يوم 16 يوليوز 2023 تحل الذكرى 64 لوفاة هنري بروست Henri Prost، أول مهندس استعان به الجنيرال ليوطي عام 1914 لتمكين الدار البيضاء من وثائق التعمير وتصماميم التهيئة.
منذ ذاك الوقت، وطوال 100 سنة، ظلت الدار البيضاء «تعجن وتطبخ» في مكاتب المهندسين الفرنسيين إلى اليوم، دون أن يتوفق هؤلاء في تمكين المدينة من «روح» خاصة بها. لسبب بسيط يتجلى في أن السلطة (سواء في عهد الاستعمار أو في عهد الاستقلال)، لم تلجأ لخدمات خبراء التعمير والتخطيط الحضري لإعداد تهيئة مجالية هادئة ومفكر فيها في وقت الرخاء، بل كانت السلطات تلجأ دوما لهؤلاء، كلما اشتدت الأزمة بالبيضاء أو انفلت الوضع من الضبط والسيطرة. وبالتالي ظلت الدار البيضاء، خلال 100 سنة، تخضع «لتعمير الاستعجال» و»البريكولاج»، وليس لتعمير «الرفاه والرخاء» المستجيب لمبادئ إشراك السكان عبر نخبهم المهنية والحرفية والجامعية وعبر جمعياتهم.
فالجنيرال ليوطي لما استعان لأول مرة بالمهندس بروست 1914، لم يفعل ذلك حبا في سواد عيون الدار البيضاء، بل لكون الضغط الذي مارسه اللوبي الفرنسي العقاري عام 1913 بلغ أوجه، بالنظر لكون القصف الفرنسي للدار البيضاء عام 1907 وما تلاه من «تسونامي» تردد الشركات والمعمرين للاستقرار بالبيضاء بحثا عن «منابع» لنهب خيرات المغرب (خاصة بعد البدء في إنجاز ميناء الدار البيضاء)، جعل ليوطي يرضخ للمجزئين الفرنسيين Les lotisseurs، فكانت تلك أول انطلاقة لتأسيس تعمير «الهمزة» بالدار البيضاء. إذ في عام 1914 شرع بروست في رسم اللبنات الأولى التي سترهن الدار البيضاء إلى اليوم، عبر اعتماده فصلا طبقيا مجاليا، بين قسم شرقي مخصص للصناعات والأحياء الشعبية، وقسم غربي مخصص للسكن الراقي والفيلات وللحدائق يفصل بينهما شارع رئيسي ينطلق من ساحة فرنسا (ساحة الأمم المتحدة حاليا)، نحو الجنوب الغربي للدار البيضاء (شارع الحسن الثاني وامتداده في شارع عبد المومن حاليا).
إلا أن اندلاع الحرب العالمية الأولى عطل تصورات تصميم «بروست»، ودخلت الدار البيضاء في متاهة النمو العشوائي والانتفاخ العمراني بدون ضوابط في الفترة بين الحربين العالميتين، لكن دوما في سياق المبادئ التي وضعها بروست: فتكدس الفقراء شرق الدار البيضاء وتراكمت معهم الاختلالات الحضرية، وعاش الأوروبيون في النعيم (ومعهم المغاربة المحميون والدائرون في فلك الاستعمار) في أحيائهم الكولونيالية وفي فيلاتهم غرب المدينة.
بعد وضع الحرب العالمية الثانية لأوزارها، ومحاولة من الإقامة العامة الفرنسية التحكم في الدار البيضاء المنفلتة، تمت المناداة من جديد على مهندس فرنسي آخر، في شخص ميشيل إيكوشار Michel Ecochard، وعين مديرا مكلفا بالتعمير. وشرع إيكوشار في إعداد وثائق جديدة للتعمير عام 1946، وهي الوثائق التي رأت النور عام 1952. هذا الأخير اعتمد تعميرا خطيا يمتد من البيضاء الى فضالة (المحمدية حاليا). باستغلال خط السكك الحديدية والطريق الوطنية (الأوطوروت الحالية)، لتحقيق اللحمة بين البيضاء والمحمدية. مع إضافة مرتكز طرقي مهيكل لتسريع الربط، ألا وهي شارع الجيش الملكي وامتداده نحو باستور ومولاي سليمان (حاليا).
ومثل سابقه، ستعمد وثائق إيكوشار على تكثيف المنطقة الشرقية والشمالية الشرقية بالسكن الاجتماعي والوحدات الصناعية، مع فتح فجوة لتهوية الأحياء الأوروبية الغربية بإحداث حي بوركون لاستقبال طبقة متوسطة ميسورة آنذاك.
بعد استقلال المغرب عام 1956، لم يكن ضبط التعمير بالدار البيضاء أولوية لدى صناع القرار بحكم الظرفية المتوترة التي عرفها المغرب طوال الستينات والسبعينات من صراع قوي ودموي بين أطراف الحقل السياسي، وبالتالي ازدادت الأعطاب وتفاقمت المشاكل بالدار البيضاء بسبب نموها العشوائي الرهيب والهجرة المكثفة نحوها من مختلف مناطق المغرب، دون أن يجد الوافدون بنيات استقبال تمتص أعدادهم وتوفر لهم المرافق الدنيا الضرورية (مدارس، طرق، تطهير، نقل عمومي، حدائق، مستشفيات، إلخ...). فتكدس المهمشون والمعدومون في الأحياء الشرقية والشمالية الشرقية بالمدينة، إلى أن حدثت الانتقاضة الحضرية في يونيو 1981. حينها انتبهت الدولة إلى وجوب التدخل من جديد لضبط الدار البيضاء والتحكم في نموها، فاستعانت السلطة المركزية من جديد بمهندس فرنسي ثالث، وهو ميشال بانسو Michel Pinceau، الذي لم يخرج تصميمه عن سابقيه (في عام 1984 أحدثت الوكالة الحضرية للدار البيضاء، وفي عام 1989 صدرت تصاميم التهيئة)، بحيث بقي مجال الدار البيضاء مجالا للفصل الاجتماعي والمجالي بين قسمين: قسم غربي يحظى بالاهتمام والإنفاق العمومي، وقسم شرقي تكدس فيه الطبقات السفلى من المجتمع العاملة في المصانع والوحدات الإنتاجية لضخ الثروة لتمتصها اللوبيات ومراكز النفوذ المالي بالبلاد.
وكانت النتيجة أن أدى المغرب ضريبة رهيبة بسبب هذا الإقصاء والتهميش، تمثلت في التفجيرات الإرهابية ليوم 16 ماي 2003، وهي التفجيرات التي كان كل الإرهابيين المتورطين فيها ينحدرون من شرق الدار البيضاء (وتحديدا من كاريان طوما وكاريان السكويلة). فاستفاقت الدولة من سباتها، وكلفت الوكالة الحضرية للدار البيضاء بإعداد وثائق تعمير جديدة (تم فيها أيضا هذه المرة الاستعانة بخدمات مهندسي جهة إيل دو فرانس الفرنسية!).
وأثمرت المشاورات صدور وثيقة تعمير جديدة عام 2008 (عدلت عام 2010)، وهي الوثيقة التي حاولت تدارك 100 عام من «الفصل العنصري المجالي» بين مجال شرقي أدمته السياسات العمومية وعمقت جراحه طوال مرحلة الاستعمار والاستقلال، ومجال غربي يعرف تخمة في المرافق والحدائق والبنيات التحتية، وكذا ترميم الجراح التي خلفتها سياسة «الاستثناءات» في المجال العقاري التي أفرزت سكنا اجتماعيا بشعا بالبيضاء. وكان أول قرار تاريخي يؤشر على «صحوة الدولة» هو ردم كاريان السكويلة وطوما وباقي الكاريانات الكبرى بالدار البيضاء (سنطرال، باشكو، لحجر، زرابة، الواسطي، إلخ...). فضلا عن تمكين الساحل الشرقي للدار البيضاء من نفس الخدمات الموجودة بعين الذئاب، عبر رصد 150 مليار سنتيم لمحاربة تلوث شواطئ روش نوار وعين السبع والبرنوصي وزناتة، في أفق تمكين هذا الشريط من استقبال بنيات سياحية وترفيهية على طول الساحل إسوة بأنفا وعين الذياب.
لكن تداعيات الربيع العربي والصراع الذي عرفه المغرب (وما زال يعرفه)، بين تجار الدين وتجار المال والمصالح، رهن الدار البيضاء ورهن معها الأحلام الوردية المسطرة في وثائق التعمير الجديدة لأنسنة شرق المدينة ومصالحة أحيائها مع الدار البيضاء، إلى أجل غير مسمى !
منذ ذاك الوقت، وطوال 100 سنة، ظلت الدار البيضاء «تعجن وتطبخ» في مكاتب المهندسين الفرنسيين إلى اليوم، دون أن يتوفق هؤلاء في تمكين المدينة من «روح» خاصة بها. لسبب بسيط يتجلى في أن السلطة (سواء في عهد الاستعمار أو في عهد الاستقلال)، لم تلجأ لخدمات خبراء التعمير والتخطيط الحضري لإعداد تهيئة مجالية هادئة ومفكر فيها في وقت الرخاء، بل كانت السلطات تلجأ دوما لهؤلاء، كلما اشتدت الأزمة بالبيضاء أو انفلت الوضع من الضبط والسيطرة. وبالتالي ظلت الدار البيضاء، خلال 100 سنة، تخضع «لتعمير الاستعجال» و»البريكولاج»، وليس لتعمير «الرفاه والرخاء» المستجيب لمبادئ إشراك السكان عبر نخبهم المهنية والحرفية والجامعية وعبر جمعياتهم.
فالجنيرال ليوطي لما استعان لأول مرة بالمهندس بروست 1914، لم يفعل ذلك حبا في سواد عيون الدار البيضاء، بل لكون الضغط الذي مارسه اللوبي الفرنسي العقاري عام 1913 بلغ أوجه، بالنظر لكون القصف الفرنسي للدار البيضاء عام 1907 وما تلاه من «تسونامي» تردد الشركات والمعمرين للاستقرار بالبيضاء بحثا عن «منابع» لنهب خيرات المغرب (خاصة بعد البدء في إنجاز ميناء الدار البيضاء)، جعل ليوطي يرضخ للمجزئين الفرنسيين Les lotisseurs، فكانت تلك أول انطلاقة لتأسيس تعمير «الهمزة» بالدار البيضاء. إذ في عام 1914 شرع بروست في رسم اللبنات الأولى التي سترهن الدار البيضاء إلى اليوم، عبر اعتماده فصلا طبقيا مجاليا، بين قسم شرقي مخصص للصناعات والأحياء الشعبية، وقسم غربي مخصص للسكن الراقي والفيلات وللحدائق يفصل بينهما شارع رئيسي ينطلق من ساحة فرنسا (ساحة الأمم المتحدة حاليا)، نحو الجنوب الغربي للدار البيضاء (شارع الحسن الثاني وامتداده في شارع عبد المومن حاليا).
إلا أن اندلاع الحرب العالمية الأولى عطل تصورات تصميم «بروست»، ودخلت الدار البيضاء في متاهة النمو العشوائي والانتفاخ العمراني بدون ضوابط في الفترة بين الحربين العالميتين، لكن دوما في سياق المبادئ التي وضعها بروست: فتكدس الفقراء شرق الدار البيضاء وتراكمت معهم الاختلالات الحضرية، وعاش الأوروبيون في النعيم (ومعهم المغاربة المحميون والدائرون في فلك الاستعمار) في أحيائهم الكولونيالية وفي فيلاتهم غرب المدينة.
بعد وضع الحرب العالمية الثانية لأوزارها، ومحاولة من الإقامة العامة الفرنسية التحكم في الدار البيضاء المنفلتة، تمت المناداة من جديد على مهندس فرنسي آخر، في شخص ميشيل إيكوشار Michel Ecochard، وعين مديرا مكلفا بالتعمير. وشرع إيكوشار في إعداد وثائق جديدة للتعمير عام 1946، وهي الوثائق التي رأت النور عام 1952. هذا الأخير اعتمد تعميرا خطيا يمتد من البيضاء الى فضالة (المحمدية حاليا). باستغلال خط السكك الحديدية والطريق الوطنية (الأوطوروت الحالية)، لتحقيق اللحمة بين البيضاء والمحمدية. مع إضافة مرتكز طرقي مهيكل لتسريع الربط، ألا وهي شارع الجيش الملكي وامتداده نحو باستور ومولاي سليمان (حاليا).
ومثل سابقه، ستعمد وثائق إيكوشار على تكثيف المنطقة الشرقية والشمالية الشرقية بالسكن الاجتماعي والوحدات الصناعية، مع فتح فجوة لتهوية الأحياء الأوروبية الغربية بإحداث حي بوركون لاستقبال طبقة متوسطة ميسورة آنذاك.
بعد استقلال المغرب عام 1956، لم يكن ضبط التعمير بالدار البيضاء أولوية لدى صناع القرار بحكم الظرفية المتوترة التي عرفها المغرب طوال الستينات والسبعينات من صراع قوي ودموي بين أطراف الحقل السياسي، وبالتالي ازدادت الأعطاب وتفاقمت المشاكل بالدار البيضاء بسبب نموها العشوائي الرهيب والهجرة المكثفة نحوها من مختلف مناطق المغرب، دون أن يجد الوافدون بنيات استقبال تمتص أعدادهم وتوفر لهم المرافق الدنيا الضرورية (مدارس، طرق، تطهير، نقل عمومي، حدائق، مستشفيات، إلخ...). فتكدس المهمشون والمعدومون في الأحياء الشرقية والشمالية الشرقية بالمدينة، إلى أن حدثت الانتقاضة الحضرية في يونيو 1981. حينها انتبهت الدولة إلى وجوب التدخل من جديد لضبط الدار البيضاء والتحكم في نموها، فاستعانت السلطة المركزية من جديد بمهندس فرنسي ثالث، وهو ميشال بانسو Michel Pinceau، الذي لم يخرج تصميمه عن سابقيه (في عام 1984 أحدثت الوكالة الحضرية للدار البيضاء، وفي عام 1989 صدرت تصاميم التهيئة)، بحيث بقي مجال الدار البيضاء مجالا للفصل الاجتماعي والمجالي بين قسمين: قسم غربي يحظى بالاهتمام والإنفاق العمومي، وقسم شرقي تكدس فيه الطبقات السفلى من المجتمع العاملة في المصانع والوحدات الإنتاجية لضخ الثروة لتمتصها اللوبيات ومراكز النفوذ المالي بالبلاد.
وكانت النتيجة أن أدى المغرب ضريبة رهيبة بسبب هذا الإقصاء والتهميش، تمثلت في التفجيرات الإرهابية ليوم 16 ماي 2003، وهي التفجيرات التي كان كل الإرهابيين المتورطين فيها ينحدرون من شرق الدار البيضاء (وتحديدا من كاريان طوما وكاريان السكويلة). فاستفاقت الدولة من سباتها، وكلفت الوكالة الحضرية للدار البيضاء بإعداد وثائق تعمير جديدة (تم فيها أيضا هذه المرة الاستعانة بخدمات مهندسي جهة إيل دو فرانس الفرنسية!).
وأثمرت المشاورات صدور وثيقة تعمير جديدة عام 2008 (عدلت عام 2010)، وهي الوثيقة التي حاولت تدارك 100 عام من «الفصل العنصري المجالي» بين مجال شرقي أدمته السياسات العمومية وعمقت جراحه طوال مرحلة الاستعمار والاستقلال، ومجال غربي يعرف تخمة في المرافق والحدائق والبنيات التحتية، وكذا ترميم الجراح التي خلفتها سياسة «الاستثناءات» في المجال العقاري التي أفرزت سكنا اجتماعيا بشعا بالبيضاء. وكان أول قرار تاريخي يؤشر على «صحوة الدولة» هو ردم كاريان السكويلة وطوما وباقي الكاريانات الكبرى بالدار البيضاء (سنطرال، باشكو، لحجر، زرابة، الواسطي، إلخ...). فضلا عن تمكين الساحل الشرقي للدار البيضاء من نفس الخدمات الموجودة بعين الذئاب، عبر رصد 150 مليار سنتيم لمحاربة تلوث شواطئ روش نوار وعين السبع والبرنوصي وزناتة، في أفق تمكين هذا الشريط من استقبال بنيات سياحية وترفيهية على طول الساحل إسوة بأنفا وعين الذياب.
لكن تداعيات الربيع العربي والصراع الذي عرفه المغرب (وما زال يعرفه)، بين تجار الدين وتجار المال والمصالح، رهن الدار البيضاء ورهن معها الأحلام الوردية المسطرة في وثائق التعمير الجديدة لأنسنة شرق المدينة ومصالحة أحيائها مع الدار البيضاء، إلى أجل غير مسمى !