الأربعاء 24 ديسمبر 2025
كتاب الرأي

عبد الرفيع حمضي: كرة القدم… Just the Game

عبد الرفيع حمضي: كرة القدم… Just the Game عبد الرفيع حمضي
أسدل الستار عن كأس العرب، وقريبا ستتحول الأنظار إلى الولايات المتحدة الأمريكية، المحتضنة لكأس العالم 2026. وما بين المحطتين، انطلقت منافسات كأس إفريقيا للأمم، الحدث الرياضي الأبرز في القارة، والذي يتحول، كل سنتين، إلى لحظة جماعية نادرة، تلتقي فيها الشعوب الإفريقية حول لعبة واحدة، وذاكرة مشتركة، وحلم رياضي يتجاوز الحدود. ومع انطلاق هذه التظاهرة، يعود إلى الواجهة نقاش قديم-جديد حول مكانة الرياضة وحدود أدوارها، وما إذا كان من الوجاهة تحميلها دلالات سياسية ورمزية أكثر مما تحتمل.

من هذا السياق، يصبح مشروعا التوقف عند سؤال أعمق: ماذا ننتظر من الرياضة اليوم؟ هل نتركها فضاء للتنافس، والفرح، والاختلاف المشروع؟ أم نحولها إلى مرآة لصراعات متعددة الأوجه، تاريخية وجيوسياسية أحيانا، وعرقية أو دينية أحيانا أخرى؟ صحيح أن الرياضة، منذ غادرت فضاء الهواية الضيق، لم تعد مجرد نشاط بدني أو منافسة عابرة، بل تحولت إلى ظاهرة إنسانية كبرى، تتقاطع فيها القيم، والاقتصاد، والرمز، والفرجة الجماعية. غير أن هذا التحول، بما يحمله من اتساع وتأثير، لا يبرر بالضرورة تحميل الرياضة أدوارا سياسية أو سيادية تتجاوز طبيعتها الأصلية.

غير أن المعضلة لا تكمن في طرح السؤال في حد ذاته، بل في الإجابات المتسرعة التي تميل إلى تضخيم الدلالة السياسية للرياضة، وإلى قراءتها باعتبارها امتدادا مباشرا للصراعات الدولية أو للتوازنات الجيوسياسية.
 
في العلوم الاجتماعية، تدرس الرياضة بوصفها مجالا رمزيا يعكس تحولات المجتمعات أكثر مما يصنعها. فهي تتأثر بالسياق السياسي والاقتصادي والثقافي، لكنها لا تقوده ولا تحل محله. وعندما يتم اختزالها في كونها أداة سياسية، فإنها تفقد جزءا من معناها الإنساني، وتتحول من فضاء للتلاقي إلى ساحة إسقاط للصراعات.
 
ويقدم تاريخ الرياضة العالمية، ولا سيما تاريخ الألعاب الأولمبية، مثالا واضحا على حدود هذا التداخل. فاللحظات الأكثر قتامة في تاريخ الأولمبياد لم تكن لحظات التنافس الحاد أو الهزائم القاسية، بل تلك التي خضعت فيها الرياضة لمنطق المقاطعة السياسية. فخلال مرحلة الحرب الباردة، تحولت الألعاب الأولمبية في أكثر من مناسبة إلى رهينة للصراع بين المعسكرين، فغابت دول، وغيبت شعوبها، وتراجع المعنى الكوني للرياضة لصالح حسابات سياسية ظرفية.
 
كما أن تلك المقاطعات لم تنتج انتصارا سياسيا حقيقيا، لكنها أضعفت الرياضة نفسها، وأفقدت الأولمبياد أحد أسسها الكبرى، كونها فضاء إنسانيا يتجاوز الخلافات. ولهذا السبب بالذات، يجمع كثير من الباحثين على أن تلك المرحلة كانت من أسوأ المراحل في تاريخ الرياضة العالمية، ليس من حيث التنظيم، بل من حيث الروح والمعنى.
 
وبالتالي، فالدرس الذي يمكن استخلاصه من تلك التجربة واضح: كلما اقتربت السياسة من الرياضة أكثر من اللازم، دفعت هذه الأخيرة الثمن. وكلما حملت المنافسة الرياضية ما لا تحتمل من رموز ورسائل، فقدت قدرتها على الجمع، وعلى إنتاج الفرح المشترك.
صحيح أن الرياضة اليوم أصبحت صناعة كبرى، مرتبطة بالاقتصاد، والاستثمار، والسياحة، والتسويق، وصورة الدول. وهذا تطور طبيعي لا يمكن إنكاره. لكن هذا التحول الاقتصادي لا يعني بالضرورة تحولا سياسيا. فهناك فرق جوهري بين الاستثمار في الرياضة وتسييسها، وبين جعلها رافعة للتنمية وتحويلها إلى أداة صراع رمزي.

 
وفي هذا السياق، تكتسب الإحالة إلى اليوم العالمي للرياضة من أجل التنمية والسلام، الذي تحييه الأمم المتحدة في السادس من أبريل من كل سنة، دلالة خاصة. فهذه المناسبة لا تحتفي بالرياضة بوصفها إنجازا أو فرجة فقط، بل تذكر بوظيفتها الأصلية: تعزيز السلم، وبناء الجسور بين الشعوب، وترسيخ ثقافة الاحترام المتبادل. ومن ثم، فإن الدعوة إلى حماية الرياضة من التسييس ليست خطابا مثاليا أو أخلاقيا مجردا، بل خلاصة تجربة تاريخية طويلة أثبتت أن الرياضة، حين تترك في مكانها الطبيعي، تكون أكثر قدرة على خدمة الإنسان والمجتمع.
 
إن القارة الإفريقية، مثل غيرها من فضاءات العالم، في حاجة اليوم إلى رياضة تجمع ولا تفرق، وإلى خطاب رياضي يخفف التوتر بدل أن يغذيه، سواء على مستوى الإعلانات، أو الإعلام، أو الفضاء الرقمي بالخصوص. فالتراشق بين الجماهير لن يخدم الرياضة، ولا يخدم صورة الشعوب، ولا يترك سوى أثر عابر من الضجيج.
 
في النهاية، لا تحتاج كرة القدم، ولا الرياضة عموما، إلى أن تكون سياسية كي تكون مؤثرة، ولا إلى أن تكون سيادية كي تكون مهمة. قيمتها الحقيقية في كونها لغة إنسانية مشتركة، ومساحة للتنافس الشريف، وصناعة تنتج الأمل بقدر ما تنتج الفرجة. وحين نبقيها في هذا الإطار، نكون قد ساهمنا في نقاش هادئ ومسؤول، يحمي الرياضة من أن تحمل ما لا تحتمل.
كرة القدم… Just the Game.