Thursday 19 June 2025
كتاب الرأي

عبد الحميد العدّاسي: التّغيّظ والزّفير

عبد الحميد العدّاسي: التّغيّظ والزّفير عبدالحميد العدّاسي
يقول تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِۖ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانِۢ بَعِيدٖ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاٗ وَزَفِيراٗۖ} (11– 12). كنت في وضعيّة خاصّة لمّا مررت بهاتين الآيتين الكريمتين من سورة الفرقان... قرأتُهما قراءة جعلتني أتوقّف عندهما وبهما مع صورٍ عجزت عن التّعبير عنها. ثمّ ذكرت آية سورة الرّحمن: {يُعْرَفُ اُ۬لْمُجْرِمُونَ بِسِيمَٰهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَٰصِے وَالْأَقْدَامِۖ} (40)، فرأيت النّار بآيتَي الفرقان تتعرّف على المجرمين فتعرِفهم،فإذا عَرَفَتهم أسمعتهم تغيُّظَها وزفيرَها، تبشّرهم بما ينتظرهم فيها لمّا يُساقون إليها زُمَرا، يُدخَلُونها دون انتظارٍعند أبوابها {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِّحَتْ أَبْوَابُهَا} (الزّمر: 68)، وقد دُقّت ظهورهم حتّى جُمع بين نواصيهم وأقدامهم، وقد عمت أبصارهم؛ إذ نسوا الله ﷻ فنسيهم.
سحتُ مع المشاهد أتحسّس الحقيقة مستعينا بالتّمثّل، فرأيت النّار كما لو كانت أسدا قد جُوّع داخل قفصه، ورأيت الكفّار والمنافقين، أولئك الذين تعدّوا الحدود وتطاولوا واعتدوا وتكبّروا وظلموا وبطشوا، وأدبروا، ولوَوا رؤوسهم، واستهزؤوا، وكذّبوا، ورفضوا، بمثابة فريسة ضعيفة موهَنة، أُحضِرت ثمّ حُبست قريبا من الأسد بانتظار الوقت المناسب لإطعامه... كان السّياج الفاصلُ بينهما يزيد من لهفة الأسد وشرهه. يُحدّث نفسه بأخذها أخذة لا يُعلَم مدى بشاعتِها. يبالغ في ذرع الأرض جيئة وذهابا، يُكثر من التّكشير عن أنيابه يخوّفها،يكثر من الزّئير يتوعّدها ويُرهبها. يأخذُها – لهفي عليها – الخوفُ ويُنهيها الفَرَقُ حتّى لتكاد تلج الأرض، لولا عدم قدرتها. ترى نبضَ قلبها يكاد يخرِقُ جلدَها. تراها لا تقوى على النّظر باتّجاه مصدر خوفها. تركض في كلّ الاتّجاهات تبحث عمّا يمكن أن يمثّلِ حماية لها... ثمّ يحين وقت الإطعام، فتُفتح الكوّة وتُدخَل منها المسكينُة فيأخذها الأسد بلا رحمة، ملبّيا نداء جوعه: يكسّر عظامها تكسيــــرا، يمزّق جلدها تمزيــــقا، يسفك دمهــا دون اقتصاد، يُقطّع لحمها أشلاء دون تمييزٍ أو مراعاةِ مفاصـلَ فيه، يأكلها خلافا لطبيعته وعادته حيّة متحرّكة تملأ معدته عويلا ومناشدة.
أذهلني هذا المشهد الذي صنعه تفكّري والتّمثّل، وتأثّرت كثيرا لهذه الخاتمة الدّمويّة وكدت أبكي للفريسة الضّعيفة لولا انتباهي لدورها التّصويريّ الذي إنّما أردت به تقريب مشهدٍ يحكي مصائر أناس كفروا حتّى عُرِفوا بسيماهم، حتّى رأتهم النّار من مكان بعيد، حتّى سمعوا تغيّظها وزفيرها،حتّى دخلوا كما وعد ربّهم تعالى من أبوابها السّبعة {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} (الحِجر: 43 - 44). حتّى رأوها كما أُخبِروا عين اليقين {عَلَيْهَا مَلَٰٓئِكَةٌ غِلَٰظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اَ۬للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَۖ} (التّحريم: 6)...
ثمّ ملت هروبا من لفحها إلى حديث قتادة المرويِّ عن صفوان بن محرز، أنمّي به الرّجاء والطّمع في رحمة الله تعالى، فقد جاء فيه: قال رجل لابن عمر: كيف سمعتَ رسول الله ﷺ يقول في النّجوى؟! قال سمعته يقول: يُدنَى المؤمن يوم القيامة من ربّه ﷻ حتّى يضع عليه كنفه، فيقرّره بذنوبه فيقول هل تعرف فيقول أي ربّ أعرف. قال: فإنّي قد سترتها عليك في الدّنيا وإنّي أغفرها لك اليوم، فيُعطَى صحيفة حسناتِه. وأمّا الكفّار والمنافقون فيُنادَى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على الله. نسأل الله العفو والعافية، وأن يجيرنا من النّار ومن حال أهل النّار، وأن يسترنا ويرحمنا ويغفر لنا، إنّه هو البرّ الرّحيم.