كذبوا كما كذب، فتحدّثوا عن استشارة الرّئيس لرئيس الحكومة ورئيس البرلمان كما يقضي بذلك الفصل 80، وتستّروا عمّا تعرّض له رئيس الحكومة هشام المشيشي في قصر قرطاج، فقد تناقل النّاس رواياتٍ كثيرة عن تعذيبٍ طاله، وقع افتتاحه – إن صحّ الخبر والنّقل - بصفعتين متميّزتين من طرف ظلّ الرّئيس الصّائلة نادية عكاشة، ثمّ استُكمل بساديّة استثنائيّة على أيادي ضبّاط مصريّين أو إماراتيّين غِلاظ، حتّى كاد ينتهي – لولا انضباطُ هِشامٍ - إلى ما انتهى إليه المرحوم جمال جاشقجي، الذي قُتِل يوم 2 أكتوبر 2018 في قنصليّة بلاده بإسطنبول مسطورا منشورا... لقد تعلّم هشامٌ انضباطا لازمه حتّى بعد تسريحه وإخلاء سبيله، فالرّجل صامت لم يتكلّم حتّى تاريخ كتابة هذه الكلمات في فيفري 2022 بل حتّى تاريخ مراجعتها نهاية 2022، متجاهلا نداءات الشّعب الرّاغب بحرص كبير في كشف الحقيقة، فإنّ الشّعب لم يطّلع على ما اطّلع عليه، ولو اطّلع لعَذره في سكوتٍ يحافظ به على نفسٍ يتهدّدها - كما يبدو – خطرٌ لا يجرُؤ على الإطلاع عليه.
بيّنت الأيّام إذن أنّ ما قام به ساكن القصر انقلابٌ واضحُ المعالم مكتمل الأركان، فقد عَمَد إلى تجميد البرلمان الذي يقضي تطبيقُ الفصل 80 باعتباره في حالة انعقاد دائم، كي يراقب مجريات الحالة الاستثنائيّة ويعمل على تأمين عودة السّير العاديّ لدواليب الدّولة في أقرب الآجال، وأقال رئيس الحكومة الذي لا يجوز تقديم لائحة لوم ضدّ حكومته ناهيك عن إقالته العادية أو "تأديبه" وإصماته...
اعتداءٌ صارخ على الفصل 80 فسّره - بدعم الفاسدين الوصوليّين حمّالي الحطب - بكون الخطر الدّاهم إنّما يتمثّل في البرلمان نفسِه.
ثمّ تطاول التّافهون على البرلمان وأعضائه حتّى بات الحديث عن استئناف أعماله ضربًا من اللّغو، وحتّى انساق بعض أعضاء مجلس الشّعب المنحازين لـ"شعب الرّئيس" يسوّقون ذلك خدمة لما يهين هذا الشّعب الذي مال عن الحِكمة حتّى ثار على نوّابه يلعن نفسه بثورته عليهم.
عُلِم أنّ الجرائم المرتكبة في حقّ هذا الشّعب من قِبل هذا الطّرف أو ذاك لا يكتمل مضاؤها إلّا بعمل الصّحافة العميلة المجــــــــــرمة، وقد اجتهدت الصّحافة الوضيعة في التّلبيس على النّاس بتبشيع الحَسن وتلميع السّيّئ وإصمات الحكيم وإنطاق التّافه، مطلقة ألسنة ما بات يُعرف في البلاد بكَاتِب اليوميّات "كرونيكور" (Chroniqueur) المتميّزِ أغلبُهم بالسّفالة والبذاءة والعمالة، وذلك بحضرة أولئك الذين يستدعونهم ممّن نبغت مفرداتُهم في التّبشير بتأبيد وضعيّة الاستثناء وفي التّأصيل للتّزلّف إلى المنقلب المتغلّب. في حين حاصرت أصواتَ الأحرار الذين علموا أنّ الحياة لا تنزل أبدا ساحة الدّكتاتوريّة وأنّ الحريّة إذا غابت امتنع معها تطبيق شـــــــــرع الله ﷻ ناهيك عــــــن تطبيــــــــــــــق غيره مــــــن القوانين الخـــــــادمة للشّعب الرّعيّة.
كانت المعركة شديدةً قد تميّز طرفاها: فهؤلاء متشبّثون بالحريّة وبكلّ ثمار الثّورة ومدافعون بثبات عن الكرامة ومخلصون لدماء الشّهداء، وأولئك وصوليّون، وجدوا في انقلاب الرّئيس وفي نقض العهد الذي قطعه على نفسه بالقسم وخيانته للمؤتمن فرصة لضرب خصمٍ سياسيّ بعينه، والإساءة إلى توجّه سلوكيّ بعينه بدأ يستقطب الأنظار في البلاد.
حاولتُ "التّفكّر" فيما ذهب إليه الرّئيس لمّا رأى البرلمان خطرا داهما أو خطرا جاثما كما وصفه لاحقا، وقلت لعلّه تفطّن بيقظة ضمير متأخّرة إلى الدّور الخبيث الذي تقوم به عميلةُ الإمارات عبير موسي وأصدقاء الإمارات القدامى والجدد، فقرّر إيقافها والضّرب على يديها، خدمة للبلاد وصدّا لمطامع الطّامعين فيها، تأسّيا بالرّئيس الأسبق محمّد الباجي قائد السّبسي، فقد تناقل النّاس أخبارَ ثباتِه، رحمه الله تعالى، أمام المغريات الكبيرة التي كانت تستهدف باستمالته "إخوان تونس" كما يسمّونهم، غير أنّ ظنّي قد جانب الصّواب؛ إذ لم يكن الخطر الدّاهم الجاثم في نظر الرّئيس سوى رجال ائتلاف الكـرامة، الكرام الصّادقين كما أحسبهم، المخلصين لبلادهم، المنحازين بمروءة مفرِّدَة لشعبهم.
هاجم بيوتهم وروّع أهاليهم وهتك الأستار وتجاوز الحدود الوطنيّة والدّينيّة والإنسانيّة، واختطف منهم مَن اختطف، وأخضع بعضهم دون حقّ وخارج القانون للقضاء العسكريّ الذي لم يُشبِعْ ساديتَه ودفع آخرين منهم إلى الاختفاء والتّحصّن بأسباب الله ﷻ بعيدا عن دنيا رتع فيها سفهاؤه!
كتبت في خضمّ تلك الأحداث أنّ ما يقوم به ساكن القصر ضدّ أهلِنا شبابِ ائتلاف الكرامة إنّما هو رغم ألمه وعظيم جرمه تعميةٌ وصرفُ أنظارٍ عمّا يخطّط له من إجراءات يستطيبها كثيرٌ من أعداء تونس، تستهدف أساسا "إخوان تونس"، أولئك الذين رُذّل البرلمانُ من أجل القضاء عليهم وصُرفتْ فيهم الأموالُ الطّائلة من طرف أعداء البلاد أعداء الله تعالى والمسلمين لاستئصالهم واقتلاعهم، فكان اليوم الخاتم لسنة 2021 موعدَ اختطاف الأستاذ نورالدّين البحيري من أمام منزله لمّا كان ينوي وزوجتُه الأستاذة سعيدة العكرمي الالتحاق بمقرّ عملهما، مصدّقا على ما ذهبتُ إليه، وقد اختطفه مجهولون أنكارٌ إلى مكان مجهول منكَر، تبيّن فيما بعد أنّه في ولاية بنزرت في منطقة منزل جميل، هناك في مسكن أو مستودع مهجور يتولّى الإشرافَ عليه ممثّلُ رئيس الجمهوريّة، والي بنزرت الجديد الذي عُيِّن، تقديرا لكفاءته في "حفظ" الأمانــات الخـاصّة و"حسن" تعهّدها بما يثلج صدر الرّئيس الضّيّق ويُذهِبَ بعضَ غيظِه.
زلزل الخبرُ البلاد وأزاح كلّ غشاوة كانت تستر أو تلبّس على أجندات الرّئيس، فإنّه ومَن وراءه أو حوله لن يقفوا عند التّشفّي من أبناء ائتلاف الكرامة الذين حصدوا بجرأتهم على حاكم البلاد الحقيقيّ المتمثّل في المحتلّ القديم كثيرا من الكره وعدم القبول، بل سيتعدَّوْنَهم إلى "إخوان تونس" وإلى كلّ أحرار تونس والمتمثّلين بهم.
عاد الحديث بقوّة يُوصّف ما حدث وجرى ليلة 25 يوليو 2021، وبدأ المتحدّثون يستعملون ذات المفردات التي استعملها ذلك الشّيخ "الإخواني" رئيس البرلمان ونائبته الكريمة سميرة الشّوّاشي التي أبرزت الأحداث والأيّام قيمتها وصفاء معدنها ومرُوءَتَها، وفئةٌ قليلة وقفت معهما ليلة الحدَثِ نفسِها عن بعد، لعلّ من أبرزها أبناء الشّيخ الكريم الفاضل الطّاهر بن عاشور رحمه الله تعالى.
التحقت إذن فئة أخرى أكبر تَتابَعَ أفرادُها في الانضمام إلى الصفّ الحكيم المحبّ للبلاد خلال الأشهر الخمسة التي تلت، يصفون الحدث بالانقلاب والرّئيس بالمنقلِب... بدأ جلُّهم يتحدّثون بوضوح عن انقلاب على الدّستور ونصوصه وعلى الثّورة ومنجزاتها وعلى الشّعب وطموحاته وتطلّعاته... آزر الوضــــع الاجتمــاعـيّ الصّـراخَ المحذِّرَ مــن الرّكـون إلى المتغلّب، فسُمع للنّاس همهماتٌ غير متجاسرة تشكو ضائقة لم يشهدوا في البلاد عبر كامل تاريخِها مثلَها.
حفظنا بالمراقبة والتّتبّع أنّ للإقناع في تونس وسيلتين، العقل والبطن، وأنّ البطن كثيرا ما ينجح فيما يفشل فيه العقل... رأى عقلاؤنا ذلك نقيصة سالبة لا تليق بنا؛ إذ ما كان ينبغي إسكان العقل في البطن واحتكام النّاس للبطن دون العقل.
ثمّ كانت للانقلاب مفاجأةٌ عرّفت برئيس البلاد، مريضا مستفرِدا سَمِجا مستبدّا لا يُؤمِن بالحوار ولا يُنزل العقل منزلته، قد سار بالبلاد خلال الخمسة أشهر العجاف الأولى باتّجاه فقدان القيمة وإتلاف الثّقة وإلى إشفاق العالم من التّعامل معها أو إشفاق الطّيّبين على تونسيّين تولّى أمرهم حمارٌ يكاد يأكلهم ويأكل بلادهم بعد أن أكل باعترافه دستورها. بتنا في العالم مضغة الألسن ومصدر النّكتة السّاخرة المستهزئة ومضرب أمثال الانحطاط بجميع أنواعه وأصنافه، حتّى أجلسته رئيسه البرلمان الأوروبيّ يوم 18 فيفري 2022 ببروكسيل أمامها ترينا قفاه، تُريحُنا من وجهٍ كالحٍ ورأسٍ صلبٍ خُلّبٍ بتنا ننتظر بشوق متى نرى قفاه... بالغ المتغلّب في الشّتائم والسّباب حتّى أنطق بعض أفراد الشّعب سِبابا، وكره الشّعبُ إطلالته واستثقله حتّى استخفّ به ونطق سلفا بما سوف يقول في إطلالته.
بات التّونسيّـــون كمــــــا قسّمهم: "شعبا"، ناصر الانقلاب وأيّده بأساليب دخيلة على العرف التّونسيّ، فوجد الحُظوة والعناية من الأدوات حُمـاةِ الطّغاة، ومن وسائل إعلام مائلة تُنزله بعد أن مزّق أفرادُه الدّستور وأحرقوه صَنْوًا للّذين قدّموا أرواحهم وضحّوا بأنْفَسِ ما لديهم دفاعا عن وحدة البلاد وتوقـــيرا لرمـوزها وللدّستور. و"فيروساتٍ وجراثيــمَ مخمـورين"، حرصوا على الشّرف والحريّة والكرامة وتمسّكوا بالشّرعيّة، فرجمهم "شعب" الرّئيس الدّعيّ يستنكر حرصهم!
عافت القِيمُ التّونسيّةُ الأصيلةُ المسلمةُ التّائقةُ إلى التّعايش بحبّ وإلى الحريّة والكرامة وإلى السّلم والرّقيّ الحضاريّ هذا "الشّعب" الوصوليّ الأرذل السّاقط المستهتر بالقِيم، وهي تراه يُسنَدُ من طرف أعداء البلاد، من العُرب مجهولي النّسب ومن الإفرنج المحتلّين السّابقين وبالحشد الهمجيّ المذكّر بلاطمي الخدود ممزّقي الجيوب كارهي محمّدٍ ﷺ وصحبه وأمّهاتِ المؤمنين الطّيّبات، واختارت برشد الـ"فيروسـاتِ والجراثيــمَ المخمـورين" تُبارِك وجـودهم وجهودهم وتتقوّى بهم على الاستمرار في المجتمع الذي لا يكون الفلاح فيه
إلّا بوجودهم.
كانت خرجات المواطنين "الجراثيم" ووقفاتُهم تُقابَل بالتّضييق المبالغ فيه من طرف الأمن الذي رضي لنفسه استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، فانقلب من الأمن الجمهوريّ المتدفِّئ بحضن الشّعب حيث نسبُه الشّريف إلى مجرّد أداة عمياء ظالمة لقيطة يستعملها المنقلِب اللئيمُ بجهالة ضدّ الشّعب. عمِيَت بصائرُهم حتّى ارتفع الشّهداء الكرام من صفوف المواطنين "الجراثيم"، يُبارك تقتيلَهم ذلك "الشّعبُ".
ارتفع في عقارب يوم 8 نوفمبر 2021، الشّابّ عبدالرزّاق الأشهب شهيدا نحسبه، دفاعا عن حقّ مواطنيه في هواء نقيّ أرادوا تلويثه بالنّفايات المحليّة والمستوردة. وارتفع في تونس العاصمة يوم 19 جانفي 2022، رضا بوزيّان شهيدا نحسبه، نتيجة نزيف دماغيّ تسبّب فيه سحلُه من طرف إطارات الدّاخليّة "الكبار"، يوم 14 جانفي 2022، بمناسبة مشاركته في التّظاهرة التي خرجت رغم المنع احتفالا بتاريخ هروب المخلوع تحت ضغط الجماهير المطالِبة بالحريّة والكـرامة ذات 14 جانفي من سنة 2011 م، ثمّ كانت وقفة يوم الأحد 15 ماي 2022 بشارع الثّورة تُختم بحادث مرور مروّع بجهة تاجرة من ولاية مدنين، ارتفع بسببه الشّهيدان الكريمان نحسبهما، محسن النّصري وحِبُّه الهادي العاشوري، ابنا مدينة (بني خداش) الجالسة هناك على التّلّ في المخانق تقاوم بأخلاق أهلها ورِفعة قِيمهم وسموقِ قاماتِهم وتكوينهم القرآنيّ الرّساليّ كلّ الطّفيليّات المحليّة والوافدة، تجعل إحدى عينيها على الصّحراء وتجعل عينها الأخرى على السّواحل، تخشى على البلاد تسرّب ما يؤذي أهلها، أو يسيء إلى العلاقات الطّيّبة بينهم فيخدش المروءة فيها... ثمّ شاء الله ﷻ أن يلحق بهما يوم الجمعة 3 جوان 2022، أخوهما الهادي البارودي رحمه الله وتقبّله من الصّالحين، وذلك بعد إقامة في المستشفى استمرّت أكثر من أسبوعين، لِيَثقُل بذلك الحملُ على المنقلب، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
طُبع على القلوب فغُلّفت وخُتم على الأبصار فَعَمِيَتْ،فبات القتل ديدن الآلة وبات انعدامُه يزعج ساكنَ القصر. طال القتل مختلف جهات البلاد واستأسد "الأمن" يُشيع الفوضى حيثما نزل، متمترسا بقانون الغاب الذي أرساه طموح المنقلب وخروجُه عن دستور البلاد وقوانينها.
لم تنحصر مصيبة فريد السّيّاري وعائلته في ظلمه لنفسه بتعاطي المخدّرات أو ترويجها استجابة لرغبة الأشرار الذين أشاعوها في البلاد، بل أبلغته أيادي "أمن" مركز شرطة تينجة شمال مدينة منزل بورقيبة، الذين عذّبوه تعذيبا وحشيّا حتّى فارق الحياة، نهاية الأسبوع (27/28) أوت / أغسطس 2022، وأمّا الشّابّ الطّموح محسن الزّيّاني، أصيل مدينة سبيبة من ولاية القصرين، فقد اختار العمل للاسترزاق بدل "الحرق" ورمي نفسه في البحر ضمن جحافل الشّباب "الحارقين" إلى إيطاليا، أين تنشط تجارة الرّقيق، فقد وثّق الشّباب المُعاد إلى البلاد بيعهم إلى قيس سعيّد مقابل 3000 يورو للرّأس الواحد.
كان محسن تاجرا متجوّلا قد ارتبط بأناس من نفس طبقته الاجتماعيّة المعروفين في تونس بـ"الحمّاصة"، أصحاب العربات المتجوّلة أو الأكشاك الصّغيرة التي تبيع حبوب الحمّص المقليّ وبذور زهرة الشّمس وغيرها ممّا تعوّد التّونسيّون يوميّا على اقتنائه، وكان قد بلغ وسط العاصمة تونس، منطقة "الباساج" يوم 7 سبتمبر 2022، لمّا تفطّن له حرس الجمارك النّشطين واستعملوا معه الرّصاص الحيّ لقتله، حذر ترويج "مهرَّب" كانوا قد فَشِلُوا من قبل في ضبطه عبر المواني البحريّة والحدوديّة والجوّيّة الواقعة تحت إشرافهم ومجاهرهم.
لقد قُتل محسن بواسطة أربع إطلاقات، دفاعا عن النّفس كما أوهموا، ودفاعا عن اقتصاد البلاد المهدَّد من قبل التّهريب، وأخذا بتعليمات المنقلب الدّموي الذي هدّد في خطاباته المتكرّرة وبشّر باستعمال وابل الرّصاص الحيّ لتأديب الذين يهدّدون "شعبه" وأمنه، ممّن أفلتوا من صواريخه الجاهزة دوما على منصّات إطلاقها. وأمّا الطّالب مالك بن نورالدّين السّلايمي ذو الأربعة وعشرين ربيعا، فقد طورد يوم 7 سبتمبر 2022، من قبل "الأمن" الذين أخافوه فأفقدوه الثّقة فيهم، حتّى إذا حاصروه وهمّ بإلقاء نفسه في خندق بالمكان، عاجلوه بضربة مُبغِضة مبغِّضة، أفقدته التّوازن فسقط على ظهره ليصاب إصابة بليغة في النّخاع كلّفته سقوطا مستمرّا بقيمة 90 %، لم تمهله طويلا، حيث فارق الحياة رحمه الله تعالى، في مستشفى شارل نيكول، يوم الخميس 13 أكتوبر 2022.
ثمّ قرقرت البطون فحوّلت تلكم الهمهمات غير الجسورة إلى أصوات عالية واضحة ترفع الإصبعَ الجريءَ في وجه المتغلّب الذي أجرم وسَفَل، تُعلن بجسارة رفضَها ظلمَه وتعدّيَه على العباد واستمراءَه قتلهم واختطافهم وتغييبهم في الزّوايا المظلمة المجهولة، وتستنكر سوء إدارته وتحذّر من انهيار الدّولة وخراب العمران... ألفى النّاسُ أياديَهم فارغة أو هي غيرُ قادرة بدنانير تراجعت قيمتُها وتأخّرت مواعيدُ دفعِها على توفير موادّ تموينيّة كانت لكثرتها بالأمس عديمة الجاذبيّة فأحدثت اليوم بقلّتهـــــا أو انعدامهـــا كثيرًا من الجذب والتّجـاذب، فمالوا على أياديهم دون غيرها يعاتبـونها لِمَ صفّقت مستعجلةً للانقلاب.
شحّت الموادُّ وانعدم وجودُ بعضها وارتفع ثمنُها وامتدّت الصّفوف الباحثة عنها أمام مغازةٍ
أعلنتْ فيها وجودَها. طال انتظار النّاس فكثر صخبُهم وانتعشت مفرداتُ التّنافر فيهم فاشتدّ الصّراعُ بينهم وأظهروا داخلهم شوكة تنذر بانعدام الثّقة وبنموّ أنانيّة غريبة تُنسي أخوّتهم وتكاد تذهب بوحدة أصلهم.
كان يوم 30 مارس 2022 يوما مشهودا، أراد النّواب فيه تذكير الشّعب الذي اجتهد دعيُّ القصر في إنسائه أنّ إهانتَهم ومحاولةَ استنقاصِهم أو إبطالَ أعمالِهم إنّما هي إهانةٌ للشّعب واستنقاصٌ له وسخريّةٌ منه واتّهامٌ له بعدم القدرة على اختيار مَن ينوب عنه في هذه المؤسّسة الرّئيسة في البلاد ذات المرجعيّة القانونيّة الأصيلة، وأنّ استقلال البلاد إنّما يعني أوّل ما يعني حرّيةَ أهلِها وثباتَهم على مبادئهم وعدمَ التّلاعبِ بمصالهم واختياراتِهم أو خيانة أمانـتِهم ونقض عهــودهم أو الاعتداء على رمــــوزهم والإخلال بمسارهم وتجاهل قِيَمِهم. دأب "التّونسيّــون"، الذين باتوا يمثّلون امتدادَ أعـــــــداءِ البلاد في البلاد وحمـاةَ الظّلمة والدّكتاتوريّة، على وصف نُوّاب الشّعب الذين اختارهم الشّعب بـ"المجمّدين"، فلمّا تحرّكوا استغربوا حركتهم ورفضوا فعلهم واصطفّوا مع ساكن القصر المريض يندّدون بانقلابهم فيُعلن هو ملبّسًا على النّاس التّصدّيَ بحزم لهم، حفاظا على الدّولة ودفاعا عن وحدة التّونسيّين ومنعًا للاقتتال بينهم!..
بطلٌ لا يُشقّ له غبارٌ يرى نفسه الدّولة، ويستعمله "الشّعبُ" الدّعيّ المتعيّش من وجوده بابًا غيرَ محروسٍ يلجون منه إلى الدّولة، وزراءَ وولّاةً ومعتمدين، لا أخلاق لهم ولا مستويات علميّة ولا كفاءة حتّى ليفرّ بوجودهم معنى الدّولة.. تدابرت المصطلحات فحصّن المنقلبُ نفسه الطّموحَ الشّاردة بجمهوريّته الثّالثة...
حفظ المنقلب عن بعض التّونسيّين هُيَامَهم ببورقيبة الزّعيم بطل الجلاء ومحرّر المرأة، وحفظ عن بعضهم الآخر حديثهم عن (بن علي) وأنّه ظلّ رغم "صناعة التّغيير" عديمَ الصّلة بالزّعامةِ خادمةِ "مشروعيّة" الرّئاسة المطوّلة مستعمِلة المطارق مؤدّبة جماجم الشّعب، فاختار لنفسه "جمهوريّة ثالثة" ظنّ أنّها تُلبسه الزّعامة فتُكسبه "المشروعيّة" وينسّي بها الشّرعيّة التي أرستها الثّورة بالمؤسّسات والنّصوص!
فَقَدَ المنقلب صوابه واستمرأ القصر والكرسي ورغب في الألوهيّة حتّى رآه عياض بن عاشور، أحد أبرز مقاومي الانقلاب، نسخة رديئة فاسدة لقيس الذي كان قد عرفه، حتّى أعلن أنّه بات لا يعرفه!. فسبحان القائل ﷻ: {وَمَنْ يَّهْدِ اِ۬للَّهُ فَهْوَ اَ۬لْمُهْتَدِۦۖ وَمَنْ يُّضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِۦۖ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ اَ۬لْقِيَٰمَةِ عَلىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياٗ وَبُكْماٗ وَصُمّاٗۖ مَّأْوَيٰهُمْ جَهَنَّمُۖ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَٰهُمْ سَعِيراٗۖ} (الإسراء: 97)...
نطق النّوابّ الكرام بما تفرضه مروءتُهم فأصدروا مشروع القانون رقم 1 / 2022، القاضي ببطلان كلّ ما اتَّخَذَ المنقلبُ المتغلّبُ بغباء التّونسيّين من قرارات غبيّة تُذِلّ الشّعب وتخرّب الاقتصاد وتبشّع البلاد وتُفقد النّاس الثّقة فيها وفي أهلها... ثارت ثائرة المنقلب فوصف عملهم القانونيّ الذي لم يخرج عن الفصل (80) الذي اعتمد هو نفسه عليه، بالانقلاب! بدا بغضبته دنيئا أنانيّا ساديّا يُجبِر أعداء بورقيبة و(بن علي) الألدّاء على التّرحّم عليهما، فإنّهما ما سفلا سفالته ولا تردَّيا في الإثم في حقّ البلاد تَرَدِّيَهُ... سفل حتّى رأى انقلابه وحالة الاستثناء مرجعا ورأى الدّعوة إلى مقاومة الانقلاب والرّجوع إلى الحالة الدّستوريّة الطّبيعيّة انقلابا! تردّى وقلّ أو انعدم حياؤُه حتّى أعلن حلّ البرلمان الذي نصّبه رئيسا للبلاد، فاندفع أعوانُه الأذلّاء مسنَدين بالإعلام الهابط عدوِّ البلاد، يشيعون الرّعب في صفّ أهالي النّوّاب، بما أرسلوا من استدعاءاتٍ تنبئُ ربّما بانطلاق الأبحاث في شأنهم. برز المعلّم ﷺ يذكّر الصّادقين ليسندَهم ويقوّي صفّهم: [سيأتي على النّاس سنوات خدّاعات يُصدَّقُ فيها الكاذبُ، ويُكذَّبُ فيها الصّادقُ، ويُؤتَمَنُ فيها الخائنُ، ويُخَوَّنُ فيها الأمينُ، وينطق فيها الرُّوَيبضةُ، قيل: وما الرُّويبضةُ؟ قال: الرَّجُلُ التّافهُ في أمر العامّة] أو قال: [السّفيهُ يتكلّم في أمر العامّةِ]. ثمّ كان يوم الجمعة 01 أفريل 2022 موعد اصطفاف الرّجال الصّادقين من الذّكور والإناث أمام بناية الوحدة المركزيّة لمكافحة الإرهاب بثكنة بوشوشة يسندون نوّابهم الثّلاثين يتقدّمهم رئيسُهم وقد اتُّهِموا بالإرهاب وبالمساس بالدّولة وبقوتِ التّونسيّين، كما أَفَكَ الرّئيس مفكّك مؤسّسات الدّولة المتحيّل على التّونسيّين بكثرة الحديث عنهم وعن أقواتهم! رآهم خطرا داهما فجمّدهم ورآهم خطرا جاثمًا فأغرى بهم مُتجبِّنًا سفهاءَه، ثمّ ما لبث أن تبيّن له أنّهم إرهابيّون يهدّدون دولته بالانقراض و"شعبه" بالخنوس، فحلّ مجلِسهم، وهو يأمل كما نطق: "أن يكون القضاء معنا في هذا المفصل التّاريخي الحسّاس"، مضيفا أنّ هؤلاء لا يعيشون إلّا إذا كانت الدّماء غزيرة رقراقة في البلاد، مستهزئا ببعضهم الذين اعتبروا أنّ حلّ البرلمان يقضي بانتخابات تشريعيّة ورئاسيّة خلال ثلاثة أشهر بقولٍ لن تجد أوضح منه تعبيرا عن الدّكتاتوريّة: "مِن أين جاؤوا بهذه الفتوى؟ نحن نتكلّم عن دولة وهم يتكلّمون عن الانتخابات"!.
احتفل المصطلح بمعناه، فكان (الإرهاب) الرّساليّ كما قدّمه القرآن الكريم يُرهب الظّالم المغتصب ويرجّه رجّا حتّى سرّح وزيرةَ عدله فسَرحَتْ تهرِف، تتّهم نوّاب الشّعب بل تتّهم الشّعب الذي انتخبهم بجريمة "تكوين وفاق بقصد التّآمر على أمن الدّولة الدّاخليّ"، وذلك بُعيد الجلسة البرلمانيّة المذكورة أعلاه التي جرت عن بعد.
عامَل رجالُ تونسَ نوّابهم "العابثين" بما يليق بهم؛ إذ سرّحوهم بعدما استمعوا إليهم، أعزّاء يرفعون أعلام بلادهم ويردّدون نشيد ثورتهم مؤمنين بربّهم وبعدالة قضيّتهم واستقامة توجّههم حتّى انطلق مستقبلوهم في شارع الجوار يعلنون: (الشّعب يريد ما لا تريد) ويطوّرون شعارَهُم القديم القائل (يسقط يسقط الانقلاب) إلى جديد أكثر وضوحا (يسقط يسقط قيس سعيّد)! وانطلق عميد المحامين الرّجل الفذّ الصّادق نحسبه عبدالرّزّاق الكيلاني يصف ما جرى فضيحة لتونس الثّورة وعارا على أهلها جميعًا، مشدّدا على التّمسّك بالقانون وبدولة المؤسّسات رغم انصراف قيس سعيّد وأعوانه عن الدّستور ومدنيّة الدّولة.
كان العميد عزيزا أبيّا، وكان ذلك يسيء كثيرا لقيس الذّليل مقبّل أكتاف الرّئيس الفرنسيّ مكرون، الذي عمل بدنوّ قِيَمِه على إفقاد التّونسيّين عزّتَهم وأنفتَهم، حتّى وقف بعض "المبدعين" اللئام في المسارح وعلى الرّكوح، هنا وهناك، ملعونين بما يقدّمون، يُسمعون جماهيرهم السّائبة العطشى سِبابا مقذعا متبرّجا سمِجا مؤذنا بغضب الله ﷻ، علّهم يتمكّنون من إضحاكهم.
كان طبيعيّا إذن أن يُستدعى العميد بـ"جريرته" للمحاكمة في محاولة فاشلة مقطوعة مبتورة، لتسلّق قامته وإحناء رأسه!
يُعتبر يوم 8 ماي تاريخًا أسودَ، تُحييه الجامعة التّونسيّة كلّ سنة، تُذكّر طلّابها ومَن اعتنى بتونسَ وطلّابِها بالأحداث الدّمويّة الأليمة التي جرت فيه سنة 1991. كان نظام الاستبداد قد مارس وقتها أشدَّ ضروبِ القمعِ وأكثرَها مضاءً ضدّ الحركة الطّلابيّة ذات التّوجّه الإسلاميّ، وذلك باستعمال الرّصاص الحيّ، ما أدى يومها إلى مقتل طالبين من الاتّحاد العامّ التّونسيّ للطّلبة، الابنين عدنان سعيد وأحمد العمري وإصابة آخرين من شباب تونس الحالم، واعتقالهم.
ولمّا كانت الجريمةُ مسترسلةً وكان المجرمون بعضهم من بعض، فقد اختار أنصار قيس
سعيّد تاريخ تلكم الذّكرى للخروج، سنة 2022 إلى الشّارع، محروسين بأجهزة الدّولة، مطالبين بمحاسبة أناسٍ يُزعجهم وجودهم، لا يختلف سمتُهم عن سمت أولئك الذين قضى من بينهم الطّالبان الكريمان، فيحرّضون الدّاخليّة عليهم، ويذكّرونها بأسمائهم، مؤكّدين أنّهم لا يرتاحون ولا يهنؤون إلّا بإبادتهم وإفنائهم.
ثمّ كان يوم الأحد 15 ماي صادما للمنقلب؛ إذ أطّت الشّوارع بعشرات الآلاف من التّونسيّين ذوي السّلوك الحضاريّ، تنديدا بسلوك الكذب والخيانة وبعدم احترام التّونسيّين، ثمّ وقف الأستاذ أحمد نجيب الشّابّي أحد شيوخ معارضي الانقلاب يُعلن ميلاد جبهة (الخلاص الوطنيّ)، المكوّنَةِ مبدئيّا من كبرى الأحزاب في البلاد التّونسيّة، ومن مجموعاتٍ رشدت من المجتمع المدني ومن شخصيّات مستقلّة وازنة، لتكون رافدا أو هي امتدادٌ لعمل (مواطنون ضدّ الانقلاب) الذين أبدعوا وأبلوا في عملهم الباني بإذن الله تعالى، مُذ انطلقوا فيه بداية سبتمبر 2021.
كان أوّل عمل قام به المنقلب بُعيد 25 يوليو 2021 هو إبطال مهمّة الوزير المكلّف بإمضاء العدالة الانتقاليّة، النّقيب الأسبق عبدالرّزّاق الكيلاني، وقد فعل ذلك استجابة منه لأعداء العدالة المجرمين وتفاعلا معهم وتأليفا لقلوبهم. فقد كانوا لا يريدون معالجة ما ورِثَته البلادُ من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان كانوا هم أبطالها؛ إذ قد تجرّ تطبيقاتُها وتدابيرُها إلى الملاحقاتِ القضائيةِ والمثولِ أمام قضاة الحقّ للتّخفيف عنهم لو فقهوا من حرج الوقوف أمام الحقّ ﷻ. استعملوا كعادتهم وسائلَهم الخبيثة الملبّسة على النّاس، فانطلق أولئك "المتخصّصون" و"المحلّلون" المقيمون في دور الصّحافة المجرمة ينذرون بفقرٍ مدقعٍ يتهدّد البلاد قد يذهب بأرصدة خزائنها؛ إذ "الأعداء" قد اصطفّوا ينهبونها باسم التّعويض. بالغوا حتّى رأى "النّاسُ" بعيونِ آذانِهم كلّ مركبة تجري على الطّريق أو تمخر البحر العميق نتاجَ "تعويضٍ" غنمه بالنّهب أولئك "الأنانيّون" المترَفون العائدون من وراء البحار، أعداءُ البلاد و"الشّعب".
ثمّ ثنّى بعد العدالة الانتقاليّة بالهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد، فأبطل دورها، ليس بسبب تقصيرها في مهامّها أو عدم صرامتها في مواجهة الفاسدين وعدم الإسراع بكشفهم ووقف عربدتهم، ولكن خوفا من نزاهةٍ محتملة قد تتحلّى بها الهيئة أو إتقان مراقبة قد تتوصّل بها كما يرغب التّونسيّون إلى حصر قوائم الفاسدين الحقيقيّين، فإنّه بهم يتغطّى وبهم يسود، حتّى إذا أبلغه لؤمُه المنازلَ المنخفضةَ جدّا فحنث في القسم وخان العهد وتنكّر للّذين نصّبوه والذين حاذَوا به حتّى ثبّتوه، عادى رئيس الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات حتّى رآها بعمى بصيرته غير مستقلّة فأبطلها وحلّها ليعوّضها بأخرى اختار أعضاءها بنفسه فنصّبهم أذلّاء يشهدون على أوّل تدليس صارخ في استفتاء 25 جويلية 2022، يعطّل به نزاهة وشفافيّة تميّزت بها كلّ انتخاباتِنا الرّئاسيّة والتّشريعيّة والمحلّيّة خلال العشريّة المنصرمة، وشهد بهما العالم لتونس الثّورة رائدة الرّبيع العربيّ الذي أصاب حكّام العرب الظلمة عشّاق الخريف والشّتاء بحساسيّة إزهار الرّبيع.
يردّد النّاس الحديث القائل: (البرّ لا يبلى، والذّنب لا يُنسى، والدّيّان لا يموت، ابن آدم اصنع ما شئت فكما تدين تدان) . لم يكتف المنقلب بترديد الحديث على إرساله وضعفه، بل مضى في الأخذ به والعمل على "استثماره" وتنزيله... لم ينس للقضاة الشّرفاء "ذنبهم" المتمثّل في عدم انصياعهم لطلباته القاضية بتجريم النّوّاب بسبب فعلتهم يوم 30 مارس 2022، فألقى بهم بالمنشور خارج حصنهم "قضاةً فاسدين" خطرا كما أفَك على القضاء واستقلاليته. تحوّط فلم يبادر بالسّطو على القضاة إلّا بعد أن حلّ أهمّ هيئة دستوريّة تمثّلت في المجلس الأعلى للقضاء؛ إذ أنّها الضّامنة في نطاق صلاحياتها حسن سير القضاء واستقلاليّة السّلطة القضائيّة طِبْق أحكام الدّستور التّونسيّ 2014 وهي المحترمة لكلّ المعاهدات الدّوليّة المصادَق عليها. حلّها وأبدلها بمقتضى مرسوم بمجلس انقلابيّ سمّاه "المجلس الأعلى المؤقّت للقضاء"، نصّ به مدلِّسا على استقلاليّته الوظيفيّة والإداريّة والماليّة.
جعل القضاء وظيفة لدى السّلطة التّنفيذيّة بعدما كان سلطة تراقب استقامة السّلطات وتقضي بينها لتقويم المعوجّ وترشيد المنحرف.
كلمة خلّدها التّاريخ للدّكتور محمّد العفّاس بارك الله فيه وفي محيطه: "يبقى الرّجال رجالا ويبقى الطّبّوبي طبّوبي"!.. صدق الدّكتور محمّد وربّ الكعبة، وانسحبت مقولته على كثير ممّن كان "بعض النّاس" يحسبونهم رجالا، فبقي الرّجال رجالا كما قال وبقي الطبّوبي طبّوبي وبودربالة بودربالة والزّكراوي زكراوي وبلعيد بلعيد وأمين أمين، وبقي قيسٌ قيسا. فهؤلاء المذكورون من غير قيس وغيرهم من النّفعيّين والمتسلّقين والطّفيليّين والعاهات التي أوجدها التّونسيّون هم أكثر مَن أجرم في حقّ التّونسيّين وفي حقّ البلاد عموما. ولقد كان المنقلب أمينا لمعدنه غدّارا قد جافى الحياء وعاف المروءة؛ إذ قذف بهم الواحد تلو الآخر بعيدا عن منزلِه بعد أن حصّن بأيديهم منزلَه!
لقِيَتْ مقولته (ليس للبلاد إلّا رئيسٌ واحدٌ) كثيرا من القبول لدى مرضى القلوب، فلاكوها وجرّموا بها حتّى أوقفوا الأستاذ راشد الغنّوشي وهو يومئذ رئيسُ البرلمان متّهما في البرلمان تجب محاسبتُه ويجب إبعادُه عن مواطن يسيء إليها بوجودِه فيها!
كانت رئاستُه للبرلمان وقبلها رئاستُه لحركة النّهضة التّونسيّة وقبلهما تجربتُه وعلاقاتُه الشّخصيّةُ تجرّئه على الخوض مع النّاس الفاعلين في بعض أنحيَةِ العالم فيما ينفع البلاد ويؤسّس لوجودها الفاعل في محيطها ويمهّد للاستفادة من العلاقات الأخويّة البنّاءة المهتمّة بثورة تونس وبتَوْقِ أهلها إلى الحريّة والكرامة ويعكس اهتمامها بشؤون الجيران والمسلمين حيثما كانوا، حتّى تناقل بعض النّاس أنّ موافقة قطر على منح تونس ملعبها (974) المعروف بملعب الحاويات المكوّنة له، كانت منذ تاريخ مبكّر وربّما كانت بسعي من الرّجل وباستثمار علاقة الإسلاميّين بقطر، فلمّا انقلب قيس على السّلطة وخان وغدر تراجعت قطر ففكّرت في منح الملعب للمغرب الشّقيق، فهو الأولى به لا سيّما بعد المسيرة النّاجحة التي أدّاها لاعبوه الرّجال، والمغاربة أكثر ثباتا على العهد وأكثر عملا من أجل مصلحة بلادهم بعيدا عن الانقلابات والملفّات المافياويّة القذرة.
كان ذلك يُبئس المنقلب والذين لمّعوا له سرج فرسه العاثر! عاب المنقلبَ انفتاحُ غيره فلم يسع إلى مداواة انغلاقه وعابه أن يوضع لغيره القبول لدى النّاس فلم يسع إلى البحث في أسباب القبول والأخذ بها، بل لعب على وجودِ الآخر يبطله ويقصيه ويمنعه ويكمّم فمه ويضرب على يديه ويجرّه أمام المحاكم التي أرادها إدارة وظيفيّة يظنّ استجابتها العمياء لإرادته.
امتثل الأستاذ راشد الغنّوشي للقضاء وانتصب أمام كرسيّ القطب القضائيّ، إحدى عشرة ساعة، شيخا ثمانينيّا، يُحسن الصّمود في مخانق المقاومة، بحضور محامينَ أكفاءَ مقتدرين، يدفعون عنه تُهَم تبيض الأموال وحيازة ملياراتِها والمساهمة في الأعمال الإرهابيّة! اقتنع القضاء بخلوّ الملفّ من الحجج وبجرأة مُعِدِّه الأثيم على حرمات النّاس وعلى الجمعيّات الخيريّة التي منها "نما" الخيريّة، قرينة الشّيخ في التّهمة، وهي التي ساهمت بشهادة التّونسيّين في مساعدة كثير منهم وانتشالهم من الأوضاع المأساويّة التي لم تكترث لها مؤسّسات الدّولة، فسرّحه ليلة يومه الطّويل الموافق الثّلاثاء 19 جويلية 2022، بطلا قد حسُن استقباله من طرف الكرام الذين رابطوا يومهم ذلك في حرّ الشّمس يريدون لتونس الحريّة والعزّة والتّحابب بين أهلها جميعا! كان رئيسا حقّا، يحسن البسط والكلام والصّبر على الأذى حتّى ليرى غيرَه ممّن يريد دون حقّ دستوريّ اغتصاب لقب الرّئاسة منه مجرّد فأر قد حوّل بفسقه (والفأر فويسقة) قصر قرطاج الرّمز إلى مجرّد جُحرٍ أَسِنَتْ سوائلُه ونَجُسَتْ محتوياته!
تكلّم الشّيخ ليلتها لوسائل الإعلام العالميّة عن أهمّ منجز من منجزات الثّورة الذي تمثّل في حرص القضاء على إمضاء الحقّ دون ميل أو خوف ممّن أشهر سيفه فوق رأسه يستهدف رقبته، كما أطنب في الإشادة بالمستوى العالي المرموق المحدّث بالمروءة للمحامين الذين كان أغلبُهم في تونس على مرّ الأزمنة الدّرعَ الواقي لحقوق الإنسان والصّوت الجريء الذي لا يتلعثم عند الصّدع بمفردات الحقّ والعدالة.
أراد قيس بتلك المحاكمة الذّهاب إلى يوم 25 يوليو 2022، رئيسا أوْحَدًا للبلاد لا شريك له، قد أذهب الفسادُ غيرَه من الرّؤساء، يستحثّ النّاس على الخنوع له، فلمّا خاب وفشل أغرى أذياله بالشّيخ مجدّدا، فقد ذكروا له استعمال مفردة من مفرداته القديمة التي أحصَوْها عليه، والتي تجرّعوا ولا يزالون حسب ما قالوا يتجرّعون مرارتها، دون أن تُلاحَظ عليهم استفادةٌ من تطعُّمِ مرارتها. فدَعَوْه إلى المثول يوم 3 أوت / أغسطس 2022، أمام إحدى الفرق الأمنيّة بثكنة الحرس الوطنيّ بالعوينة سيّء الذّكر زمن (بن علي)، لاستنطاقه من جديد على خلفيّة استعماله مصطلح "الطّاغوت"، ذاك الذي ليس عند المسلمين سوى معبود أو متبوع أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله، لا يكون إيمان المرء بالله ﷻ إلّا بالكفر به: {فَمَنْ يَّكْفُرْ بِالطَّٰغُوتِ وَيُؤْمِنۢ بِاللَّهِ فَقَدِ اِ۪سْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ اِ۬لْوُثْقَيٰ لَا اَ۪نفِصَامَ لَهَاۖ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌۖ اِ۬للَّهُ وَلِيُّ اُ۬لذِينَ ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ اَ۬لظُّلُمَٰتِ إِلَي اَ۬لنُّورِۖ وَالذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ اُ۬لطَّٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ اَ۬لنُّورِ إِلَي اَ۬لظُّلُمَٰتِۖ أُوْلَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ اُ۬لنَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَۖ} (البقرة: 255 – 256). مصطلح كان ورد على لسان الأستاذ الغنّوشي خلال تأبينه لفرحات العبار أحد قياديّي حركة النّهضة بجهة تطاوين جنوب البلاد التّونسيّة في شهر فيفري الماضي 2022، وهو يستعرض نضاله رحمه الله تعالى ضدّ دكتاتوريّة (بن علي) الأثيم، ما قبل الثّورة. أرادوا بالمصطلح دون فقهه إرهاب الشّرفاء الذين طالهم من قبلُ ظلمُ وأذى الطّاغوتِ واعتداءاتُه اللّاإنسانيّةُ ليشكّكوا في تزحزحهم عن مربّع الضّلال القديم المرابط لأجل صرف النّاس عن الخير. ثمّ كانت المحاكمة فرصة للشّيخ كي يرشّد المنقلب؛ إذ تحدّث بحكمة وصبر مدروس عن معاني الوسطيّة والاعتدال وعن الحريّة والدّيمقراطيّة التي إن أُرسِيَت بحقّ منعت النّاسَ من أن يُقاضُوا النّاسَ من أجل آرائهم ولم تمنع الألسنةَ النّطقَ بالمفردات التي تراها صالحة للتّعبير، طالما احترمت تلك المفردات السّامع العاقل وامتنعت عن الفحش واجتنبت الإسفاف والتّعدّي.
ثمّ كان يوم الأربعاء 10 أوت 2022 يوما استثنائيّا بامتياز، وصفه أنس الحمّادي رئيس جمعيّة القضاة التّونسيّين بالتّاريخيّ والإيجابيّ، فقد جاء بعد شهرين من نضال متواصل متنوّع خاضه الهيكل القضائيّ مُوحَّدا متّحِدا، نصرة لإخوانهم القضاة الفضلاء المستهدَفين بسبب عدم استجابتهم لإملاءات السّلطة التّنفيذيّة المتغوّلة الموغلة في السّير نحو الدّكتاتوريّة العضوض؛ فقد أعلن عماد الغابري المتحدّث باسم المحكمة الإداريّة أنّ المحكمة وبعد أن درست الملفّات السّبعة وخمسين بحسب خصوصيّتها حالة بحالة وتوقّفت معها طويلا مدقّقة في التّهم الجُزاف الملقاة على القضاة المعنيّين، انتهت إلى أنّ التّهم ملفّقة ومبنيّة على مجرّد إفادات أمنيّة فارغة وغير قانونيّة وأنّ قرارات الرّئيس سعيّد لا تتوافر فيها الشّروط القانونيّة والعمليّة للعزل بحقّ سبعة وأربعين قاضيا من مجموع السّبعة وخمسين الذين صدر بشأنهم قرارُه، وقرّرت بذلك وقف تنفيذ أمر الرّئيس قيس سعيّد عدد 516 الصّادر في 1 جوان 2022 والقاضي بالإعفاء، مشيرا إلى أنّ حكم المحكمة باتّ ونهائيّ ولا يقبل الطّعن.
ثمّ كان المجال واسعا "ثَرِيًّا" للخوض في تحديد مَن يتحمّل مسؤوليّة هذا التّجرّؤ على القضاء التّونسيّ وعلى الشّرفاء فيه، فتحدّث النّاس عن مسؤوليّة وزيرة العدل وطالبوها قبل إقالتها بالاستقالة، وتحدّث آخرون عن مسؤوليّة وزير الدّاخليّة، الحادي الأهمّ في سَوْق "نُوقِ" الرّئيس، في حين تحدّث آخرون كُثرٌ عن المسؤوليّة الكاملة للمنقلب الذي أفسد على البلاد كلّ إمكانيّاتها وأطغى على خضرتها احمرارها ولؤمَه على مروءة أهلها، ثمّ بقي تحديدُ المسؤوليّة النّهائيّ رهينَ السّياسة الموروثة عن الحِقبة البورقيبيّة، المتمثّلة في "تقديم كبش الفداء"، فهي سياسة قديمة متجدّدة لن ينفكّوا عنها إلّا إذا بلغ بهم الاعتقادُ أنّ فوق الجميع ربّا عظيما يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصّدور، قد أمر رسوله ﷺ بتبشير عباده برحمته وتحذيرهم من سوء العاقبة: {نَبِّۓْ عِبَادِيَ أَنِّيَ أَنَا اَ۬لْغَفُورُ اُ۬لرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِے هُوَ اَ۬لْعَذَابُ اُ۬لْأَلِيمُۖ} (الحجر: 49 -50).
كانت تلك تحليلات النّاس وانتظاراتهم، وكان للمنقلب - القادم كما صرّح هو نفسه من كوكب آخر - مسار آخر في كوكبه الآخر، بعيدا عن تونس لا يكترث لما يجري فيها، وبعيدا عن التّونسيّين لا تهمّه معاناتهم وما ينغّص حياتهم، ففي الوقت الذي كانت النّيرانُ المُنكرَةُ مجهولة المصدر والمبلَغِ تلتهم أجزاءً واسعةً من غابات الحدود المشتركة بين تونس والجزائر في مشهد يذكّر بساقية سيدي يوسف التي مُزجَت فيها الدّماء التّونسيّة الجزائريّة دفاعا عن الحياض ومقاومةً للاحتلال الغاشم، وفي الوقت الذي كانت عشرات الأرواح الطّيّبة تصعد إلى ربّها حريقة شهيدة في مشاهد تدمي القلوب المؤمنة وتعقد الألسنة الصّادقة، كان هو مساء الأربعاء 17 أوت 2022، في القصر الذي أدخله إليه دستور البلاد، يرفع مجلّده الأحمر الدّمويّ الكبير يعلنه "دستورا" يعوّض به دستور البلاد ويحاربه حتّى يحذف فصله الأوّل المتحدّث عن دين البلاد ولغتها وحتّى يغيّر شكل راية البلاد فيه، ويخاطب "شعبه العظيم" ويمجّده ويهنّئه ونفسَه بالانتصار على قوى الرّدّة، دون اهتمامٍ بالنّيران ودون خوفٍ منها: "نعيش اليوم معا يوما من أيّامنا التّاريخيّة الخالدة وهي كثيرة ليس أقلّها يوم 25 يوليو من السّنة الحالية، ومن السّنة الماضية"... ففيه انقلب سنة 2021 وفيه مرّر مشروعه سنة 2022، حتّى اعتبره "يوم التّطابق بين الشّرعيّة الدّستوريّة والمشروعيّة الشّعبيّة بل مع المشروعيّة الثّوريّة". بلغ سعيّد مستوى الفراعين فرأى نفسه لا يموت أبدا ومنح نفسه بالـ"دّستور" الجديد الخيانة ما "يرقّي" تأبيده وهيمنته دون أن ينسى الاستعانة بهامان الذي نوّب عنه الشّعب، فالمنقلب وقد طغى قد عبد - مثله مثل أغلب السّياسيّين - الشّعب، فإنّه لا يخطو خطوة قُدما إلّا باسمه، فالإرادة ليست إرادته وإنّما هي إرادة الشّعب، في مشهد يذكّر بالأبحاث في دهاليز الدّاخليّة، فقد كانت المحاضر تصاغ بمشيئة الباحث وتُمضى باسم المتّهم؛ إذ لا قيمة للوثيقة إلّا بالإمضاء، وإنّ الإمضاء ليزيد فاعليّة ويكتسب مصداقيّة عندما يكون بالإبهام، وهو ما يُفعل بهذا "الشّعب العظيم" الأمّي الذّليل المنصرف عن نفسه؛ فقد بات الفرعون وقد نسي الله ﷻ يقسم "باسم الشّعب" ويحقّق كلّ انحرافاته بالاتّكاء عليه!.. يقول سعيّد البئيس المبئِس: "إنّ الشّعب التّونسيّ يريد تطهير البلاد، وعلى القضاء أن يكون في الموعد لمحاسبة كلّ من خرّب البلاد واستولى على مقدّرات الشّعب المنهوبة في الدّاخل والخارج". يقول ذلك والنّاس لا يجدون زمن حكمه الفرديّ ما يأكلون ولا يستطيعون تخزين ما ينتجون خوفا من ميليشياته التي قضت على مخزون البلاد!.. مضيفا أنّه "سيتمّ وضع قانون انتخابيّ جديد".. مستشرفا أنّ "أثر القوانين الانتخابيّة على سير المؤسسات ليس أقلّ من أحكام الدّستور".. مشيرا إلى أنّه "سيتمّ في أقرب الآجال إرساء المحكمة الدّستوريّة لحماية الحقوق والحرّيات والمحافظة على علوية (علوّ) القانون"، وهو الذي كان قد امتنع تمهيدا لانقلابه عن الإمضاء على تشكيلتها المختارة والمتّفق عليها من طرف نوّاب الشّعب، فلو أمضى وقتها لما تمكّن من الانقلاب ولكان للبلاد حَكَمٌ يضرب على أيادي المتهوّرين أمثاله ويُلزمهم مواطن الحكمة.
لم يتفرّد القضاء التّونسيّ في الحكم على عدم وجاهة سلوك هذا المنقلب وعلى عدم قانونيّة قراراته فأوقف بالنّصّ تنفيذها، بل لقد صدر في شهر سبتمبر 2022، حكمٌ من المحكمة الإفريقيّة لحقوق الإنسان والشّعوب، ضدّ إجراءاته وطالبته بالعودة إلى الدّيمقراطية الدّستوريّة وإلغاء الأمر الرّئاسيّ رقم 117، الصّادر في 22 سبتمبر 2021، المتعلّق بالتّدابير الاستثنائيّة، وكذلك إبطال المرسوم الرئاسيّ 69 المتعلّق بإعفاء رئيس الحكومة ووزير الدّفاع ووزيرة العدل بالنّيابة، وإبطال الأمر 80 القاضي بتعليق اختصاصات مجلس نواب الشّعب ورفع الحصانة عن النّواب، وإبطال المرسوم 109 الممدِّد لإجراءات الأمر 80، مضيفة أنّ "التّدابير الاستثنائيّة المتّخَذَة من طرف الدّولة المدَّعى عليها من طرف المحامي التّونسيّ إبراهيم بلغيث لم تصدر وفقا للقوانين المعمول بها في الدّولة المدَّعى عليها ولم تكن متناسبة مع الغرض الذي اعتُمدت من أجله، مبيّنة أنّ "الدّولة المدّعى عليها (تونس المتمثّلة هنا في شخص سعيّد المنقلب) انتهكت حقّ الشّعب في المشاركة في إدارة شؤونه العامّة كما هو مكفول في المادة 13 من الميثاق الإفريقيّ لحقوق الإنسان"، ثمّ طالبت المحكمة في النّهاية تونس (المنقلب) بإعداد تقرير خلال أجل قدره ستّة أشهر ابتداء من تاريخ تبليغ الحكم حول الإجراءات المتّخذة لتنفيذه، ثمّ الاستمرار بعد ذلك بتقديم تقرير دوري كلّ 6 أشهر.
ظلّ قيس سعيّد لا يبصر، ولا يسمع، وظلّ يُكثر من الكلام المفضول، أو يتكلّف بلاهة تزيد من سخرية النّاس منّا، حتّى ليتساءل معنا لِمَ لا يكون في البلاد حليبٌ وسكّر وزيت وموادّ أساسيّة!.. لا يخوض كثيرا في ذلك، فقد أهمّه وجود مَن لم يسمّهم ممّن حاولوا بكلّ الطّرق إفشال الاستفتاء بعدما حاولوا إفشال الاستشارة الوطنيّة التي تعرضت حسب زعمه لأكثر من 120 ألف هجوم إلكترونيّ من الدّاخل والخارج. يرى أنّ الكثيرين لم يتمكّنوا من التّنقل يوم الاستفتاء إلى مراكز الاقتراع بسبب ما مورس عليهم من ضغوطات لم يسمّ مصدرها؛ إذ زعم أنّنا نعلمها. ظلّ الفضاء الافتراضيّ يُؤرّقه كثيرا، ورأى التّضييق عليه ضرورةً تمليها متطلّبات التّسلّط والتّغلّب قرينة الانقلاب، ولذلك سارع إلى إصدار المرسوم 54 في الثّالث عشر من سبتمبر 2022. والمرسوم ضربة من الضّربات العنيفة الموجّهة للحرّيات الشّخصيّة المتعلّقة أساسا بالإبحار في النّات وبالكتابة والنّشر. وقد اجتهد المنقلب الخبيث في التّدليس والتّلبيس على النّاس، فخلط بين ما هو نافع وبين ما هو ضارّ. فإنّ أحدا لا يسمح باستغلال الأطفال والاعتداء عليهم وهو بالتّالي يؤيّد ما جاء في الفصل 26 المدافع عنهم، وإنّ أحدا بالمقابل لا يرغب في التّضييق على النّاس والحدّ من حرّياتهم الشّخصيّة وترك أفعالهم بيد المنقلب يؤوّلها كيف يشاء ويجرّم منها - حسب أهوائه - ما يجرّم متى يشاء، وهو بالتّالي لا يمكن أن يوافق على ما جاء في الفصل 24 من ذات المنشور المتحدّث عن الأخبار الزّائفة كما ورد في نصّه: "يعاقب بالسّجن مدّة خمسة أعوام وبخطيّة قدرها خمسون ألف دينار كلّ من يتعمّد استعمال شبكات وأنظمة معلومات واتّصال لإنتاج، أو ترويج، أو نشر، أو إرسال، أو إعداد أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو وثائق مصطنعة أو مزوّرة أو منسوبة كذبا للغير بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العامّ أو الدّفاع الوطنيّ أو بثّ الرّعب بين السّكّان.
ويعاقب بنفس العقوبات المقرّرة بالفقرة الأولى كلّ من يتعمد استعمال أنظمة معلومات لنشر، أو إشاعة أخبار، أو وثائق مصطنعة، أو مزوّرة أو بيانات تتضمّن معطيات شخصيّة أو نسبة أمور غير حقيقيّة بهدف التّشهير بالغير أو تشويه سمعته أو الإضرار به مادّيّا أو معنويّا أو التّحريض على الاعتداء عليه أو الحثّ على خطاب الكراهية". ومن قرأ ودقّق لاحظ أنّ النّصّ موجّه لرعيّة المنقلب وليس لغيرهم، فهو خاصّ بهم؛ إذ لو عُمّم فشَمَله، لكان هو أحقّ التّونسيّين بالعقوبة، فإنّه قد اقترف بغلظة كلّ الجرائم المنصوص عليها في الفصل.
تأثّرت دائرته الوصوليّة المنقادة به، فزعمت لاحقا أنّ تراجع عدد النّاخبين يوم 17 ديسمبر 2022، فيما يسمّونها الانتخابات التّشريعيّة التي تحدّث النّاس عن المشاركة فيها أنّها لم تتعدّ اثنين بالمائة وتكلّم العسكري رئيس هيأة الانتخابات المنصّبة من المنقلب عن 8.8 %، طوّرها فيما بعد إلى 11 %، إنّما كان بسبب دورة كأس العالم الدّائرة حينئذ في قطر، فقد صادف السّبت مقابلة التّرتيب بين فريق المغرب ممثّل العرب والأفارقة والمسلمين وبين فريق كرواتيا.
كانت المقابلة على السّاعة الرّابعة مساء، غير أنّ التّونسيّين لم يستغلّوا العشر ساعات التي سبقت تلك السّاعة للقيام بذاك الحقّ أو الواجب "الدّستوريّ" الذي كان في السّابق زمن حمل صفته يُلقَّب بـ"الحقّ المقدّس"!.. فقد كان يمكنهم الانتخاب منذ السّاعة السّادسة صباحا، غير أنّهم تفرّغوا إلى حجز أماكنهم في المقاهي والسّاحات المخصّصة للفرجة، في تعبير واضح عمّا يشغلهم؛ ذلك أنّ مقابلة كرة قدمٍ زائلة هي عندهم أهمّ من قادم حياة لا يشرّف بلادهم، قد خطّط إليه المنقلب دون اعتبار لوجودهم!
أصبح الأحرار يُساقون إلى المحاكم دون ملفّات تضبط جرائمهم، ثمّ يُلقَون في السّجون دون حجّة تجرّمهم، والمنقلب يردّد دون حياء: "قضيّة الحقوق والحرّيات محسومة، ولكن قضيّة العدل الاجتماعيّ هي التي تقتضي العناية في المقام الأوّل، مضيفا ما لا يمكن للنّاس فهمه: "آن الأوان لوضع سياسات وتشريعات في ظلّ مقاربة وطنيّة شاملة لا مقاربة قطاعيّة معزولة أثبتت التّجربة فشلها".
يستعين على التّعمية على سلوكه الأعمى بجحافل من الصّاغرين الذين في قلوبهم مرض أو القاسية قلوبهم، حتّى ليشغل بعضُ سقطِهم النّاسَ بالحديث عن حفرٍ وأنفاقٍ لم يفلح حتّى أصحاب الخيال الهوليودي في تضمينها بمسلسلاتهم. حفرٌ أعمتهم عن حُفَرٍ في مقبرة الغُرباء مجاهيل النّسب هناك في جرجيس المناضلة المستهدَفَة، حيث غُوّر أبناء النّسب المعروف من طرف الدّافنين أعوان قيس لإتلاف ملفّات غرقهم في البحر، لولا هبّة الأهالي المفجوعين في فلذات أكبادهم وإجبار سلطات الانقلاب المحلّية على استخراجهم والتّعرّف عليهم وإعادة دفنهم بعد الصّلاة عليهم مكرّمين في حُرمة مقابرهم.
حين أتوقّف مع ما يجري في البلاد تبئسني كثيرا قدرةُ التّونسيّين على التّوصيف وعلى السّخرية من أنفسهم... توصيف اتّفقوا فيه على أنّ النّاس يعيشون في وادٍ ويعيش الرّئيس في وادٍ آخر، لا يسمعهم ولا يكترث لقرارات محاكمهم ولا حتّى لقرارات محاكم قارّتهم، ولا يغتمّ بما يعايشون ولا يهتمّ بما ينتظرهم وبلادهم. وقد كان يسعهم بذل الجهد على توحيد الوادَين وإجبار المنقلب على النّزول بوادهم حتّى يرى بأعينهم وينظر برأيهم فيتذلّل عليهم ويعزّ على أعدائهم ممّن يستفرغون الجهد في محاولة إذلاله وإذلالهم، أو ردمِه في واده إن هو أبى الإيواء إلى وادهم، لا سيّما وقد استمرّ يردّد كلمة صَدَق فيها وهو كذوب، مفادها أنّه لا بدّ من "اتّخاذ إجراءات قانونيّة وضروريّة لإنقاذ تونس من انهيار شامل". فإنقاذ تونس يقضي بتوحيد أودية النّزول ومنع الخلاف المؤدّي إلى الشّقاق والانشقاق وذهاب الرّيح وتقويم المعوجّ فيها.
أحسب أنّ النّصّ شهادةٌ تاريخيّة تابعتْ الأحداث ووثّقتها بالمشاهدة والمعايشة والنّصوص. وكنت أتمنّى أن تكون نهايتُه سارّة خادمة لمصلحة البلاد والعباد مشرّفة لتاريخ شعبنا تعلن إسقاط الانقلاب وإجلاء الغمّة وعودة الحياة إلى مسارها الطّبيعيّ بعد أن عرّفتنا المحنة على رجال كرام لا سيّما من العنصر النِّسْويّ أمثال سميرة الشّوّاشي وشيماء عيسى وإسلام حمزة وفائزة بوهلال وإيناس حرّاث وغيرهنّ كثير، غير أنّي أضطرّ اليوم نهاية شهر ديسمبر 2022 وبعد طول انتظار، إلى التّوقّف عن الكتابة فيما لا يُرضي، وقد تميّزت كلّ فقرات النّصّ بما لا يُرضي، حتّى رأيتني لا أقوى على الكتابة فيما تعلّق بالاستهداف الأحمق للمنظّمات الخيريّة التي عملت على التّنميّة في البلاد وعلى المحافظة على هويّتها بما تنفق على المحتاجين وبما تنتج في الحقل وبما تشيّد في البنيان وبما تعمل على استرجاع الهُويّة وإحياء الدّين الذي عمل المجرمون على قتله، فلم أتعرّض لما تعرّضت إليه (رحمةُ الخيريّة) ورجالُها أو ما تعرّض له (مركزُ أولاد زيد) ورجالُه أو غيرهما من الجمعيّات الطّيّبات الرّساليّات الملتزمات بالقانون التّونسيّ الذي نشطت بمقتضاه، ولم أتعرّض للحادث الغبيّ الجبان الذي تمثّل في الاعتداء على المقرئ الكويتي الخلوق الشّيخ محمود الرّفاعي ووضعه بلؤم رهن الإيقاف بتهمة الإرهاب والحال أنّه مشهور لدى السّلطات ولا يدخل البلاد إلّا من أجل خيرٍ ضبطه تخصُّصه المتعلّق بالقرآن الكريم. لقد أعمى سلطات الانقلاب كرهُهم للدّين حتّى فقدوا العناية بعلاقةٍ كويتيّة كثيرا ما أنجدت البلاد عند حاجتها وكثيرا ما أخرجتها بعد الله تعالى من ضائقتها... كما أنّي لم أذكر كثيرا من المظالم التي تعرّض لها الأبرياء لا سيّما من الإسلاميّين أو المهمّشين في طول البلاد وعرضها، كما أنّي لم أتوقّف مع المنقلب وهو يلبس لباس الفاسق الكاذب الذي يرمي المحصنات دون شهود أو بيّنة عندما اتّهم القاضية الحصان الرّصان بالزّنا، ولا توقّفت مع الفاجعة الكبرى التي استهدفت حصني الأسبق الجيش التّونسيّ حيث انقلب بتعليمات خفيّة تصغّره من حامي حمى الوطن إلى مجرّد عصا يستعملها المنقلب لمطاردة أحرار تونس بمحاكمه العسكريّة التي تنكّبت الحقّ، مصيبة على بلده قد نزع التّونسيّون أو كادوا ثقتَهم منه...
أنهي النّصّ سائلا الله ﷻ أن يبرم للبلاد أمر رشد يُعزّ فيه أهل طاعته وتُرجى فيه التّوبة والأوبة لأهل معصيته ويُؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر، وأن يجعل تخطيطَ أعداء البلاد في نحورهم وتدبيرهم تدميرهم، وأن نحتفل قريبا جدّا بسقوط المنقلب بابتهاج يفوق ابتهاج يوم تنصيبه، وأن نتعلّم للمستقبل اختيار ذي النّسب بفقه يقدّم النّسب، فإنّ جعفر الطيّار رضي الله عنه لمّا خطب أمام ملك الحبشة قال فيما قال: (فبعث الله إلينا رسولا منّا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه) فمجّد النّسب وذكر الصّدق والأمانة والعفاف، وهي خصال كريمة وجب علينا الحرصُ عليها وتحكيمُها عند اختيار مَن يحكمنا، حتّى لا نتّكئ كلّيا على النّسب، فإنّ [مَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه] كما قال شريف النّسب ﷺ.
بيّنت الأيّام إذن أنّ ما قام به ساكن القصر انقلابٌ واضحُ المعالم مكتمل الأركان، فقد عَمَد إلى تجميد البرلمان الذي يقضي تطبيقُ الفصل 80 باعتباره في حالة انعقاد دائم، كي يراقب مجريات الحالة الاستثنائيّة ويعمل على تأمين عودة السّير العاديّ لدواليب الدّولة في أقرب الآجال، وأقال رئيس الحكومة الذي لا يجوز تقديم لائحة لوم ضدّ حكومته ناهيك عن إقالته العادية أو "تأديبه" وإصماته...
اعتداءٌ صارخ على الفصل 80 فسّره - بدعم الفاسدين الوصوليّين حمّالي الحطب - بكون الخطر الدّاهم إنّما يتمثّل في البرلمان نفسِه.
ثمّ تطاول التّافهون على البرلمان وأعضائه حتّى بات الحديث عن استئناف أعماله ضربًا من اللّغو، وحتّى انساق بعض أعضاء مجلس الشّعب المنحازين لـ"شعب الرّئيس" يسوّقون ذلك خدمة لما يهين هذا الشّعب الذي مال عن الحِكمة حتّى ثار على نوّابه يلعن نفسه بثورته عليهم.
عُلِم أنّ الجرائم المرتكبة في حقّ هذا الشّعب من قِبل هذا الطّرف أو ذاك لا يكتمل مضاؤها إلّا بعمل الصّحافة العميلة المجــــــــــرمة، وقد اجتهدت الصّحافة الوضيعة في التّلبيس على النّاس بتبشيع الحَسن وتلميع السّيّئ وإصمات الحكيم وإنطاق التّافه، مطلقة ألسنة ما بات يُعرف في البلاد بكَاتِب اليوميّات "كرونيكور" (Chroniqueur) المتميّزِ أغلبُهم بالسّفالة والبذاءة والعمالة، وذلك بحضرة أولئك الذين يستدعونهم ممّن نبغت مفرداتُهم في التّبشير بتأبيد وضعيّة الاستثناء وفي التّأصيل للتّزلّف إلى المنقلب المتغلّب. في حين حاصرت أصواتَ الأحرار الذين علموا أنّ الحياة لا تنزل أبدا ساحة الدّكتاتوريّة وأنّ الحريّة إذا غابت امتنع معها تطبيق شـــــــــرع الله ﷻ ناهيك عــــــن تطبيــــــــــــــق غيره مــــــن القوانين الخـــــــادمة للشّعب الرّعيّة.
كانت المعركة شديدةً قد تميّز طرفاها: فهؤلاء متشبّثون بالحريّة وبكلّ ثمار الثّورة ومدافعون بثبات عن الكرامة ومخلصون لدماء الشّهداء، وأولئك وصوليّون، وجدوا في انقلاب الرّئيس وفي نقض العهد الذي قطعه على نفسه بالقسم وخيانته للمؤتمن فرصة لضرب خصمٍ سياسيّ بعينه، والإساءة إلى توجّه سلوكيّ بعينه بدأ يستقطب الأنظار في البلاد.
حاولتُ "التّفكّر" فيما ذهب إليه الرّئيس لمّا رأى البرلمان خطرا داهما أو خطرا جاثما كما وصفه لاحقا، وقلت لعلّه تفطّن بيقظة ضمير متأخّرة إلى الدّور الخبيث الذي تقوم به عميلةُ الإمارات عبير موسي وأصدقاء الإمارات القدامى والجدد، فقرّر إيقافها والضّرب على يديها، خدمة للبلاد وصدّا لمطامع الطّامعين فيها، تأسّيا بالرّئيس الأسبق محمّد الباجي قائد السّبسي، فقد تناقل النّاس أخبارَ ثباتِه، رحمه الله تعالى، أمام المغريات الكبيرة التي كانت تستهدف باستمالته "إخوان تونس" كما يسمّونهم، غير أنّ ظنّي قد جانب الصّواب؛ إذ لم يكن الخطر الدّاهم الجاثم في نظر الرّئيس سوى رجال ائتلاف الكـرامة، الكرام الصّادقين كما أحسبهم، المخلصين لبلادهم، المنحازين بمروءة مفرِّدَة لشعبهم.
هاجم بيوتهم وروّع أهاليهم وهتك الأستار وتجاوز الحدود الوطنيّة والدّينيّة والإنسانيّة، واختطف منهم مَن اختطف، وأخضع بعضهم دون حقّ وخارج القانون للقضاء العسكريّ الذي لم يُشبِعْ ساديتَه ودفع آخرين منهم إلى الاختفاء والتّحصّن بأسباب الله ﷻ بعيدا عن دنيا رتع فيها سفهاؤه!
كتبت في خضمّ تلك الأحداث أنّ ما يقوم به ساكن القصر ضدّ أهلِنا شبابِ ائتلاف الكرامة إنّما هو رغم ألمه وعظيم جرمه تعميةٌ وصرفُ أنظارٍ عمّا يخطّط له من إجراءات يستطيبها كثيرٌ من أعداء تونس، تستهدف أساسا "إخوان تونس"، أولئك الذين رُذّل البرلمانُ من أجل القضاء عليهم وصُرفتْ فيهم الأموالُ الطّائلة من طرف أعداء البلاد أعداء الله تعالى والمسلمين لاستئصالهم واقتلاعهم، فكان اليوم الخاتم لسنة 2021 موعدَ اختطاف الأستاذ نورالدّين البحيري من أمام منزله لمّا كان ينوي وزوجتُه الأستاذة سعيدة العكرمي الالتحاق بمقرّ عملهما، مصدّقا على ما ذهبتُ إليه، وقد اختطفه مجهولون أنكارٌ إلى مكان مجهول منكَر، تبيّن فيما بعد أنّه في ولاية بنزرت في منطقة منزل جميل، هناك في مسكن أو مستودع مهجور يتولّى الإشرافَ عليه ممثّلُ رئيس الجمهوريّة، والي بنزرت الجديد الذي عُيِّن، تقديرا لكفاءته في "حفظ" الأمانــات الخـاصّة و"حسن" تعهّدها بما يثلج صدر الرّئيس الضّيّق ويُذهِبَ بعضَ غيظِه.
زلزل الخبرُ البلاد وأزاح كلّ غشاوة كانت تستر أو تلبّس على أجندات الرّئيس، فإنّه ومَن وراءه أو حوله لن يقفوا عند التّشفّي من أبناء ائتلاف الكرامة الذين حصدوا بجرأتهم على حاكم البلاد الحقيقيّ المتمثّل في المحتلّ القديم كثيرا من الكره وعدم القبول، بل سيتعدَّوْنَهم إلى "إخوان تونس" وإلى كلّ أحرار تونس والمتمثّلين بهم.
عاد الحديث بقوّة يُوصّف ما حدث وجرى ليلة 25 يوليو 2021، وبدأ المتحدّثون يستعملون ذات المفردات التي استعملها ذلك الشّيخ "الإخواني" رئيس البرلمان ونائبته الكريمة سميرة الشّوّاشي التي أبرزت الأحداث والأيّام قيمتها وصفاء معدنها ومرُوءَتَها، وفئةٌ قليلة وقفت معهما ليلة الحدَثِ نفسِها عن بعد، لعلّ من أبرزها أبناء الشّيخ الكريم الفاضل الطّاهر بن عاشور رحمه الله تعالى.
التحقت إذن فئة أخرى أكبر تَتابَعَ أفرادُها في الانضمام إلى الصفّ الحكيم المحبّ للبلاد خلال الأشهر الخمسة التي تلت، يصفون الحدث بالانقلاب والرّئيس بالمنقلِب... بدأ جلُّهم يتحدّثون بوضوح عن انقلاب على الدّستور ونصوصه وعلى الثّورة ومنجزاتها وعلى الشّعب وطموحاته وتطلّعاته... آزر الوضــــع الاجتمــاعـيّ الصّـراخَ المحذِّرَ مــن الرّكـون إلى المتغلّب، فسُمع للنّاس همهماتٌ غير متجاسرة تشكو ضائقة لم يشهدوا في البلاد عبر كامل تاريخِها مثلَها.
حفظنا بالمراقبة والتّتبّع أنّ للإقناع في تونس وسيلتين، العقل والبطن، وأنّ البطن كثيرا ما ينجح فيما يفشل فيه العقل... رأى عقلاؤنا ذلك نقيصة سالبة لا تليق بنا؛ إذ ما كان ينبغي إسكان العقل في البطن واحتكام النّاس للبطن دون العقل.
ثمّ كانت للانقلاب مفاجأةٌ عرّفت برئيس البلاد، مريضا مستفرِدا سَمِجا مستبدّا لا يُؤمِن بالحوار ولا يُنزل العقل منزلته، قد سار بالبلاد خلال الخمسة أشهر العجاف الأولى باتّجاه فقدان القيمة وإتلاف الثّقة وإلى إشفاق العالم من التّعامل معها أو إشفاق الطّيّبين على تونسيّين تولّى أمرهم حمارٌ يكاد يأكلهم ويأكل بلادهم بعد أن أكل باعترافه دستورها. بتنا في العالم مضغة الألسن ومصدر النّكتة السّاخرة المستهزئة ومضرب أمثال الانحطاط بجميع أنواعه وأصنافه، حتّى أجلسته رئيسه البرلمان الأوروبيّ يوم 18 فيفري 2022 ببروكسيل أمامها ترينا قفاه، تُريحُنا من وجهٍ كالحٍ ورأسٍ صلبٍ خُلّبٍ بتنا ننتظر بشوق متى نرى قفاه... بالغ المتغلّب في الشّتائم والسّباب حتّى أنطق بعض أفراد الشّعب سِبابا، وكره الشّعبُ إطلالته واستثقله حتّى استخفّ به ونطق سلفا بما سوف يقول في إطلالته.
بات التّونسيّـــون كمــــــا قسّمهم: "شعبا"، ناصر الانقلاب وأيّده بأساليب دخيلة على العرف التّونسيّ، فوجد الحُظوة والعناية من الأدوات حُمـاةِ الطّغاة، ومن وسائل إعلام مائلة تُنزله بعد أن مزّق أفرادُه الدّستور وأحرقوه صَنْوًا للّذين قدّموا أرواحهم وضحّوا بأنْفَسِ ما لديهم دفاعا عن وحدة البلاد وتوقـــيرا لرمـوزها وللدّستور. و"فيروساتٍ وجراثيــمَ مخمـورين"، حرصوا على الشّرف والحريّة والكرامة وتمسّكوا بالشّرعيّة، فرجمهم "شعب" الرّئيس الدّعيّ يستنكر حرصهم!
عافت القِيمُ التّونسيّةُ الأصيلةُ المسلمةُ التّائقةُ إلى التّعايش بحبّ وإلى الحريّة والكرامة وإلى السّلم والرّقيّ الحضاريّ هذا "الشّعب" الوصوليّ الأرذل السّاقط المستهتر بالقِيم، وهي تراه يُسنَدُ من طرف أعداء البلاد، من العُرب مجهولي النّسب ومن الإفرنج المحتلّين السّابقين وبالحشد الهمجيّ المذكّر بلاطمي الخدود ممزّقي الجيوب كارهي محمّدٍ ﷺ وصحبه وأمّهاتِ المؤمنين الطّيّبات، واختارت برشد الـ"فيروسـاتِ والجراثيــمَ المخمـورين" تُبارِك وجـودهم وجهودهم وتتقوّى بهم على الاستمرار في المجتمع الذي لا يكون الفلاح فيه
إلّا بوجودهم.
كانت خرجات المواطنين "الجراثيم" ووقفاتُهم تُقابَل بالتّضييق المبالغ فيه من طرف الأمن الذي رضي لنفسه استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، فانقلب من الأمن الجمهوريّ المتدفِّئ بحضن الشّعب حيث نسبُه الشّريف إلى مجرّد أداة عمياء ظالمة لقيطة يستعملها المنقلِب اللئيمُ بجهالة ضدّ الشّعب. عمِيَت بصائرُهم حتّى ارتفع الشّهداء الكرام من صفوف المواطنين "الجراثيم"، يُبارك تقتيلَهم ذلك "الشّعبُ".
ارتفع في عقارب يوم 8 نوفمبر 2021، الشّابّ عبدالرزّاق الأشهب شهيدا نحسبه، دفاعا عن حقّ مواطنيه في هواء نقيّ أرادوا تلويثه بالنّفايات المحليّة والمستوردة. وارتفع في تونس العاصمة يوم 19 جانفي 2022، رضا بوزيّان شهيدا نحسبه، نتيجة نزيف دماغيّ تسبّب فيه سحلُه من طرف إطارات الدّاخليّة "الكبار"، يوم 14 جانفي 2022، بمناسبة مشاركته في التّظاهرة التي خرجت رغم المنع احتفالا بتاريخ هروب المخلوع تحت ضغط الجماهير المطالِبة بالحريّة والكـرامة ذات 14 جانفي من سنة 2011 م، ثمّ كانت وقفة يوم الأحد 15 ماي 2022 بشارع الثّورة تُختم بحادث مرور مروّع بجهة تاجرة من ولاية مدنين، ارتفع بسببه الشّهيدان الكريمان نحسبهما، محسن النّصري وحِبُّه الهادي العاشوري، ابنا مدينة (بني خداش) الجالسة هناك على التّلّ في المخانق تقاوم بأخلاق أهلها ورِفعة قِيمهم وسموقِ قاماتِهم وتكوينهم القرآنيّ الرّساليّ كلّ الطّفيليّات المحليّة والوافدة، تجعل إحدى عينيها على الصّحراء وتجعل عينها الأخرى على السّواحل، تخشى على البلاد تسرّب ما يؤذي أهلها، أو يسيء إلى العلاقات الطّيّبة بينهم فيخدش المروءة فيها... ثمّ شاء الله ﷻ أن يلحق بهما يوم الجمعة 3 جوان 2022، أخوهما الهادي البارودي رحمه الله وتقبّله من الصّالحين، وذلك بعد إقامة في المستشفى استمرّت أكثر من أسبوعين، لِيَثقُل بذلك الحملُ على المنقلب، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
طُبع على القلوب فغُلّفت وخُتم على الأبصار فَعَمِيَتْ،فبات القتل ديدن الآلة وبات انعدامُه يزعج ساكنَ القصر. طال القتل مختلف جهات البلاد واستأسد "الأمن" يُشيع الفوضى حيثما نزل، متمترسا بقانون الغاب الذي أرساه طموح المنقلب وخروجُه عن دستور البلاد وقوانينها.
لم تنحصر مصيبة فريد السّيّاري وعائلته في ظلمه لنفسه بتعاطي المخدّرات أو ترويجها استجابة لرغبة الأشرار الذين أشاعوها في البلاد، بل أبلغته أيادي "أمن" مركز شرطة تينجة شمال مدينة منزل بورقيبة، الذين عذّبوه تعذيبا وحشيّا حتّى فارق الحياة، نهاية الأسبوع (27/28) أوت / أغسطس 2022، وأمّا الشّابّ الطّموح محسن الزّيّاني، أصيل مدينة سبيبة من ولاية القصرين، فقد اختار العمل للاسترزاق بدل "الحرق" ورمي نفسه في البحر ضمن جحافل الشّباب "الحارقين" إلى إيطاليا، أين تنشط تجارة الرّقيق، فقد وثّق الشّباب المُعاد إلى البلاد بيعهم إلى قيس سعيّد مقابل 3000 يورو للرّأس الواحد.
كان محسن تاجرا متجوّلا قد ارتبط بأناس من نفس طبقته الاجتماعيّة المعروفين في تونس بـ"الحمّاصة"، أصحاب العربات المتجوّلة أو الأكشاك الصّغيرة التي تبيع حبوب الحمّص المقليّ وبذور زهرة الشّمس وغيرها ممّا تعوّد التّونسيّون يوميّا على اقتنائه، وكان قد بلغ وسط العاصمة تونس، منطقة "الباساج" يوم 7 سبتمبر 2022، لمّا تفطّن له حرس الجمارك النّشطين واستعملوا معه الرّصاص الحيّ لقتله، حذر ترويج "مهرَّب" كانوا قد فَشِلُوا من قبل في ضبطه عبر المواني البحريّة والحدوديّة والجوّيّة الواقعة تحت إشرافهم ومجاهرهم.
لقد قُتل محسن بواسطة أربع إطلاقات، دفاعا عن النّفس كما أوهموا، ودفاعا عن اقتصاد البلاد المهدَّد من قبل التّهريب، وأخذا بتعليمات المنقلب الدّموي الذي هدّد في خطاباته المتكرّرة وبشّر باستعمال وابل الرّصاص الحيّ لتأديب الذين يهدّدون "شعبه" وأمنه، ممّن أفلتوا من صواريخه الجاهزة دوما على منصّات إطلاقها. وأمّا الطّالب مالك بن نورالدّين السّلايمي ذو الأربعة وعشرين ربيعا، فقد طورد يوم 7 سبتمبر 2022، من قبل "الأمن" الذين أخافوه فأفقدوه الثّقة فيهم، حتّى إذا حاصروه وهمّ بإلقاء نفسه في خندق بالمكان، عاجلوه بضربة مُبغِضة مبغِّضة، أفقدته التّوازن فسقط على ظهره ليصاب إصابة بليغة في النّخاع كلّفته سقوطا مستمرّا بقيمة 90 %، لم تمهله طويلا، حيث فارق الحياة رحمه الله تعالى، في مستشفى شارل نيكول، يوم الخميس 13 أكتوبر 2022.
ثمّ قرقرت البطون فحوّلت تلكم الهمهمات غير الجسورة إلى أصوات عالية واضحة ترفع الإصبعَ الجريءَ في وجه المتغلّب الذي أجرم وسَفَل، تُعلن بجسارة رفضَها ظلمَه وتعدّيَه على العباد واستمراءَه قتلهم واختطافهم وتغييبهم في الزّوايا المظلمة المجهولة، وتستنكر سوء إدارته وتحذّر من انهيار الدّولة وخراب العمران... ألفى النّاسُ أياديَهم فارغة أو هي غيرُ قادرة بدنانير تراجعت قيمتُها وتأخّرت مواعيدُ دفعِها على توفير موادّ تموينيّة كانت لكثرتها بالأمس عديمة الجاذبيّة فأحدثت اليوم بقلّتهـــــا أو انعدامهـــا كثيرًا من الجذب والتّجـاذب، فمالوا على أياديهم دون غيرها يعاتبـونها لِمَ صفّقت مستعجلةً للانقلاب.
شحّت الموادُّ وانعدم وجودُ بعضها وارتفع ثمنُها وامتدّت الصّفوف الباحثة عنها أمام مغازةٍ
أعلنتْ فيها وجودَها. طال انتظار النّاس فكثر صخبُهم وانتعشت مفرداتُ التّنافر فيهم فاشتدّ الصّراعُ بينهم وأظهروا داخلهم شوكة تنذر بانعدام الثّقة وبنموّ أنانيّة غريبة تُنسي أخوّتهم وتكاد تذهب بوحدة أصلهم.
كان يوم 30 مارس 2022 يوما مشهودا، أراد النّواب فيه تذكير الشّعب الذي اجتهد دعيُّ القصر في إنسائه أنّ إهانتَهم ومحاولةَ استنقاصِهم أو إبطالَ أعمالِهم إنّما هي إهانةٌ للشّعب واستنقاصٌ له وسخريّةٌ منه واتّهامٌ له بعدم القدرة على اختيار مَن ينوب عنه في هذه المؤسّسة الرّئيسة في البلاد ذات المرجعيّة القانونيّة الأصيلة، وأنّ استقلال البلاد إنّما يعني أوّل ما يعني حرّيةَ أهلِها وثباتَهم على مبادئهم وعدمَ التّلاعبِ بمصالهم واختياراتِهم أو خيانة أمانـتِهم ونقض عهــودهم أو الاعتداء على رمــــوزهم والإخلال بمسارهم وتجاهل قِيَمِهم. دأب "التّونسيّــون"، الذين باتوا يمثّلون امتدادَ أعـــــــداءِ البلاد في البلاد وحمـاةَ الظّلمة والدّكتاتوريّة، على وصف نُوّاب الشّعب الذين اختارهم الشّعب بـ"المجمّدين"، فلمّا تحرّكوا استغربوا حركتهم ورفضوا فعلهم واصطفّوا مع ساكن القصر المريض يندّدون بانقلابهم فيُعلن هو ملبّسًا على النّاس التّصدّيَ بحزم لهم، حفاظا على الدّولة ودفاعا عن وحدة التّونسيّين ومنعًا للاقتتال بينهم!..
بطلٌ لا يُشقّ له غبارٌ يرى نفسه الدّولة، ويستعمله "الشّعبُ" الدّعيّ المتعيّش من وجوده بابًا غيرَ محروسٍ يلجون منه إلى الدّولة، وزراءَ وولّاةً ومعتمدين، لا أخلاق لهم ولا مستويات علميّة ولا كفاءة حتّى ليفرّ بوجودهم معنى الدّولة.. تدابرت المصطلحات فحصّن المنقلبُ نفسه الطّموحَ الشّاردة بجمهوريّته الثّالثة...
حفظ المنقلب عن بعض التّونسيّين هُيَامَهم ببورقيبة الزّعيم بطل الجلاء ومحرّر المرأة، وحفظ عن بعضهم الآخر حديثهم عن (بن علي) وأنّه ظلّ رغم "صناعة التّغيير" عديمَ الصّلة بالزّعامةِ خادمةِ "مشروعيّة" الرّئاسة المطوّلة مستعمِلة المطارق مؤدّبة جماجم الشّعب، فاختار لنفسه "جمهوريّة ثالثة" ظنّ أنّها تُلبسه الزّعامة فتُكسبه "المشروعيّة" وينسّي بها الشّرعيّة التي أرستها الثّورة بالمؤسّسات والنّصوص!
فَقَدَ المنقلب صوابه واستمرأ القصر والكرسي ورغب في الألوهيّة حتّى رآه عياض بن عاشور، أحد أبرز مقاومي الانقلاب، نسخة رديئة فاسدة لقيس الذي كان قد عرفه، حتّى أعلن أنّه بات لا يعرفه!. فسبحان القائل ﷻ: {وَمَنْ يَّهْدِ اِ۬للَّهُ فَهْوَ اَ۬لْمُهْتَدِۦۖ وَمَنْ يُّضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِۦۖ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ اَ۬لْقِيَٰمَةِ عَلىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياٗ وَبُكْماٗ وَصُمّاٗۖ مَّأْوَيٰهُمْ جَهَنَّمُۖ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَٰهُمْ سَعِيراٗۖ} (الإسراء: 97)...
نطق النّوابّ الكرام بما تفرضه مروءتُهم فأصدروا مشروع القانون رقم 1 / 2022، القاضي ببطلان كلّ ما اتَّخَذَ المنقلبُ المتغلّبُ بغباء التّونسيّين من قرارات غبيّة تُذِلّ الشّعب وتخرّب الاقتصاد وتبشّع البلاد وتُفقد النّاس الثّقة فيها وفي أهلها... ثارت ثائرة المنقلب فوصف عملهم القانونيّ الذي لم يخرج عن الفصل (80) الذي اعتمد هو نفسه عليه، بالانقلاب! بدا بغضبته دنيئا أنانيّا ساديّا يُجبِر أعداء بورقيبة و(بن علي) الألدّاء على التّرحّم عليهما، فإنّهما ما سفلا سفالته ولا تردَّيا في الإثم في حقّ البلاد تَرَدِّيَهُ... سفل حتّى رأى انقلابه وحالة الاستثناء مرجعا ورأى الدّعوة إلى مقاومة الانقلاب والرّجوع إلى الحالة الدّستوريّة الطّبيعيّة انقلابا! تردّى وقلّ أو انعدم حياؤُه حتّى أعلن حلّ البرلمان الذي نصّبه رئيسا للبلاد، فاندفع أعوانُه الأذلّاء مسنَدين بالإعلام الهابط عدوِّ البلاد، يشيعون الرّعب في صفّ أهالي النّوّاب، بما أرسلوا من استدعاءاتٍ تنبئُ ربّما بانطلاق الأبحاث في شأنهم. برز المعلّم ﷺ يذكّر الصّادقين ليسندَهم ويقوّي صفّهم: [سيأتي على النّاس سنوات خدّاعات يُصدَّقُ فيها الكاذبُ، ويُكذَّبُ فيها الصّادقُ، ويُؤتَمَنُ فيها الخائنُ، ويُخَوَّنُ فيها الأمينُ، وينطق فيها الرُّوَيبضةُ، قيل: وما الرُّويبضةُ؟ قال: الرَّجُلُ التّافهُ في أمر العامّة] أو قال: [السّفيهُ يتكلّم في أمر العامّةِ]. ثمّ كان يوم الجمعة 01 أفريل 2022 موعد اصطفاف الرّجال الصّادقين من الذّكور والإناث أمام بناية الوحدة المركزيّة لمكافحة الإرهاب بثكنة بوشوشة يسندون نوّابهم الثّلاثين يتقدّمهم رئيسُهم وقد اتُّهِموا بالإرهاب وبالمساس بالدّولة وبقوتِ التّونسيّين، كما أَفَكَ الرّئيس مفكّك مؤسّسات الدّولة المتحيّل على التّونسيّين بكثرة الحديث عنهم وعن أقواتهم! رآهم خطرا داهما فجمّدهم ورآهم خطرا جاثمًا فأغرى بهم مُتجبِّنًا سفهاءَه، ثمّ ما لبث أن تبيّن له أنّهم إرهابيّون يهدّدون دولته بالانقراض و"شعبه" بالخنوس، فحلّ مجلِسهم، وهو يأمل كما نطق: "أن يكون القضاء معنا في هذا المفصل التّاريخي الحسّاس"، مضيفا أنّ هؤلاء لا يعيشون إلّا إذا كانت الدّماء غزيرة رقراقة في البلاد، مستهزئا ببعضهم الذين اعتبروا أنّ حلّ البرلمان يقضي بانتخابات تشريعيّة ورئاسيّة خلال ثلاثة أشهر بقولٍ لن تجد أوضح منه تعبيرا عن الدّكتاتوريّة: "مِن أين جاؤوا بهذه الفتوى؟ نحن نتكلّم عن دولة وهم يتكلّمون عن الانتخابات"!.
احتفل المصطلح بمعناه، فكان (الإرهاب) الرّساليّ كما قدّمه القرآن الكريم يُرهب الظّالم المغتصب ويرجّه رجّا حتّى سرّح وزيرةَ عدله فسَرحَتْ تهرِف، تتّهم نوّاب الشّعب بل تتّهم الشّعب الذي انتخبهم بجريمة "تكوين وفاق بقصد التّآمر على أمن الدّولة الدّاخليّ"، وذلك بُعيد الجلسة البرلمانيّة المذكورة أعلاه التي جرت عن بعد.
عامَل رجالُ تونسَ نوّابهم "العابثين" بما يليق بهم؛ إذ سرّحوهم بعدما استمعوا إليهم، أعزّاء يرفعون أعلام بلادهم ويردّدون نشيد ثورتهم مؤمنين بربّهم وبعدالة قضيّتهم واستقامة توجّههم حتّى انطلق مستقبلوهم في شارع الجوار يعلنون: (الشّعب يريد ما لا تريد) ويطوّرون شعارَهُم القديم القائل (يسقط يسقط الانقلاب) إلى جديد أكثر وضوحا (يسقط يسقط قيس سعيّد)! وانطلق عميد المحامين الرّجل الفذّ الصّادق نحسبه عبدالرّزّاق الكيلاني يصف ما جرى فضيحة لتونس الثّورة وعارا على أهلها جميعًا، مشدّدا على التّمسّك بالقانون وبدولة المؤسّسات رغم انصراف قيس سعيّد وأعوانه عن الدّستور ومدنيّة الدّولة.
كان العميد عزيزا أبيّا، وكان ذلك يسيء كثيرا لقيس الذّليل مقبّل أكتاف الرّئيس الفرنسيّ مكرون، الذي عمل بدنوّ قِيَمِه على إفقاد التّونسيّين عزّتَهم وأنفتَهم، حتّى وقف بعض "المبدعين" اللئام في المسارح وعلى الرّكوح، هنا وهناك، ملعونين بما يقدّمون، يُسمعون جماهيرهم السّائبة العطشى سِبابا مقذعا متبرّجا سمِجا مؤذنا بغضب الله ﷻ، علّهم يتمكّنون من إضحاكهم.
كان طبيعيّا إذن أن يُستدعى العميد بـ"جريرته" للمحاكمة في محاولة فاشلة مقطوعة مبتورة، لتسلّق قامته وإحناء رأسه!
يُعتبر يوم 8 ماي تاريخًا أسودَ، تُحييه الجامعة التّونسيّة كلّ سنة، تُذكّر طلّابها ومَن اعتنى بتونسَ وطلّابِها بالأحداث الدّمويّة الأليمة التي جرت فيه سنة 1991. كان نظام الاستبداد قد مارس وقتها أشدَّ ضروبِ القمعِ وأكثرَها مضاءً ضدّ الحركة الطّلابيّة ذات التّوجّه الإسلاميّ، وذلك باستعمال الرّصاص الحيّ، ما أدى يومها إلى مقتل طالبين من الاتّحاد العامّ التّونسيّ للطّلبة، الابنين عدنان سعيد وأحمد العمري وإصابة آخرين من شباب تونس الحالم، واعتقالهم.
ولمّا كانت الجريمةُ مسترسلةً وكان المجرمون بعضهم من بعض، فقد اختار أنصار قيس
سعيّد تاريخ تلكم الذّكرى للخروج، سنة 2022 إلى الشّارع، محروسين بأجهزة الدّولة، مطالبين بمحاسبة أناسٍ يُزعجهم وجودهم، لا يختلف سمتُهم عن سمت أولئك الذين قضى من بينهم الطّالبان الكريمان، فيحرّضون الدّاخليّة عليهم، ويذكّرونها بأسمائهم، مؤكّدين أنّهم لا يرتاحون ولا يهنؤون إلّا بإبادتهم وإفنائهم.
ثمّ كان يوم الأحد 15 ماي صادما للمنقلب؛ إذ أطّت الشّوارع بعشرات الآلاف من التّونسيّين ذوي السّلوك الحضاريّ، تنديدا بسلوك الكذب والخيانة وبعدم احترام التّونسيّين، ثمّ وقف الأستاذ أحمد نجيب الشّابّي أحد شيوخ معارضي الانقلاب يُعلن ميلاد جبهة (الخلاص الوطنيّ)، المكوّنَةِ مبدئيّا من كبرى الأحزاب في البلاد التّونسيّة، ومن مجموعاتٍ رشدت من المجتمع المدني ومن شخصيّات مستقلّة وازنة، لتكون رافدا أو هي امتدادٌ لعمل (مواطنون ضدّ الانقلاب) الذين أبدعوا وأبلوا في عملهم الباني بإذن الله تعالى، مُذ انطلقوا فيه بداية سبتمبر 2021.
كان أوّل عمل قام به المنقلب بُعيد 25 يوليو 2021 هو إبطال مهمّة الوزير المكلّف بإمضاء العدالة الانتقاليّة، النّقيب الأسبق عبدالرّزّاق الكيلاني، وقد فعل ذلك استجابة منه لأعداء العدالة المجرمين وتفاعلا معهم وتأليفا لقلوبهم. فقد كانوا لا يريدون معالجة ما ورِثَته البلادُ من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان كانوا هم أبطالها؛ إذ قد تجرّ تطبيقاتُها وتدابيرُها إلى الملاحقاتِ القضائيةِ والمثولِ أمام قضاة الحقّ للتّخفيف عنهم لو فقهوا من حرج الوقوف أمام الحقّ ﷻ. استعملوا كعادتهم وسائلَهم الخبيثة الملبّسة على النّاس، فانطلق أولئك "المتخصّصون" و"المحلّلون" المقيمون في دور الصّحافة المجرمة ينذرون بفقرٍ مدقعٍ يتهدّد البلاد قد يذهب بأرصدة خزائنها؛ إذ "الأعداء" قد اصطفّوا ينهبونها باسم التّعويض. بالغوا حتّى رأى "النّاسُ" بعيونِ آذانِهم كلّ مركبة تجري على الطّريق أو تمخر البحر العميق نتاجَ "تعويضٍ" غنمه بالنّهب أولئك "الأنانيّون" المترَفون العائدون من وراء البحار، أعداءُ البلاد و"الشّعب".
ثمّ ثنّى بعد العدالة الانتقاليّة بالهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد، فأبطل دورها، ليس بسبب تقصيرها في مهامّها أو عدم صرامتها في مواجهة الفاسدين وعدم الإسراع بكشفهم ووقف عربدتهم، ولكن خوفا من نزاهةٍ محتملة قد تتحلّى بها الهيئة أو إتقان مراقبة قد تتوصّل بها كما يرغب التّونسيّون إلى حصر قوائم الفاسدين الحقيقيّين، فإنّه بهم يتغطّى وبهم يسود، حتّى إذا أبلغه لؤمُه المنازلَ المنخفضةَ جدّا فحنث في القسم وخان العهد وتنكّر للّذين نصّبوه والذين حاذَوا به حتّى ثبّتوه، عادى رئيس الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات حتّى رآها بعمى بصيرته غير مستقلّة فأبطلها وحلّها ليعوّضها بأخرى اختار أعضاءها بنفسه فنصّبهم أذلّاء يشهدون على أوّل تدليس صارخ في استفتاء 25 جويلية 2022، يعطّل به نزاهة وشفافيّة تميّزت بها كلّ انتخاباتِنا الرّئاسيّة والتّشريعيّة والمحلّيّة خلال العشريّة المنصرمة، وشهد بهما العالم لتونس الثّورة رائدة الرّبيع العربيّ الذي أصاب حكّام العرب الظلمة عشّاق الخريف والشّتاء بحساسيّة إزهار الرّبيع.
يردّد النّاس الحديث القائل: (البرّ لا يبلى، والذّنب لا يُنسى، والدّيّان لا يموت، ابن آدم اصنع ما شئت فكما تدين تدان) . لم يكتف المنقلب بترديد الحديث على إرساله وضعفه، بل مضى في الأخذ به والعمل على "استثماره" وتنزيله... لم ينس للقضاة الشّرفاء "ذنبهم" المتمثّل في عدم انصياعهم لطلباته القاضية بتجريم النّوّاب بسبب فعلتهم يوم 30 مارس 2022، فألقى بهم بالمنشور خارج حصنهم "قضاةً فاسدين" خطرا كما أفَك على القضاء واستقلاليته. تحوّط فلم يبادر بالسّطو على القضاة إلّا بعد أن حلّ أهمّ هيئة دستوريّة تمثّلت في المجلس الأعلى للقضاء؛ إذ أنّها الضّامنة في نطاق صلاحياتها حسن سير القضاء واستقلاليّة السّلطة القضائيّة طِبْق أحكام الدّستور التّونسيّ 2014 وهي المحترمة لكلّ المعاهدات الدّوليّة المصادَق عليها. حلّها وأبدلها بمقتضى مرسوم بمجلس انقلابيّ سمّاه "المجلس الأعلى المؤقّت للقضاء"، نصّ به مدلِّسا على استقلاليّته الوظيفيّة والإداريّة والماليّة.
جعل القضاء وظيفة لدى السّلطة التّنفيذيّة بعدما كان سلطة تراقب استقامة السّلطات وتقضي بينها لتقويم المعوجّ وترشيد المنحرف.
كلمة خلّدها التّاريخ للدّكتور محمّد العفّاس بارك الله فيه وفي محيطه: "يبقى الرّجال رجالا ويبقى الطّبّوبي طبّوبي"!.. صدق الدّكتور محمّد وربّ الكعبة، وانسحبت مقولته على كثير ممّن كان "بعض النّاس" يحسبونهم رجالا، فبقي الرّجال رجالا كما قال وبقي الطبّوبي طبّوبي وبودربالة بودربالة والزّكراوي زكراوي وبلعيد بلعيد وأمين أمين، وبقي قيسٌ قيسا. فهؤلاء المذكورون من غير قيس وغيرهم من النّفعيّين والمتسلّقين والطّفيليّين والعاهات التي أوجدها التّونسيّون هم أكثر مَن أجرم في حقّ التّونسيّين وفي حقّ البلاد عموما. ولقد كان المنقلب أمينا لمعدنه غدّارا قد جافى الحياء وعاف المروءة؛ إذ قذف بهم الواحد تلو الآخر بعيدا عن منزلِه بعد أن حصّن بأيديهم منزلَه!
لقِيَتْ مقولته (ليس للبلاد إلّا رئيسٌ واحدٌ) كثيرا من القبول لدى مرضى القلوب، فلاكوها وجرّموا بها حتّى أوقفوا الأستاذ راشد الغنّوشي وهو يومئذ رئيسُ البرلمان متّهما في البرلمان تجب محاسبتُه ويجب إبعادُه عن مواطن يسيء إليها بوجودِه فيها!
كانت رئاستُه للبرلمان وقبلها رئاستُه لحركة النّهضة التّونسيّة وقبلهما تجربتُه وعلاقاتُه الشّخصيّةُ تجرّئه على الخوض مع النّاس الفاعلين في بعض أنحيَةِ العالم فيما ينفع البلاد ويؤسّس لوجودها الفاعل في محيطها ويمهّد للاستفادة من العلاقات الأخويّة البنّاءة المهتمّة بثورة تونس وبتَوْقِ أهلها إلى الحريّة والكرامة ويعكس اهتمامها بشؤون الجيران والمسلمين حيثما كانوا، حتّى تناقل بعض النّاس أنّ موافقة قطر على منح تونس ملعبها (974) المعروف بملعب الحاويات المكوّنة له، كانت منذ تاريخ مبكّر وربّما كانت بسعي من الرّجل وباستثمار علاقة الإسلاميّين بقطر، فلمّا انقلب قيس على السّلطة وخان وغدر تراجعت قطر ففكّرت في منح الملعب للمغرب الشّقيق، فهو الأولى به لا سيّما بعد المسيرة النّاجحة التي أدّاها لاعبوه الرّجال، والمغاربة أكثر ثباتا على العهد وأكثر عملا من أجل مصلحة بلادهم بعيدا عن الانقلابات والملفّات المافياويّة القذرة.
كان ذلك يُبئس المنقلب والذين لمّعوا له سرج فرسه العاثر! عاب المنقلبَ انفتاحُ غيره فلم يسع إلى مداواة انغلاقه وعابه أن يوضع لغيره القبول لدى النّاس فلم يسع إلى البحث في أسباب القبول والأخذ بها، بل لعب على وجودِ الآخر يبطله ويقصيه ويمنعه ويكمّم فمه ويضرب على يديه ويجرّه أمام المحاكم التي أرادها إدارة وظيفيّة يظنّ استجابتها العمياء لإرادته.
امتثل الأستاذ راشد الغنّوشي للقضاء وانتصب أمام كرسيّ القطب القضائيّ، إحدى عشرة ساعة، شيخا ثمانينيّا، يُحسن الصّمود في مخانق المقاومة، بحضور محامينَ أكفاءَ مقتدرين، يدفعون عنه تُهَم تبيض الأموال وحيازة ملياراتِها والمساهمة في الأعمال الإرهابيّة! اقتنع القضاء بخلوّ الملفّ من الحجج وبجرأة مُعِدِّه الأثيم على حرمات النّاس وعلى الجمعيّات الخيريّة التي منها "نما" الخيريّة، قرينة الشّيخ في التّهمة، وهي التي ساهمت بشهادة التّونسيّين في مساعدة كثير منهم وانتشالهم من الأوضاع المأساويّة التي لم تكترث لها مؤسّسات الدّولة، فسرّحه ليلة يومه الطّويل الموافق الثّلاثاء 19 جويلية 2022، بطلا قد حسُن استقباله من طرف الكرام الذين رابطوا يومهم ذلك في حرّ الشّمس يريدون لتونس الحريّة والعزّة والتّحابب بين أهلها جميعا! كان رئيسا حقّا، يحسن البسط والكلام والصّبر على الأذى حتّى ليرى غيرَه ممّن يريد دون حقّ دستوريّ اغتصاب لقب الرّئاسة منه مجرّد فأر قد حوّل بفسقه (والفأر فويسقة) قصر قرطاج الرّمز إلى مجرّد جُحرٍ أَسِنَتْ سوائلُه ونَجُسَتْ محتوياته!
تكلّم الشّيخ ليلتها لوسائل الإعلام العالميّة عن أهمّ منجز من منجزات الثّورة الذي تمثّل في حرص القضاء على إمضاء الحقّ دون ميل أو خوف ممّن أشهر سيفه فوق رأسه يستهدف رقبته، كما أطنب في الإشادة بالمستوى العالي المرموق المحدّث بالمروءة للمحامين الذين كان أغلبُهم في تونس على مرّ الأزمنة الدّرعَ الواقي لحقوق الإنسان والصّوت الجريء الذي لا يتلعثم عند الصّدع بمفردات الحقّ والعدالة.
أراد قيس بتلك المحاكمة الذّهاب إلى يوم 25 يوليو 2022، رئيسا أوْحَدًا للبلاد لا شريك له، قد أذهب الفسادُ غيرَه من الرّؤساء، يستحثّ النّاس على الخنوع له، فلمّا خاب وفشل أغرى أذياله بالشّيخ مجدّدا، فقد ذكروا له استعمال مفردة من مفرداته القديمة التي أحصَوْها عليه، والتي تجرّعوا ولا يزالون حسب ما قالوا يتجرّعون مرارتها، دون أن تُلاحَظ عليهم استفادةٌ من تطعُّمِ مرارتها. فدَعَوْه إلى المثول يوم 3 أوت / أغسطس 2022، أمام إحدى الفرق الأمنيّة بثكنة الحرس الوطنيّ بالعوينة سيّء الذّكر زمن (بن علي)، لاستنطاقه من جديد على خلفيّة استعماله مصطلح "الطّاغوت"، ذاك الذي ليس عند المسلمين سوى معبود أو متبوع أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله، لا يكون إيمان المرء بالله ﷻ إلّا بالكفر به: {فَمَنْ يَّكْفُرْ بِالطَّٰغُوتِ وَيُؤْمِنۢ بِاللَّهِ فَقَدِ اِ۪سْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ اِ۬لْوُثْقَيٰ لَا اَ۪نفِصَامَ لَهَاۖ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌۖ اِ۬للَّهُ وَلِيُّ اُ۬لذِينَ ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ اَ۬لظُّلُمَٰتِ إِلَي اَ۬لنُّورِۖ وَالذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ اُ۬لطَّٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ اَ۬لنُّورِ إِلَي اَ۬لظُّلُمَٰتِۖ أُوْلَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ اُ۬لنَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَۖ} (البقرة: 255 – 256). مصطلح كان ورد على لسان الأستاذ الغنّوشي خلال تأبينه لفرحات العبار أحد قياديّي حركة النّهضة بجهة تطاوين جنوب البلاد التّونسيّة في شهر فيفري الماضي 2022، وهو يستعرض نضاله رحمه الله تعالى ضدّ دكتاتوريّة (بن علي) الأثيم، ما قبل الثّورة. أرادوا بالمصطلح دون فقهه إرهاب الشّرفاء الذين طالهم من قبلُ ظلمُ وأذى الطّاغوتِ واعتداءاتُه اللّاإنسانيّةُ ليشكّكوا في تزحزحهم عن مربّع الضّلال القديم المرابط لأجل صرف النّاس عن الخير. ثمّ كانت المحاكمة فرصة للشّيخ كي يرشّد المنقلب؛ إذ تحدّث بحكمة وصبر مدروس عن معاني الوسطيّة والاعتدال وعن الحريّة والدّيمقراطيّة التي إن أُرسِيَت بحقّ منعت النّاسَ من أن يُقاضُوا النّاسَ من أجل آرائهم ولم تمنع الألسنةَ النّطقَ بالمفردات التي تراها صالحة للتّعبير، طالما احترمت تلك المفردات السّامع العاقل وامتنعت عن الفحش واجتنبت الإسفاف والتّعدّي.
ثمّ كان يوم الأربعاء 10 أوت 2022 يوما استثنائيّا بامتياز، وصفه أنس الحمّادي رئيس جمعيّة القضاة التّونسيّين بالتّاريخيّ والإيجابيّ، فقد جاء بعد شهرين من نضال متواصل متنوّع خاضه الهيكل القضائيّ مُوحَّدا متّحِدا، نصرة لإخوانهم القضاة الفضلاء المستهدَفين بسبب عدم استجابتهم لإملاءات السّلطة التّنفيذيّة المتغوّلة الموغلة في السّير نحو الدّكتاتوريّة العضوض؛ فقد أعلن عماد الغابري المتحدّث باسم المحكمة الإداريّة أنّ المحكمة وبعد أن درست الملفّات السّبعة وخمسين بحسب خصوصيّتها حالة بحالة وتوقّفت معها طويلا مدقّقة في التّهم الجُزاف الملقاة على القضاة المعنيّين، انتهت إلى أنّ التّهم ملفّقة ومبنيّة على مجرّد إفادات أمنيّة فارغة وغير قانونيّة وأنّ قرارات الرّئيس سعيّد لا تتوافر فيها الشّروط القانونيّة والعمليّة للعزل بحقّ سبعة وأربعين قاضيا من مجموع السّبعة وخمسين الذين صدر بشأنهم قرارُه، وقرّرت بذلك وقف تنفيذ أمر الرّئيس قيس سعيّد عدد 516 الصّادر في 1 جوان 2022 والقاضي بالإعفاء، مشيرا إلى أنّ حكم المحكمة باتّ ونهائيّ ولا يقبل الطّعن.
ثمّ كان المجال واسعا "ثَرِيًّا" للخوض في تحديد مَن يتحمّل مسؤوليّة هذا التّجرّؤ على القضاء التّونسيّ وعلى الشّرفاء فيه، فتحدّث النّاس عن مسؤوليّة وزيرة العدل وطالبوها قبل إقالتها بالاستقالة، وتحدّث آخرون عن مسؤوليّة وزير الدّاخليّة، الحادي الأهمّ في سَوْق "نُوقِ" الرّئيس، في حين تحدّث آخرون كُثرٌ عن المسؤوليّة الكاملة للمنقلب الذي أفسد على البلاد كلّ إمكانيّاتها وأطغى على خضرتها احمرارها ولؤمَه على مروءة أهلها، ثمّ بقي تحديدُ المسؤوليّة النّهائيّ رهينَ السّياسة الموروثة عن الحِقبة البورقيبيّة، المتمثّلة في "تقديم كبش الفداء"، فهي سياسة قديمة متجدّدة لن ينفكّوا عنها إلّا إذا بلغ بهم الاعتقادُ أنّ فوق الجميع ربّا عظيما يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصّدور، قد أمر رسوله ﷺ بتبشير عباده برحمته وتحذيرهم من سوء العاقبة: {نَبِّۓْ عِبَادِيَ أَنِّيَ أَنَا اَ۬لْغَفُورُ اُ۬لرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِے هُوَ اَ۬لْعَذَابُ اُ۬لْأَلِيمُۖ} (الحجر: 49 -50).
كانت تلك تحليلات النّاس وانتظاراتهم، وكان للمنقلب - القادم كما صرّح هو نفسه من كوكب آخر - مسار آخر في كوكبه الآخر، بعيدا عن تونس لا يكترث لما يجري فيها، وبعيدا عن التّونسيّين لا تهمّه معاناتهم وما ينغّص حياتهم، ففي الوقت الذي كانت النّيرانُ المُنكرَةُ مجهولة المصدر والمبلَغِ تلتهم أجزاءً واسعةً من غابات الحدود المشتركة بين تونس والجزائر في مشهد يذكّر بساقية سيدي يوسف التي مُزجَت فيها الدّماء التّونسيّة الجزائريّة دفاعا عن الحياض ومقاومةً للاحتلال الغاشم، وفي الوقت الذي كانت عشرات الأرواح الطّيّبة تصعد إلى ربّها حريقة شهيدة في مشاهد تدمي القلوب المؤمنة وتعقد الألسنة الصّادقة، كان هو مساء الأربعاء 17 أوت 2022، في القصر الذي أدخله إليه دستور البلاد، يرفع مجلّده الأحمر الدّمويّ الكبير يعلنه "دستورا" يعوّض به دستور البلاد ويحاربه حتّى يحذف فصله الأوّل المتحدّث عن دين البلاد ولغتها وحتّى يغيّر شكل راية البلاد فيه، ويخاطب "شعبه العظيم" ويمجّده ويهنّئه ونفسَه بالانتصار على قوى الرّدّة، دون اهتمامٍ بالنّيران ودون خوفٍ منها: "نعيش اليوم معا يوما من أيّامنا التّاريخيّة الخالدة وهي كثيرة ليس أقلّها يوم 25 يوليو من السّنة الحالية، ومن السّنة الماضية"... ففيه انقلب سنة 2021 وفيه مرّر مشروعه سنة 2022، حتّى اعتبره "يوم التّطابق بين الشّرعيّة الدّستوريّة والمشروعيّة الشّعبيّة بل مع المشروعيّة الثّوريّة". بلغ سعيّد مستوى الفراعين فرأى نفسه لا يموت أبدا ومنح نفسه بالـ"دّستور" الجديد الخيانة ما "يرقّي" تأبيده وهيمنته دون أن ينسى الاستعانة بهامان الذي نوّب عنه الشّعب، فالمنقلب وقد طغى قد عبد - مثله مثل أغلب السّياسيّين - الشّعب، فإنّه لا يخطو خطوة قُدما إلّا باسمه، فالإرادة ليست إرادته وإنّما هي إرادة الشّعب، في مشهد يذكّر بالأبحاث في دهاليز الدّاخليّة، فقد كانت المحاضر تصاغ بمشيئة الباحث وتُمضى باسم المتّهم؛ إذ لا قيمة للوثيقة إلّا بالإمضاء، وإنّ الإمضاء ليزيد فاعليّة ويكتسب مصداقيّة عندما يكون بالإبهام، وهو ما يُفعل بهذا "الشّعب العظيم" الأمّي الذّليل المنصرف عن نفسه؛ فقد بات الفرعون وقد نسي الله ﷻ يقسم "باسم الشّعب" ويحقّق كلّ انحرافاته بالاتّكاء عليه!.. يقول سعيّد البئيس المبئِس: "إنّ الشّعب التّونسيّ يريد تطهير البلاد، وعلى القضاء أن يكون في الموعد لمحاسبة كلّ من خرّب البلاد واستولى على مقدّرات الشّعب المنهوبة في الدّاخل والخارج". يقول ذلك والنّاس لا يجدون زمن حكمه الفرديّ ما يأكلون ولا يستطيعون تخزين ما ينتجون خوفا من ميليشياته التي قضت على مخزون البلاد!.. مضيفا أنّه "سيتمّ وضع قانون انتخابيّ جديد".. مستشرفا أنّ "أثر القوانين الانتخابيّة على سير المؤسسات ليس أقلّ من أحكام الدّستور".. مشيرا إلى أنّه "سيتمّ في أقرب الآجال إرساء المحكمة الدّستوريّة لحماية الحقوق والحرّيات والمحافظة على علوية (علوّ) القانون"، وهو الذي كان قد امتنع تمهيدا لانقلابه عن الإمضاء على تشكيلتها المختارة والمتّفق عليها من طرف نوّاب الشّعب، فلو أمضى وقتها لما تمكّن من الانقلاب ولكان للبلاد حَكَمٌ يضرب على أيادي المتهوّرين أمثاله ويُلزمهم مواطن الحكمة.
لم يتفرّد القضاء التّونسيّ في الحكم على عدم وجاهة سلوك هذا المنقلب وعلى عدم قانونيّة قراراته فأوقف بالنّصّ تنفيذها، بل لقد صدر في شهر سبتمبر 2022، حكمٌ من المحكمة الإفريقيّة لحقوق الإنسان والشّعوب، ضدّ إجراءاته وطالبته بالعودة إلى الدّيمقراطية الدّستوريّة وإلغاء الأمر الرّئاسيّ رقم 117، الصّادر في 22 سبتمبر 2021، المتعلّق بالتّدابير الاستثنائيّة، وكذلك إبطال المرسوم الرئاسيّ 69 المتعلّق بإعفاء رئيس الحكومة ووزير الدّفاع ووزيرة العدل بالنّيابة، وإبطال الأمر 80 القاضي بتعليق اختصاصات مجلس نواب الشّعب ورفع الحصانة عن النّواب، وإبطال المرسوم 109 الممدِّد لإجراءات الأمر 80، مضيفة أنّ "التّدابير الاستثنائيّة المتّخَذَة من طرف الدّولة المدَّعى عليها من طرف المحامي التّونسيّ إبراهيم بلغيث لم تصدر وفقا للقوانين المعمول بها في الدّولة المدَّعى عليها ولم تكن متناسبة مع الغرض الذي اعتُمدت من أجله، مبيّنة أنّ "الدّولة المدّعى عليها (تونس المتمثّلة هنا في شخص سعيّد المنقلب) انتهكت حقّ الشّعب في المشاركة في إدارة شؤونه العامّة كما هو مكفول في المادة 13 من الميثاق الإفريقيّ لحقوق الإنسان"، ثمّ طالبت المحكمة في النّهاية تونس (المنقلب) بإعداد تقرير خلال أجل قدره ستّة أشهر ابتداء من تاريخ تبليغ الحكم حول الإجراءات المتّخذة لتنفيذه، ثمّ الاستمرار بعد ذلك بتقديم تقرير دوري كلّ 6 أشهر.
ظلّ قيس سعيّد لا يبصر، ولا يسمع، وظلّ يُكثر من الكلام المفضول، أو يتكلّف بلاهة تزيد من سخرية النّاس منّا، حتّى ليتساءل معنا لِمَ لا يكون في البلاد حليبٌ وسكّر وزيت وموادّ أساسيّة!.. لا يخوض كثيرا في ذلك، فقد أهمّه وجود مَن لم يسمّهم ممّن حاولوا بكلّ الطّرق إفشال الاستفتاء بعدما حاولوا إفشال الاستشارة الوطنيّة التي تعرضت حسب زعمه لأكثر من 120 ألف هجوم إلكترونيّ من الدّاخل والخارج. يرى أنّ الكثيرين لم يتمكّنوا من التّنقل يوم الاستفتاء إلى مراكز الاقتراع بسبب ما مورس عليهم من ضغوطات لم يسمّ مصدرها؛ إذ زعم أنّنا نعلمها. ظلّ الفضاء الافتراضيّ يُؤرّقه كثيرا، ورأى التّضييق عليه ضرورةً تمليها متطلّبات التّسلّط والتّغلّب قرينة الانقلاب، ولذلك سارع إلى إصدار المرسوم 54 في الثّالث عشر من سبتمبر 2022. والمرسوم ضربة من الضّربات العنيفة الموجّهة للحرّيات الشّخصيّة المتعلّقة أساسا بالإبحار في النّات وبالكتابة والنّشر. وقد اجتهد المنقلب الخبيث في التّدليس والتّلبيس على النّاس، فخلط بين ما هو نافع وبين ما هو ضارّ. فإنّ أحدا لا يسمح باستغلال الأطفال والاعتداء عليهم وهو بالتّالي يؤيّد ما جاء في الفصل 26 المدافع عنهم، وإنّ أحدا بالمقابل لا يرغب في التّضييق على النّاس والحدّ من حرّياتهم الشّخصيّة وترك أفعالهم بيد المنقلب يؤوّلها كيف يشاء ويجرّم منها - حسب أهوائه - ما يجرّم متى يشاء، وهو بالتّالي لا يمكن أن يوافق على ما جاء في الفصل 24 من ذات المنشور المتحدّث عن الأخبار الزّائفة كما ورد في نصّه: "يعاقب بالسّجن مدّة خمسة أعوام وبخطيّة قدرها خمسون ألف دينار كلّ من يتعمّد استعمال شبكات وأنظمة معلومات واتّصال لإنتاج، أو ترويج، أو نشر، أو إرسال، أو إعداد أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو وثائق مصطنعة أو مزوّرة أو منسوبة كذبا للغير بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العامّ أو الدّفاع الوطنيّ أو بثّ الرّعب بين السّكّان.
ويعاقب بنفس العقوبات المقرّرة بالفقرة الأولى كلّ من يتعمد استعمال أنظمة معلومات لنشر، أو إشاعة أخبار، أو وثائق مصطنعة، أو مزوّرة أو بيانات تتضمّن معطيات شخصيّة أو نسبة أمور غير حقيقيّة بهدف التّشهير بالغير أو تشويه سمعته أو الإضرار به مادّيّا أو معنويّا أو التّحريض على الاعتداء عليه أو الحثّ على خطاب الكراهية". ومن قرأ ودقّق لاحظ أنّ النّصّ موجّه لرعيّة المنقلب وليس لغيرهم، فهو خاصّ بهم؛ إذ لو عُمّم فشَمَله، لكان هو أحقّ التّونسيّين بالعقوبة، فإنّه قد اقترف بغلظة كلّ الجرائم المنصوص عليها في الفصل.
تأثّرت دائرته الوصوليّة المنقادة به، فزعمت لاحقا أنّ تراجع عدد النّاخبين يوم 17 ديسمبر 2022، فيما يسمّونها الانتخابات التّشريعيّة التي تحدّث النّاس عن المشاركة فيها أنّها لم تتعدّ اثنين بالمائة وتكلّم العسكري رئيس هيأة الانتخابات المنصّبة من المنقلب عن 8.8 %، طوّرها فيما بعد إلى 11 %، إنّما كان بسبب دورة كأس العالم الدّائرة حينئذ في قطر، فقد صادف السّبت مقابلة التّرتيب بين فريق المغرب ممثّل العرب والأفارقة والمسلمين وبين فريق كرواتيا.
كانت المقابلة على السّاعة الرّابعة مساء، غير أنّ التّونسيّين لم يستغلّوا العشر ساعات التي سبقت تلك السّاعة للقيام بذاك الحقّ أو الواجب "الدّستوريّ" الذي كان في السّابق زمن حمل صفته يُلقَّب بـ"الحقّ المقدّس"!.. فقد كان يمكنهم الانتخاب منذ السّاعة السّادسة صباحا، غير أنّهم تفرّغوا إلى حجز أماكنهم في المقاهي والسّاحات المخصّصة للفرجة، في تعبير واضح عمّا يشغلهم؛ ذلك أنّ مقابلة كرة قدمٍ زائلة هي عندهم أهمّ من قادم حياة لا يشرّف بلادهم، قد خطّط إليه المنقلب دون اعتبار لوجودهم!
أصبح الأحرار يُساقون إلى المحاكم دون ملفّات تضبط جرائمهم، ثمّ يُلقَون في السّجون دون حجّة تجرّمهم، والمنقلب يردّد دون حياء: "قضيّة الحقوق والحرّيات محسومة، ولكن قضيّة العدل الاجتماعيّ هي التي تقتضي العناية في المقام الأوّل، مضيفا ما لا يمكن للنّاس فهمه: "آن الأوان لوضع سياسات وتشريعات في ظلّ مقاربة وطنيّة شاملة لا مقاربة قطاعيّة معزولة أثبتت التّجربة فشلها".
يستعين على التّعمية على سلوكه الأعمى بجحافل من الصّاغرين الذين في قلوبهم مرض أو القاسية قلوبهم، حتّى ليشغل بعضُ سقطِهم النّاسَ بالحديث عن حفرٍ وأنفاقٍ لم يفلح حتّى أصحاب الخيال الهوليودي في تضمينها بمسلسلاتهم. حفرٌ أعمتهم عن حُفَرٍ في مقبرة الغُرباء مجاهيل النّسب هناك في جرجيس المناضلة المستهدَفَة، حيث غُوّر أبناء النّسب المعروف من طرف الدّافنين أعوان قيس لإتلاف ملفّات غرقهم في البحر، لولا هبّة الأهالي المفجوعين في فلذات أكبادهم وإجبار سلطات الانقلاب المحلّية على استخراجهم والتّعرّف عليهم وإعادة دفنهم بعد الصّلاة عليهم مكرّمين في حُرمة مقابرهم.
حين أتوقّف مع ما يجري في البلاد تبئسني كثيرا قدرةُ التّونسيّين على التّوصيف وعلى السّخرية من أنفسهم... توصيف اتّفقوا فيه على أنّ النّاس يعيشون في وادٍ ويعيش الرّئيس في وادٍ آخر، لا يسمعهم ولا يكترث لقرارات محاكمهم ولا حتّى لقرارات محاكم قارّتهم، ولا يغتمّ بما يعايشون ولا يهتمّ بما ينتظرهم وبلادهم. وقد كان يسعهم بذل الجهد على توحيد الوادَين وإجبار المنقلب على النّزول بوادهم حتّى يرى بأعينهم وينظر برأيهم فيتذلّل عليهم ويعزّ على أعدائهم ممّن يستفرغون الجهد في محاولة إذلاله وإذلالهم، أو ردمِه في واده إن هو أبى الإيواء إلى وادهم، لا سيّما وقد استمرّ يردّد كلمة صَدَق فيها وهو كذوب، مفادها أنّه لا بدّ من "اتّخاذ إجراءات قانونيّة وضروريّة لإنقاذ تونس من انهيار شامل". فإنقاذ تونس يقضي بتوحيد أودية النّزول ومنع الخلاف المؤدّي إلى الشّقاق والانشقاق وذهاب الرّيح وتقويم المعوجّ فيها.
أحسب أنّ النّصّ شهادةٌ تاريخيّة تابعتْ الأحداث ووثّقتها بالمشاهدة والمعايشة والنّصوص. وكنت أتمنّى أن تكون نهايتُه سارّة خادمة لمصلحة البلاد والعباد مشرّفة لتاريخ شعبنا تعلن إسقاط الانقلاب وإجلاء الغمّة وعودة الحياة إلى مسارها الطّبيعيّ بعد أن عرّفتنا المحنة على رجال كرام لا سيّما من العنصر النِّسْويّ أمثال سميرة الشّوّاشي وشيماء عيسى وإسلام حمزة وفائزة بوهلال وإيناس حرّاث وغيرهنّ كثير، غير أنّي أضطرّ اليوم نهاية شهر ديسمبر 2022 وبعد طول انتظار، إلى التّوقّف عن الكتابة فيما لا يُرضي، وقد تميّزت كلّ فقرات النّصّ بما لا يُرضي، حتّى رأيتني لا أقوى على الكتابة فيما تعلّق بالاستهداف الأحمق للمنظّمات الخيريّة التي عملت على التّنميّة في البلاد وعلى المحافظة على هويّتها بما تنفق على المحتاجين وبما تنتج في الحقل وبما تشيّد في البنيان وبما تعمل على استرجاع الهُويّة وإحياء الدّين الذي عمل المجرمون على قتله، فلم أتعرّض لما تعرّضت إليه (رحمةُ الخيريّة) ورجالُها أو ما تعرّض له (مركزُ أولاد زيد) ورجالُه أو غيرهما من الجمعيّات الطّيّبات الرّساليّات الملتزمات بالقانون التّونسيّ الذي نشطت بمقتضاه، ولم أتعرّض للحادث الغبيّ الجبان الذي تمثّل في الاعتداء على المقرئ الكويتي الخلوق الشّيخ محمود الرّفاعي ووضعه بلؤم رهن الإيقاف بتهمة الإرهاب والحال أنّه مشهور لدى السّلطات ولا يدخل البلاد إلّا من أجل خيرٍ ضبطه تخصُّصه المتعلّق بالقرآن الكريم. لقد أعمى سلطات الانقلاب كرهُهم للدّين حتّى فقدوا العناية بعلاقةٍ كويتيّة كثيرا ما أنجدت البلاد عند حاجتها وكثيرا ما أخرجتها بعد الله تعالى من ضائقتها... كما أنّي لم أذكر كثيرا من المظالم التي تعرّض لها الأبرياء لا سيّما من الإسلاميّين أو المهمّشين في طول البلاد وعرضها، كما أنّي لم أتوقّف مع المنقلب وهو يلبس لباس الفاسق الكاذب الذي يرمي المحصنات دون شهود أو بيّنة عندما اتّهم القاضية الحصان الرّصان بالزّنا، ولا توقّفت مع الفاجعة الكبرى التي استهدفت حصني الأسبق الجيش التّونسيّ حيث انقلب بتعليمات خفيّة تصغّره من حامي حمى الوطن إلى مجرّد عصا يستعملها المنقلب لمطاردة أحرار تونس بمحاكمه العسكريّة التي تنكّبت الحقّ، مصيبة على بلده قد نزع التّونسيّون أو كادوا ثقتَهم منه...
أنهي النّصّ سائلا الله ﷻ أن يبرم للبلاد أمر رشد يُعزّ فيه أهل طاعته وتُرجى فيه التّوبة والأوبة لأهل معصيته ويُؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر، وأن يجعل تخطيطَ أعداء البلاد في نحورهم وتدبيرهم تدميرهم، وأن نحتفل قريبا جدّا بسقوط المنقلب بابتهاج يفوق ابتهاج يوم تنصيبه، وأن نتعلّم للمستقبل اختيار ذي النّسب بفقه يقدّم النّسب، فإنّ جعفر الطيّار رضي الله عنه لمّا خطب أمام ملك الحبشة قال فيما قال: (فبعث الله إلينا رسولا منّا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه) فمجّد النّسب وذكر الصّدق والأمانة والعفاف، وهي خصال كريمة وجب علينا الحرصُ عليها وتحكيمُها عند اختيار مَن يحكمنا، حتّى لا نتّكئ كلّيا على النّسب، فإنّ [مَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه] كما قال شريف النّسب ﷺ.