السبت 27 إبريل 2024
كتاب الرأي

محمد كلاوي:  علماء السياسة في مواجهة المنطق الإعلامي

محمد كلاوي:  علماء السياسة في مواجهة المنطق الإعلامي محمد كلاوي
أود أن أسجل بداية بعض الملاحظات العامة حول وضعية عالم السياسة في علاقته بالوسائط الإعلامية، وبشكل أدق حول كيفية توظيفه لها كآلية للتعريف بمنتوجه الثقافي، بصرف النظر عن القيمة الفكرية لهذا المنتوج. من هذا المنطلق يتخذ الإشكال أهمية قصوى لأن افتحام المجتمع الإعلامي من طرف المثقفين الجدد أو على الأرجح أولئك الذين تقدمهم وسائل الإعلام الجماعية بهذه الصفة، لا تخلو من تأثير على طرق تفكيرنا وأفعالنا. لهذا أعتقد أن مراجعة نقدية لوظيفة وسلطة المثقف داخل النسق الإعلامي، وإذن الإيديولوجي، تفرض ذاتها علينا اليوم كبرنامج بحث غايته ليست تبخيس عمل من واظبوا، طوال سنوات، على تعبيد الطريق لإخراج التفكير السياسي من اللبس والتشكيك، اللذين أصبحا يمارسان ضده من لدن بعض المتفقهين، بما فيهم أحيانا المستنيرين منهم.      
 استنادا إلى هذا المعطى، لم يعد خافيا أن المغرب، وفقا لتصنيف تقني محظ للمواد القانونية في كليات الحقوق، لم ينظر إلى مادة العلوم السياسية كمكون مستقل داخل العلوم الاجتماعية، لكونها ارتبطت أصلا بالفلسفة وعلم الاجتماع ولأنها كانت مادة جديدة نسبيا. وهكذا ظلت لزمن غير يسير موضع تشككك وطروحات سياسية، بنيوية وظرفية، بسبب انعدام الدمقرطة في قطاع التعليم الجامعي، بل ظل المصطلح ذاته مبعث توجس من طرف أصحاب القرار، الذين لم يروا فيه، بحكم الهاجس الأمني، سوى مرادف للتخريب الثقافي والهدم الفكري، مما يعني أنها قطعت أشواطا طويلة تسعى لكسب المكانة التي تستوجبها داخل حقل العلم والمعرفة الحقوقيين.                                                                        ومن الثابت أيضا أن البحث في ميدان العلوم السياسية قد عرف نهضة حقيقية خلال الأربعة عقود الماضية. وهكذا ظهر خلالها جيل جديد من الدارسين الذين أخذوا على عاتقهم البحث عن أجوبة لطلب أضحى ملحا وهو تفكيك وتوضيح، من زوايا ومناهج متعددة في التحليل، تاريخ وميكانزمات اشتغال النسق السياسي والمؤسساتي لنظام الحكم في بلادنا. ففي مقابل الهياكل التقليدية للدراسات الوضعية التي ظلت مهيمنة على العلوم القانونية، جاءت بحوت ودراسات تتوخى عقلنتها عبر ربطها بمحيطها الخارجي. وهكذا بفضل مساهمات العالم السياسي والأنثروبولوجي والسوسيولوجي والمؤرخ السياسي ومؤرخ الأديان... أصبحت مقاربة الواقع السياسي أكثر تجليا، إن لم يكن دوما على صعيد ما يفرزه المجتمع كعلامات تطور وتطابق بين نمط اشتغالها والآليات القانونية التي تستند عليها، فعلى الأقل في ما يمكن استجلاؤه كآليات كبح لطموحاتها وفق حقيقتها العميقة. فعلى مستويات عدة توفقت هذه المساهمات في زعزعة الطرق التقليدية للدراسات التقنية. غير أن الجامعة كقطب تقليدي للإنتاج الفكري قلصت دورها تحت وطأة المتغيرات الاقتصادية والسياسية التي شهدها العالم عندما انخرطت بدورها في التكوين المستمر الاحترافي عوض البحث والمعرفة... فباحتضانها للنظام المهني الجديد والشهادات المؤدى عنها خرجت، تدريجيا، من دائرة التعليم العمومي لكي تنخرط في نظام كبريات المعاهد الخصوصية والمؤسسات المتخصصة التي تعتبر مبدئيا عضدا مكملا لها. لكن بالرغم من كل هذا ظلت الجامعة هي الموقع المميز لتفريخ المثقفين في مختلف ميادين العلوم الإنسانية (الروائيين والشعراء والاقتصاديين والفلاسفة والفنانين...) حينما يقبل هؤلاء بالانسلاخ عن جلدتهم الإدارية المبرمجة سلفا.
       وفي خضم السعي لإنتاج المعنى حول المجتمع ظهر صنف جديد من رجالات الفكر: عالم السياسة الذي يقدم نفسه كمثقف بمعنى المتفحص الناقد للنسق السياسي والاجتماعي، والذي انبثق من جيل ما بعد الثورة الرقمية التي ترافقت مع مرحلة الانفتاح السياسي في المغرب بداية تسعينيات القرن الماضي. وقد صارت هذه الصفة سببا في اندلاع وفرة من الخطابات والتحاليل التي كانت أكثرها شيوعا تلك التي تمرر عبر الوسائط السمعية البصرية. إلا أن "مفهوم المثقف -كما يقول أوليفيي مونجان -المدير السابق للمجلة الفرنسية "Esprit " الذي خصص عددا كاملا للموضوع، أصابه التشويش منذ أصبح الجميع يطالب بالاعتراف لهم بالوضعية الاعتبارية التي يمتلكها المثقف". وقد خضع المفهوم لتحولات في المعنى كانت وليدة المتغيرات التي خلفها تطور الحياة بصفة عامة والثقافية بصفة خاصة. 
ويلزم التذكير في هذا السياق ان المتخصصين في الإيتيمولوجيا قد عملوا على مواكبة تطور المصطلح عبر تحقيب مراحل تطور المفهوم الذي يؤشرون على بدايته انطلاقا من "فولتير" تليه مرحلة انتقالية خلال القرن التاسع عشر ومرحلة ذهبية تبتدئ بقضية "دريفيس" لتنتهي بوفاة "سارتر". هذا التحقيب يرتكز على دور المثقف في الحياة السياسية وعلى مدى انخراطه العملي فيها. لذا فغداة غياب "سارتر" تم الإعلان عن نهاية الفكر النقدي والملتزم لفائدة التفكير المتخصص الذي يتماهى مع قيم الثقافة السائدة. 
 والحقيقة أن أكبر التحولات السياسية في أواخر العشرية السابعة من القرن العشرين، قد اقبرت الصورة البراقة للمثقف التقليدي، لتحل محلها صورة المثقف الإعلامي. فإذا كانت استقلالية الأول تسمح له بالانخراط المشروع في الفضاء العام، فإن حرفية الثاني صيرته مجرد نتاج للنجومية المصطنعة التي تكتفي بتلميع الواقع الاجتماعي الذي هو نفسه غالبا ما لا ينتمي إليه. ولأنه غالبا ما يتحاشى الظهور بسلوك الساخط فإنه يتدرع بصفة "المحايد " تحت غطاء الموضوعية العلمية. وهذا ما صار يميز بين "الثقافة النضالية" و "الثقافة العالمة". فهذا عبد الله العروي الذي لا يخفي تذمره واغترابه أمام الفراغ الثقافي الذي خلفه غياب أعمدة الثقافة الباريسية يقول بنبرة حنين استرجاعية: "لدي إحساس غريب. فأقول مع نفسي إن باريس بدون سارتر وكامو وألتوسير، الخ... لم تعد تهمني " (صباحيات، الطبعة الفرنسية) إلا أن منظري الفكر الملتزم (هوكو، زولا، سارتر، كامو، طه حسين، نجيب محفوظ وكذلك علال الفاسي والخطيبي والمرنيسي ...قبل أن يصبحوا كذلك كانوا مثقفين بالمعنى التقليدي للمفهوم. أما اليوم فقد أصبح المثقف رهين اللحظة يعطي الأولوية للحرفية والمهنية على التروي في التفكير. يتابع مجريات الأحداث ويسارع إلى تحليلها والتعليق عليها عبر القنوات المرئية والمسموعة لحد اختلطت فيها مهمته مع مهنة "الصحفي المدون". وبما أنه متمكن على العموم من أدوات اشتغال الصورة الإعلامية، فإنه يكتسب الشهرة على عكس غالبية المثقفين الذين لا يستجيب طرازهم مع المواصفات المطلوبة إعلاميا.                                                                                                            
فالقول بموت المثقف يفيد انتقال سلطته المعرفية من ميدان اشتغاله إلى السياسة، وبموته تتحقق ولادة مثقف الإعلام الذي تتحدد قيمته فقط في نوعية تدخلاته. لهذا كان النقاش الذي اشتعل لمدة في فرنسا بين المدافعين عن دمقرطة المعرفة، المؤاخذ عليهم تسببهم في تدني المستوى، وبين من يدفعون بصيانة الثقافة من التمييع، المتهمين بالنخبوية، قد أخطأ هدفه لأنهم جميعا لم يطرحوا السؤال الجوهري حول ما إن كانت هذه الوسائط، في ذاتها ولذاتها، تترك هامشا من الحرية في الكيفية التي وجب اتباعها في استعمالها. وفي هذا الصدد، لا يسعنا إلا مراجعة ما كتبه عالم الاجتماع الكندي "مارشال ماكلوهان" عن وسائل الاتصال الجماهيرية (1964.Pour comprendre les media : Marshall Mac Luhan).  إن مقولته الشهيرة "الرسالة هي الوسيط" « le message c’est le medium »  تختصر أطروحته القائلة بأن مضمون الرسالة وكيفية استغلالها من طرف مستعمليها ليست هي ما يحدد طبيعة علاقاتهم، بل "الوسيط ذاته" هو من يصنع أنشطتهم ويرسم صلاتهم الإنسانية. فإذا كانت "الوسائط الساخنة" كالمذياع والسينما والندوة...لا تترك سوى هامش ضيق من الفراغ لملئه وتتميمه، فإن " الوسائط الباردة" كالمناظرة والتلفزة والمناقشة والأنترنيت ...تتيح المشاركة. فاكتشاف الكتابة يؤكد ماكلوهان كوسيط ساخن هي التي خلصت الناس زمن أفلاطون من سيطرة العقلية القبلية باختراعها لنهج تعليمي يعتمد الأفكار بدل التجربة اليومية. ويضيف "ماكلوهان" في تحليله مثالا بهتلر مؤكدا أن هذا الأخير "ما كان ليستمر في السلطة لو أن التلفاز كان منتشرا على نطاق واسع أيام حكمه، لأن كل من تابعوا المواجهة الانتخابية بين كينيدي ونيكسون على أجهزة الراديو خلصوا إلى فوز ساحق لهذا الأخير لأنه كان يوحي بشخصية مشحونة، ترجمتها التلفزة إلى صورة مهرج محتال. "فلولا التلفزة يقول "ماكلوهان" لكسب نيكسون الرهان". 
لقد كانت بداية من ينعتون بمثقفي اٌلإعلام في فرنسا تحت ولاية "جيسكار ديستان" الذي وضع مشروع تطوير المجال السمعي-البصري. وكان من ميزة هؤلاء أنهم فطنوا باكرا إلى أهمية وسائل الاتصال الجديدة لنشر المعرفة في أوساط واسعة من المتلقين. وقد وجدوا في التلفاز، الوسيلة الأفضل لتحقيق هدفهم، الشيء الذي يفسر العناية الفائقة بالمظهر وتبسيط الأسلوب والمشاركة في البرامج الترفيهية والبحث الدؤوب عن النجومية. وقد أودى هذا الخيار بالعديد من علماء السياسة إلى نسيان البون اللازم بين النقاش الفكري والموقف السياسي، مع ما يستتبع ذلك من مس بالمصداقية العلمية والنزاهة الفكرية.
من جهة أخرى عانى البحث الأكاديمي من هذا التطور الجديد الذي قلص مساحة استهلاك الكتب لكون الأنترنيت زاد من وطأة عزلته عندما قلص مجال الثقافة في حدود داْئرة الجامعيين، الذين ابتدعوا نمطا جديدا لتأكيد استمراريتهم في المجال العمومي وهو الخبرة. ولكن هنا أيضا ظل دور الخبراء والتقنوقراط بصفة عامة مدينا لمدى قربهم من دوائر السطلة، بحيث يتعذر عليهم إضفاء الأهمية التي قد يطمحون أليها فيكتفون بالمزايا المادية التي يجنونها من عملهم. وفي المغرب أصبحت هذه الممارسة بالنسبة للسلطة هي الوسيلة الأسهل لمكافأة الموالين لها أو لتدجينهم. هذا ليس معناه أني أنازع في كون الخبرة كاجتهاد فكري تبقى ضرورية في الحياة العامة، على الأقل لاعترافها بكفاءة النخب المثقفة الوطنية، غير أن هذا الاعتراف لا يفيد الخبير الذي يطمح أن يساهم في تشريح مجتمعه وطرح الحلول.
مترجم بتصرف عن مجلة Science Politique n2 novembre 2011