Friday 20 June 2025
كتاب الرأي

عبدالحميد العدّاسي: الفيروس المربّي

عبدالحميد العدّاسي: الفيروس المربّي عبدالحميد العدّاسي
لمّا قُرِّر لفيروس كورونا الانتشار خارج الصّين، أواخر جانفي (يناير) 2020، كان الفيروس قد أخبر الصّينيّين عن خصاله وقدّم لهم بعض الوسائل المساعدة للنّاس على اجتنابه.
فهو ثقيل لا ينقله الهواء، وهو سريع الانتقال عن طريق حاملِه. لا تُضمن السّلامة منه إلّا باجتناب حامِلِه.
ليس سهلا التّعرّفُ على حاملِه، وعليه فقد وجب الاحتيــاط من كلّ متنقّل والتّحوّط له، فلعله كان حاملَه.
فيروس اعتمد للانتشار على اللّمس أو الاقتراب المتحاملِ على اللّمس. فيروس تقتله النّظافة باعتماد الصّابون والماء، فمن رغب في السّلامة أدمن النّظافة إدمان المسلمين على الوضوء قبل كلّ صلاة.
تلك بعض المعطيات والمعلومات التي وفّرها الفيروس لبقيّة أنحـــــــــاء العالم زمن مكوثه في الصّين منفردا بأهل الصّين.
كان "الشّعراءُ" يُبدعون في الحديث عن فيروس هاجم الصّين، التي ظلم حكّامُها رعيّتَها واعتدت طوائفُها على طوائفِها. ظنّوا أنّه جاء خصّيصا لأهل الصّين العُتاة المعتدين، ورأوا بقيّة العالم كما لو كانوا على خير بلا شرور، مع أنّ شرورهم تجاوزت شرور أهل الصّين.
أغفلهم شعرُهم زمنا، فإذا الفيروس يفاجئهم في ديارهم، ويفعل بهم ما لم يفعله في أهل الصّين، يُثخنهم حتى يتجاوز عدد قتلاهم في بعض الأماكن عدد قتلاه في بلاد الصّين.
تنادى الجميع في العالم، هذا كوفيد 19 قد صبّحكم ومسّاكم، فإيّاكم ثمّ إيّاكم ثمّ إيّاكم. لا تتخلّوا عن الكمّامات، ولا تتقاربوا، ولا تتصافحوا، ولا تتعانقوا، ولا يقبّلُ بعضكم بعضا، ولا تتفاحشوا.
كانت الإجراءات المتّخذة متراوحة بين السّلوك الإنسانيّ والسّلوك "الخشن" الخادم للإنسانيّة. وكان المسؤولون في المملكة الدّنماركيّة يعاملون الجميع بما يخدم عندهم الإنسانيّة... فقد صيغت التّوصيـات واضحة سهلة الفهم والاتّبـاع، وتفاعل معها النّــاس جميعا لا يُخِلّون قيد أنملة بالاتّباع.
تُتابِعُ، فتلاحظ قدرة هذا الفيروس على تعليم النّاس الانضباط أو تتجلّى لك قدرته على جعلهم يتّبعون بإتقان التّعليمات التي دعتهم إلى الانضباط. فالشّوارع شبه مقفرة، والمتنقّلون فيها كأنّهم لا يتعارفون، لولا إشارات خفيّة تصل حدّ الممازحة، تثبت أنّهم متعارفون.
ظلّ الاهتمام بالحدث كبيرا والخوف من الفيروس أكبر والزّهد فيما كان يشغل النّاس أو ما كان ينمّي الخلاف بينهم - قبل وصوله - أكبر وأكبر. غير أنّ العنصريّة مازالت متمكّنة من بعض معتنقيها، كهذا الرّسموس (Rasmus Paludan) قبيح الأخلاق اللّعين، المرابط أمام المساجد، يستفزّ مرتاديها، وقد عُرِففي الدّنمارك وفي السّويد المجاورة بشطحاته ومحاولاته لحرق القرآن الكريم وتمزيقه،حتّى كرهه الجميع ورأوه وصمة عار على جبين الدّنمارك بل على جبين سكاندينافيا مجتمعة، وهي البلاد المتشدّقة باحترام النّاس ومراعاة حقوقهم وعدم الاعتداء عليهم وعلى معتقداتهم. كان على هذا الرّسموس وعلى مسنديه اللّئام أن يرتدعوا على الأقلّ من كورونا، فإنّها لا تتخيّر ضحاياها، بل تأخذهم على حين غرّة، وتأخذ بعضهم أخذا شديدا فلا تُفلتهم. وكان على حكومة الدّنمارك المسؤولة الأولى على ما يحدث أن توجّه ملايين الكُرونة إلى مواجهة كورونا، محليّا بتطوير ما أُنجِز وجَبْرِ ما نقص، وخارجيّا بمساعدة الذين يُوجدون في العراء غير قادرين على مواجهة كورونا، بدل أنتبذّرها باستكبار وكفر نعمة في حماية هذا الدّعيّ الأحمق للقيام بهذه الأعمال غير اللّائقة بالبلاد، المستفزّة للمسلمين، غير المناسبة للظّرف الذي تمرّ به البلاد.
لقد نبّه الفيروس إلى ضعف النّاس، وإلى وحشيّة أولئك النّاس. ضَعُفَ النّاسُ فما استطاعوا تحمّل المكوث في البيوت رغم ما فيها من وسائل الرّفاه. وتوحّش أولئك النّاس فسجنوا النّاس عشرات السّنين، غير عابئين بترك بعضهم في الزّنزانـات الفرديّة كلّ تلكم السّنيـــن.
لقد نبّه كــــورونا إلى حقيقة المـوت وشدّ لها الأنظـار كثيرا، وأبكتقصصه المتناقلة كثيرا من النّاس في المعمورة، التي فقدت أكثر منثلاثة ملايين من سكّانها بسببه.
كأنّهم لم يسمعوا عن الموت من قبل وكأنّهم لم يعرفوا معنى الفتكفيما سبق. كانت الأسلحة "الذكيّة" والبراميل المتفجّرة والأحزمة النّاسفة والصّواريخ العابرة الموجّهة والفسفور الأبيض تفعل في النّاس أضعاف أضعاف ما فعل كورونا في النّاس. غير أنّ تلك المصائب كانت بعيدة عن ديارهم وأنّ تلك الخسائر المهولة في الأرواح لم تكن تطال أكبادهم. لقد وضّح كورونا الرّؤيا وكشف الجريمة وفضح الوهن في العلاقات... كأنّ سكّان العالم لم يربطهم شيء، مع أنّهم جميعا إخوة، وكأنّه لم يصلهم واصل مع أنّ الوسائل السّمعيّة
والبصريّة كثيرة لا تنقصهم.
لقد نجح كورونا في تعميم النّظر ومدّ البصر واعتبار الشّعوبِ كلِّها أصنافا لا يخرج بعضها - وإن اختلفوا - عن جنس البشر، وأصبح العالم - بحقّ - قرية صغيرة، يطّلع الذي في أدناها على ما يحدث للّذي في أقصاها.
لقد نبّه كورونا "الكبار" في العالم إلى قيمة الصّغار، ودعاهم - لو فقهوا - إلى عدم الإضرار بأرض، لم يكن العيش فيها أبدا حِكرا على "الكبار"!.. استعمل معهم بعض القوّة، منبّها إيّاهم إلى سوْأة استعمال القوّة. لقد حاول تعزيرهم وإذلالهم ليلفت انتباههم إلى أنّه ما كان يجدر بهم الطّغيان والتّعدّي على الضّعــاف والصّغــــــــــــار والعمل على إذلالهم.
وقف رياض المهدي يوسفي من مدينة (بن عروس) في تونس مختلفا عن التّونسيّين الذين أسرفوا في اللّعن - والعقلاء يعلمون أنّه لا يجوز السّبّ واللّعن- يصف كورونا بكلماته الواضحة: إنّه وباء العدل عندما يكون الظّالم بوّابا، وإنّه دعوة مظلوم لها الرّبّ قد استجابَ! وصف الفيروس بهذا الوصف الدّقيق وهو يعيش قصّة ظلم شبيهة بالخيال... ويتحدّث عن مشاركته في عمليّة دفن العمّ الهادي بمقبرة الجلّاز بالعاصمة التّونسيّة. كان حاضرا لمّا انتبه وقت إنزال اللّحد على "الميّت" إلى أنّ بالرّجل حياةً، فلمّا نبّه إلى ذلك زجروه واتّهموه بالجنون وباضطراب المدارك! قالوا له بلغتهم التّونسيّة: "حتّى أنت حيّ"، ثمّ واصلوا إهالة التّراب على الميّت الحيّ؛ إذ لا مكـان في هذه الدّنيــا إلّا للحيّ الذي يشهـــــــــد له -دون خوف ولا حياء - أولئك الأحياء المترفون، أنّه حيّ.
استشـرى الفساد وانقطعت الرّوابـط وانعدمت الرّحمة حتّى دفن الضّعاف أحياءً، فجاء كورونا - كما رأى رياض – يعرض على النّاس فرصة للمراجعة والتّدارك والتّوبة... لم يستطع رياض السّكوت، فهدّدوه في أمنه واختطفوا زوجته وأبناءه، ثمّ فرضوا عليه حسب تصريحاته الإقامة الجبريّة التي أنجته من الدّفن حيّا.
قد يكون بالقصّة وهنٌ، ولكنّ المشاهدات هنا وهناك خارج إطار القصّة تؤكّد أنّ أهل تونس لم يستفيدوا كثيرا من وباء كورونا، إلّا ما كان من ساكن القصر الذي سوف لن يغفل التّاريخ عن محاولاته السّاديّة في استغلال وجود الفيـروس لبنـاء عرشه على جماجـم التّونسيّيــن الذين رآهم بورقيبة غبارا ورآهم هو مجرّد فيروسات أو شياطين حريّةٍ بالرّجم.
كان يمكن للتّونسيّين أن يتعاونوا أكثر (وقد حدث التّعاون جزئيّا) وأن يتراحموا أكثر (وقد لوحظ التّراحم جزئيّا)، غير أنّ بعضا منهم ظلّوا غافلين منصرفين عن الاعتبار، فلم يُثنِهم الموت المستشري بينهم حتّى عن الاصطفاف أمام نقاط بيع الخمور طوابير طويلة مدعومة، تثير دون اكتراث غيظ الممنوعين من الصّلاة في المساجد التي أغلقتها السّلطات "حفاظا" على سلامة مواطنيها الذين بقوا بعنادهم عُرضة ولم يكتسبوا حصانة روّاد الخمّارات والنّوادي الليليّة وفضاءات عَرض العِرض الرّخيص، المنيعة.
بات النّاس في مشارق الأرض ومغاربها يتواصلون، يسأل أحدهم الآخر عن حاله أو حال حبيب له، فيقول له أنّه "امْكُورِنْ" (نسبة لكورونا)، أي قد أصابه الفيروس الأب أو أحد أبنائه المتطوّرين المتكاثرين بسرعة مذهلة، تكاد تُيئس النّاس من المقاومة.
ثمّ كان النّاس يتلمّسون بحذر الطّريق إلى حياة ألفوها قبل مجيء الفيـروس، هي بالتّأكيــد أجمل وأكثر نشــاطًا وجــاذبيّةً مـن هذه الحياة.
ثمّ كانت الدّنمارك تعلن يوم الفاتح من فيفري 2022 فتح البلاد بمختلف مصالحها، مع
توخّي حذرٍ يجنّب تعطيل مصالحها. ثمّ رئي هذا السّلوك يغزو أغلب بقاع العالم حتّى اكتضّت مدرّجات الملاعب الرّياضيّة بالنّاس يذكّرون بأيّام شبيهة بتلك التي كانت قبل شيوع الفيروس سنة 2020... وســوف تمــرّ الأزمة بإذن الله تعالى، وسوف تنزاح الجـائحة بالكامل ويُرفَعُ الوباء بإذنه جلّ وعلا، وسوف تحوز الإنسانيّة إن رغبت على كثيرٍ من الحبّ والتّراحم وكثيرٍ من الحرص على مراجعة السّلوك ولا سيّما سلوك "أثرياء الحرب"، وسوف يعمل الذين عقلوا والذين اعتبروا على نبذ الفساد والإفساد وعلى ترميم الجسور بين النّاس وبين الحضارات.
سوف تعود بعض العادات القديمة التي نبّه فيروس كورونا إلى أهمّيتها ونجاعتها، فنستعمل وسائل التّنظيف النّاجعة وفي مقدّمتها الماء والصّابون بدل الاكتفاء بالورق الذي لن يكون وحده كما بيّن كورونا مظهرا للتّحضّر، ونجتنب التّعرّي الفاحش المفضي إلى جعل العِرض متاحا للعَرض، فإنّه لا يليق ببني البشر فعل ذلك.
سوف يقتنع غيرُ المسلمين باستعمال الماء وربّما يبحثون عن سرّ الوضوء للصّلاة، وسوف يراجعون قراراتهم غير المنسجمة مع شعاراتِهم المنادية باحترام الحريّة الشّخصيّة في اللّباس والمعتقد والضّمير، وسوف يتوقّفون عند إجراءاتهم المتخلّفة المحاربة لخمار وألبسة طويلة اختارها أصحابها يقارنونها بكمائم وألبسة طويلة سابغة عقّد المَشْيَ ألزم الفيروسُ النّاسَ صاغرين بحملها. سوف يتوقّف آخرون عند الفيروس، ليس لتوفير اللّقاح والدّواء المضادّ له فحسب، وإنّما للبحث العميق في ذاته: مَن الذي صغّره حتّى بات لا يُرى بالعين المجرّدة ومَن الذي قوّاه حتّى هدّد الورى بالفناء.
سوف يغادر كورونا وقد أعاد بإذن الله تعالى للعائلة قيمتها ودفئها ودورها الرّائد في
المجتمع، وراجع معها كيف يكون الاجتماع وسوف يغادر وقد جعل النّاسَ يهتمّون بعلاقاتِهم بالعمل، فيُقبلون عليه - برغبة قد تكون استثنائيّة لا تستجيب لدعوات البطالة والعطالة والإفساد والهدم - يُفرغون في ساعاته فائض الطّاقة التي كُبتت بملازمة البيت أسابيع وأشهر طويلة، وسوف يجعلهم التّباعد الجسديّ الذي فرضه عليهم كورونا حريصين على التّقارب الاجتماعيّ والتّواصل وعلى اجتناب إقصاءالآخر.
سوف تكون هناك كثيرٌ من الوقفات التي قد تُصلح شأن الإنسانيّة قاطبة، فتغنينا مستقبلا عن فيروس آخر، ينبّهنا من غفلتنا ويذكّرنا بأنّ الانتماء للإنسانيّة يعني عدم الإضرار بها، ويعني العمل الجدّيّ على نفعها وكسر أحد المكيالين اللّذين يُكال بهما لبعض أقوامها، وسوف يجلس المؤمنون الموحّدون الصّادقون - وقد عزّاهم مشهد ازدحام النّاس في الحرمين الشّريفين شهر رمضان الفضيل 1443 ه الموافق أفريل / ماي 2022، وقد تخلّوا عن كمّاماتهم دون خشية إصابة، إلّا ما كان من إجراءات وقاية احترازيّة تضمن بإذن ربّهم مناعتهم - يحصون صابرين أعداد شهدائهم، مطمئنّين إلى أنّ مبطونيهم - كما أخبر نبيُّهم ﷺ - من شهدائهم...