السبت 20 ديسمبر 2025
كتاب الرأي

عبد الرفيع حمضي: ما بعد الموت… الحلقة المؤجلة

عبد الرفيع حمضي: ما بعد الموت… الحلقة المؤجلة عبد الرفيع حمضي
حين تقع الكارثة، ينصب الاهتمام اولا على انقاذ الارواح، وهو امر بديهي، وعلى تحديد المسؤوليات، وهو شأن إلزامي .لكن ما يحدث في صمت بعد ذلك ، غالبا ما يظل خارج النقاش العمومي. فتدبير الموت بما يقتضيه من احترام  لكرامة الضحايا،يظل حلقة  مؤجلة ان لم تكن منسية، رغم انه هو عمق الامتحان الاخلاقي لاي مجتمع ،وجوهر سؤال ثقيل الدلالة.
 
وبالتالي، فان ما عرفته بلادنا خلال الفترة الاخيرة من احداث اليمة اعاد الى الواجهة اسئلة الجاهزية والمسؤولية. انهيار بنايات سكنية بمدينة فاس خلف حوالي اثنين وعشرين وفاة، تلتها فيضانات اسفي التي راح ضحيتها ما يقارب سبعة وثلاثين شخصا، اضافة الى عدد من المصابين. وطبعا  باشرت السلطة القضائية، في الحالتين، تحقيقات لتحديد مكامن التقصير البشري، بعيدا عن الاحالة السهلة على الطبيعة او القدر او التغيرات المناخية، في مقاربة ضرورية، لكنها لا تستنفد وحدها اسئلة الكارثة، ولا تغلق النقاش حول ما يليها.
غير ان هذا السؤال ليس وليد اللحظة.

 
ففي اواسط التسعينات، بمدينة مكناس، عِشت وضعية ما زالت عالقة في ذاكرتي ،يوم وقع  انجراف بالطريق الرابطة بين مكناس والحاجب، وخلف عدة وفيات، وكنت  حينها اتابع اجراءات نقل عامل توفي في حادث شغل بورش الطريق السيار . وعند تسلم الجثة من مستودع الاموات، وبما انه لم يكن لي اي معرفة شخصية بالضحية، فاكتفيت بما هو مدون في السجلات. غير ان ارتباكا وقع، وتبين، بعد وضع الجثمان في سيارة نقل الاموات، ان هناك خطا في تحديد الجثة. ثم تكرر الارتباك مرة ثانية. عندها، ولمزيد من الاحتياط، اضطررنا الى استدعاء احد معارف الضحية للتاكد من المتوفى .
 
كما ان  استحضار زلزال الحوز أمرا  حتميا. فاكثر من ثلاثة الاف وفاة في ليلة واحدة شكلت  في حينها اختبارا وطنيا غير مسبوق. حيث اكد المغرب عن تطور مهم في سرعة التدخل، والتعبئة، والتنسيق بين مختلف المتدخلين، من سلطات عمومية ومتطوعين. غير ان تدبير ما بعد الوفاة ظل، في جزء كبير منه، معتمدا على حلول استعجالية، واجتهادات محلية. وهو مجهود انساني مقدر، لكنه لا يمكن ان يكون بديلا عن رؤية مؤسساتية مكتملة.
 
فالكارثة لا تنتهي عند انقاذ الاحياء، بل تمتد الى كيفية تدبير الجثامين: الحفظ، والتعرف، والتسليم، والدفن، ومرافقة الاسر المفجوعة. وهي حلقة اساسية في سلسلة التدخل، لكنها ما تزال الاضعف، لانها اقل ظهورا في الاعلام، واقل حضورا في التخطيط العمومي.
 
ولعل  واقع مستودعات الاموات  ببلادنا يؤكد  هذا التشخيص.سواء تعلق الامر بمستودعات الاموات التابعة لبعض المستشفيات العمومية او تلك الخاضعة لتدبير الجماعات الترابية، فان الوضعية العامة تكاد تكون واحدة. اختلالات متراكمة تطبع هذه المرافق منذ سنوات: بنية تحتية غير مهيأة، طاقة استيعابية محدودة، نقص في التجهيزات الاساسية، وغياب تكوين متخصص للعاملين، فضلا عن غياب بروتوكولات واضحة تفعل تلقائيا في حالات الوفاة الجماعية.
 
وهنا لا يتعلق الامر بتبادل المسؤوليات بين المتدخلين، بقدر ما يتعلق بغياب رؤية مندمجة تعتبر تدبير مستودعات الاموات جزءا من السياسات العمومية المحلية. فصون كرامة الانسان داخل المجال الترابي، حيا وميتا، مسؤولية جماعية تقتضي ادراج هذا الملف ضمن اولويات التخطيط، بعيدا عن منطق الالحاق التقني او التدبير  الهامشي.
 
وتبين بعض التجارب المقارِنة ،ان الاشكال لا يرتبط بحجم الموارد المالية، بقدر ما يرتبط بوضوح الرؤية والتنظيم. فغياب تصور مؤسساتي متكامل يجعل تدبير ما بعد الوفاة رهينا بالاجتهادات، حتى في السياقات التي تتوفر على امكانيات محدودة.
مارتن هايدغر  الفليسوف الذي بنى فكره على ثلاثة اركان : الاغتراب والقلق والموت يعتبر ان وعي الانسان بالموت هو ما يمنح لحياته معناها ومسؤوليتها. 

 
وان طريقة تعامل المجتمعات مع موتاها تظل، في العمق، مرآة صادقة لقيمها، ولمدى احترامها للانسان في ضعفه النهائي.
وفي مرجعيتنا الاسلامية، تبقى حرمة الميت اصلا ثابتا، والتعامل معه بوقار واحترام ليس مجرد طقس ديني، بل تعبير عن منظومة قيم تعتبر الانسان مكرما في حياته وبعد مماته.

 
اما من منظور حقوقي، فالكرامة الانسانية مبدأ مؤسس في الدستور المغربي، كما ينص عليه الفصل 22، وهو مبدأ يمتد منطقيا الى حماية حرمة الجسد الانساني حتى بعد الوفاة. كما تؤكد المرجعيات الدولية، وعلى راسها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، على صون كرامة الانسان في جميع الظروف، بما في ذلك حالات الطوارئ والكوارث.
 
اثارة هذا الموضوع، في  هذا الركن (اتاي الاحد، ) ليست استثمارا للمآسي، ولا دعوة للمحاسبة السهلة، بل محاولة لفتح نقاش مؤجل حول حلقة منسية في تدبير الكوارث: ما بعد الموت.
لان احترام الانسان… لا ينبغي ان يتوقف عند لحظة موته، حتى في زمن الكوارث.