي تحتفظ بالمسؤولية عن الدفاع الوطني والأمن الخارجي ومكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب عبر مصالح الأمن الوطني والدرك الملكي والاستخبارات) والسلطات الجهوية التي ستُمنح صلاحية إنشاء وإدارة "شرطة محلية" (كما نصت الفقرة 12 من المبادرة) تكون مسؤولة عن حفظ النظام العام المحلي وتنظيم المرور وتطبيق القوانين والقرارات المحلية.
كما يجب وضع آليات تنسيق وتعاون فعالة بين مختلف الأجهزة الأمنية المركزية والمحلية لضمان التكامل وتجنب الازدواجية أو التنازع في الاختصاص، وقد يتطلب الأمر أيضاً، في إطار المصالحة وبناء الثقة، التفكير في آليات لإدماج بعض العناصر الصحراوية العائدة من تندوف، بعد تأهيلها والتحقق من سجلاتها، في هياكل الشرطة المحلية أو غيرها من الوظائف المدنية، كجزء من عملية إعادة الاندماج وتطبيع الحياة.
مدخل إدارة الموارد الطبيعية: تعتبر كيفية إدارة واستغلال الموارد الطبيعية الموجودة في منطقة الصحراء (مثل الفوسفاط، الثروة السمكية الوفيرة، إمكانات الطاقة الشمسية والريحية الهائلة، والموارد المائية الجوفية المحدودة) مسألة حساسة ومحورية، غالباً ما تستغلها الأطراف المناوئة للمغرب لإثارة الجدل وتوجيه اتهامات بـ “استغلال الثروات"، لذلك يجب أن يضمن نظام الحكم الذاتي، بشكل شفاف وقانوني وواضح، أن تعود عائدات استغلال هذه الموارد بالنفع المباشر والملموس على ساكنة المنطقة وتسهم في تنميتها، وقد عالجت المبادرة المغربية هذا الجانب في الفقرة 13 التي نصت على أن موارد الجهة المالية ستشمل "العائدات المتأتية من استغلال الموارد الطبيعية المرصودة للجهة" و "جزء من العائدات المحصلة من طرف الدولة والمتأتية من الموارد الطبيعية الموجودة في الجهة".
واستناداً لما ذُكر يتطلب تفعيل هذا المبدأ وضع آليات قانونية ومحاسبية شفافة وعادلة لتحديد كيفية رصد جزء من العائدات للجهة أو تخصيص نسبة منها لميزانيتها السنوية، مع الحفاظ على الإطار الوطني العام لتدبير هذه الموارد الاستراتيجية التي تعتبر ملكاً للأمة بأسرها، وقد أكد المغرب مراراً وتكراراً، وبالأرقام، على أن حجم الاستثمارات العمومية التي يضخها في الأقاليم الجنوبية يفوق بكثير العائدات المحصلة منها، وأن الهدف الأساسي من استغلال هذه الموارد هو خدمة التنمية المحلية وخلق فرص الشغل وتحسين مستوى عيش الساكنة، وهو ما يتجسد في مشاريع كبرى مثل تطوير مركب فوسبوكراع أو إنشاء اقتصاد ازرق أو مزارع الطاقات المتجددة بما يكرس مبدأ استفادة الساكنة المحلية من مواردها الطبيعية بشكل شفاف ومنصف ويقطع الطريق على أي مزاعم مغرضة.
مدخل إشراك المجتمع المدني: يلعب المجتمع المدني في الأقاليم الجنوبية دوراً متزايد الأهمية والحيوية في مختلف مجالات الحياة العامة، سواء في التنمية المحلية، أو الدفاع عن حقوق الإنسان، أو الحفاظ على التراث الثقافي، أو الترافع عن القضية الوطنية والمبادرة المغربية في المحافل الدولية والوطنية، وتجدر الإشارة إلى أن المجال يضم مئات الجمعيات النشطة في مختلف المجالات، والتي تتمتع بحرية العمل والتنظيم والتعبير في إطار القانون، يجب تعزيز هذا الدور المحوري للمجتمع المدني وإشراكه بفعالية في جميع مراحل عملية بلورة وتنفيذ ومتابعة وتقييم نظام الحكم الذاتي.
كنتيجة مباشرة لـهذا يمكن أن يلعب المجتمع المدني دوراً حاسماً في توعية وتعبئة المواطنين للمشاركة في العملية السياسية، والتعبير عن احتياجات وتطلعات الساكنة، ومراقبة أداء المؤسسات المنتخبة، والمساهمة في جهود المصالحة وبناء الثقة، لذلك، يجب أن ينص نظام الحكم الذاتي على آليات مؤسسية للحوار والتشاور المنتظم مع منظمات المجتمع المدني، وأن يوفر لها الدعم اللازم لتقوية قدراتها وتوسيع نطاق عملها، باعتبارها شريكاً أساسياً للدولة والمؤسسات المنتخبة في تحقيق التنمية.
مدخل الإعلام والتواصل: لا ريب في ذلك الحكم الذاتي، والتي تواجه حملات تضليل ودعاية مضادة شرسة، وضع وتنفيذ استراتيجية إعلامية وتواصلية محكمة وفعالة ومتعددة القنوات، تهدف هذه الاستراتيجية إلى شرح مضامين الحكم الذاتي وأهدافه وفوائده ومزاياه بشكل مبسط وواضح ومقنع لمختلف فئات الجمهور المستهدف: الرأي العام الوطني، الرأي العام الدولي وصناع القرار، وخصوصاً ساكنة الأقاليم الجنوبية، بما في ذلك المحتجزون في مخيمات تندوف الذين يتعرضون لتعتيم إعلامي وتضليل ممنهج.
يجب أن تستخدم هذه الاستراتيجية لغة خطاب متنوعة تتكيف مع كل جمهور (العربية، الحسانية، الأمازيغية، الفرنسية، الإنجليزية، الإسبانية)، وأن توظف مختلف الوسائل الإعلامية المتاحة (القنوات التلفزيونية والإذاعية الوطنية والجهوية كقناة العيون، الصحافة المكتوبة والإلكترونية، وكالات الأنباء)، مع التركيز بشكل خاص على الإعلام الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي التي أصبحت ساحة رئيسية للتأثير والتعبئة، يجب أن تركز الرسائل التواصلية على إبراز الجوانب الإيجابية والواعدة للحكم الذاتي كإطار للكرامة والديمقراطية والتنمية والوحدة، وتفنيد الادعاءات والمغالطات التي تروج لها الأطراف الأخرى، وتقديم قصص نجاح ملموسة من الواقع المعيش في الأقاليم الجنوبية، إن بناء فهم صحيح وتأييد واسع للمبادرة لدى مختلف الجماهير هو عنصر أساسي لنجاحها السياسي والشعبي.
مدخل التعاون الإقليمي (المغاربي والإفريقي): لا يمكن فصل مستقبل الصحراء وحل نزاعها عن محيطها الإقليمي الأوسع، المغاربي والإفريقي، يمكن أن يساهم التوصل إلى حل سياسي نهائي قائم على الحكم الذاتي في إحداث تحول إيجابي في العلاقات الإقليمية، وخاصة في إحياء مشروع الاندماج المغاربي المتعثر منذ عقود بسبب هذا النزاع المفتعل.
فتطبيع العلاقات بين المغرب والجزائر على أساس الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وفتح الحدود البرية بينهما، وتطوير التعاون الاقتصادي والأمني والثقافي بين دول الاتحاد المغاربي، كلها نتائج إيجابية محتملة لحل النزاع، ستعود بالنفع على جميع شعوب المنطقة.
كما أن حل قضية الصحراء سيعزز موقع المغرب كقطب للاستقرار والتنمية في شمال إفريقيا، وكجسر حيوي يربط بين أوروبا وإفريقيا جنوب الصحراء، وسيدعم دوره الريادي في تعزيز السلم والأمن والتنمية في القارة الإفريقية، في إطار رؤيته للتعاون جنوب-جنوب، لذلك، يجب أن تأخذ استراتيجية تنزيل الحكم الذاتي بعين الاعتبار هذه الأبعاد الإقليمية، وأن تعمل على إبراز الفوائد المشتركة لحل النزاع لجميع دول المنطقة، وتشجيع مقاربة إقليمية بناءة تساهم في تحقيق هذا الهدف.
خاتمة:
إن تنزيل المبادرة المغربية للحكم الذاتي في الصحراء يمثل، في جوهره، مشروعاً سياسياً وقانونياً ومجتمعياً وتنموياً طموحاً ومعقداً، يتطلب تجاوز المقاربات الأحادية أو الجزئية نحو تفعيل مقاربة استراتيجية شمولية ومتعددة الأبعاد، تستند إلى تفعيل متزامن ومتناسق لمجموعة من المداخل المترابطة.
فمن المدخل الأممي كإطار مرجعي وآلية راعية للمفاوضات، إلى المدخل الدبلوماسي لحشد الدعم الدولي وتوسيع دائرة الاعتراف بالواقعية، مروراً بالمدخل السياسي الداخلي لترسيخ الإجماع الوطني وتعزيز المشاركة الديمقراطية المحلية، والمدخل الدستوري والقانوني لتوفير التأطير المعياري والضمانات المؤسسية، والمدخل الحقوقي لضمان الكرامة والحريات وسيادة القانون، والمدخل التنموي لتحقيق الرفاه والجاذبية الاقتصادية، والمدخل الثقافي لتثمين الهوية الحسانية ضمن التنوع الوطني، والمدخل الإجرائي التدريجي لبناء الثقة وإدارة التعقيد، ومدخل تحديد الهيئة الناخبة لضمان التمثيلية الديمقراطية، ومدخل تأهيل النخب لتمكين القيادات المحلية، ومدخل الضمانات الدولية لتأمين استدامة الحل، ومدخل المصالحة لتجاوز إرث الماضي وبناء مستقبل مشترك، وصولاً إلى المداخل الأخرى المتعلقة بالأمن وإدارة الموارد الطبيعية وإشراك المجتمع المدني والإعلام والتواصل والتعاون الإقليمي – كل هذه المداخل تشكل أجزاءً لا تتجزأ من عملية واحدة متكاملة،
إن هذه المداخل المختلفة ليست جزرًا منعزلة، بل هي عناصر مترابطة ومتكاملة في نظام واحد، فنجاح المدخل التنموي يعتمد على توفر الأمن والاستقرار (المدخل الأمني)، ونجاح المدخل السياسي يتطلب بناء الثقة من خلال المصالحة (مدخل المصالحة) وضمان الحقوق (المدخل الحقوقي)، وتحقيق تقدم في المسار الأممي (المدخل الأممي) يعتمد على الدعم الدبلوماسي الدولي (المدخل الدبلوماسي) وعلى توفر إطار دستوري وقانوني وطني ملائم (المدخل الدستوري)، وبالتالي، فإن مفتاح النجاح يكمن في تبني رؤية شمولية ومنسقة، قادرة على إدارة هذه المداخل المتعددة بفعالية، وضمان تفاعلها الإيجابي وتكاملها لتحقيق الهدف الاستراتيجي المتمثل في تنزيل حكم ذاتي حقيقي في الصحراء.
إن التحدي الأكبر الذي يواجه المغرب والمجتمع الدولي اليوم يكمن في القدرة على إدارة هذه المداخل المتعددة بفعالية وتناغم، وضمان تفاعلها الإيجابي لتحقيق الهدف المنشود، في ظل سياق إقليمي متوتر وديناميكيات دولية متغيرة، يتطلب ذلك، من الجانب المغربي، مواصلة التحلي بالإرادة السياسية الثابتة، والرؤية الاستراتيجية الواضحة، والتخطيط الدقيق، والتعبئة الشاملة للموارد والكفاءات الوطنية، والحوار المستمر والشفاف مع جميع الفاعلين المعنيين، وفي مقدمتهم ساكنة الأقاليم الجنوبية التي تبقى هي المعني الأول والأخير بهذا المشروع.
كما يتطلب الأمر، من الجانب الآخر، ومن المجتمع الدولي، التحلي بروح المسؤولية والواقعية السياسية، والتخلي عن المواقف المتصلبة والأطروحات المتجاوزة، والانخراط الجاد والبناء في المسار التفاوضي الذي ترعاه الأمم المتحدة، بهدف التوصل إلى حل سياسي قائم على التوافق، يأخذ بعين الاعتبار المبادرة المغربية للحكم الذاتي باعتبارها الأساس الأكثر جدية ومصداقية لتحقيق هذا الهدف، كما أكد على ذلك مجلس الأمن مراراً، إن الحكم الذاتي، بمقاربته الشمولية والمتكاملة، لا يمثل فقط حلاً قانونياً وسياسياً للنزاع، بل يقدم فرصة تاريخية لطي صفحة الماضي الأليم، وفتح آفاق واعدة للسلام الدائم، والتنمية، والازدهار المشترك، والاندماج الإقليمي في منطقة الصحراء والمغرب العربي الكبير.
الدكتور مولاي بوبكر حمداني، رئيس مركز التفكير الاستراتيجي والدفاع عن الديمقرطية