تملكني شعور بالحزن الشديد وأنا أتابع قوافل الحراكيين وهم يغادرون السجن، ليس لأنني أرغب في بقائهم في تلك الدهاليز، ما عاذ الله أن أكون كذلك، ولكن لأن هؤلاء ظلوا في تلك البقاع المظلمة لعدة أشهر ولم يخرجهم منها إلا ضغط أمريكي بعد زيارة بلينكن..
اعتقال هؤلاء الشباب الذين تظاهروا فقط من أجل المطالبة بحكم مدني، وبدولة مؤسسات كان إجراء خاطئا ودليلا ملموسا على أن كل الشعارات التي تم رفعها في السنوات الماضية للإصلاح والانتقال الديمقراطي ذهبت مع الريح، بل وأثبتت أن الدولة ضعيفة وغير قادرة حتى على القبول بأصوات شباب كل ما يطمحون إليه أن ينتخبوا ممثلين حقيقيين لهم، ليديروا الحكم، ويحاسبوهم إذا أخطأوا لا أن تبقى البلاد رهينة الأحكام العسكرية والعرفية..
كنت أطمح أن يكون إطلاق سراح هؤلاء الشباب الحالم بغد جزائري مشرق، بإرادة ذاتية، ولجمع شمل الجزائريين وهم يستقبلون الشهر الفضيل، لكن شاءت الأقدار أن يبقى نظام العصابة على عهده في الخضوع للإرادة الخارجية.. وهي رسالة مسيئة لأصحابها قبل أن تكون مسيئة للجزائر ولشعبها الذي دفع ثمنا باهظا من أجل سيادته على أرضه، حتى انتهى به الأمر أسيرا بين جنرالات لا هم لهم إلا إرضاء الدول الاستعمارية..
كنت أفكر أن تكون إطلالتي الأولى في رمضان موجهة للم الشمل والدعوة إلى تحويل شعارات المصالحة التي وصلتني تباعا من جهات متعددة في النظام، إلى واقع ملموس، والشروط المساعدة على ذلك، لكنني تفاجأت كغيري من الوطنيين الجزائريين بالمساعي المحمومة التي تبذلها عصابة الحكم في تضييق الخناق على حرية التعبير في الداخل كما في الخارج..
ولكم ساءني أنه في الوقت الذي تفتح فيه أبواب السجون للإفراج عن مأفواج من المعتقلين، تنشط الأجهزة الأمنية في اصطياد أهدافها من النشطاء في الخارج مقابل ثروات الجزائر.. ومع أنني أحاول أن أنسى الذي جرى لمحمد تامالت رحمه الله، ولمحمد بن عبد الله، ولبن حليمة محمد عزوز، حتى جاء اعتقال عبد الرحمن زيتوت الشقيق الأصغر للقيادي المعارض محمد العربي زيتوت، فقط لأنه يطالب بالدولة المدنية بديلا عن حكم العسكر..
هل يمكن لعاقل فضلا عن أن يكون سياسيا أن يثق في أن نظاما هذه هي ممارساته مع شعبه يسعى لإنجاز مصالحة وطنية وانتقال ديمقراطي، في وقت يعترف رأسه الأول أن بلاده في جزيرة معزولة ولا علاقة جيدة له إلا مع تعونس، التي تعيش هي الأخرى انقلابا على المسار الديمقراطية لا يختلف في مخرجاته عما شهدته الجزائر مطلع تسعينيات القرن الماضي؟
مشكلة الأنظمة الطاغوتية والوظيفية، كما هو في الجزائر، أنها لا تستطيع حتى الكذب، فهي في الوقت الذي تبعث فيه المراسيل لاستقدام معارضيها في الخارج لاستدراجهم من أجل العودة إلى البلاد للتحكم فيهم، لا تفتأ تنتهك أبسط الحقوق للمواطن العادي، الذي وجد نفسه في أيام رمضان يقف في طوابير طويلة لتحصيل لتر واحد من الحليب، لمن وجد ثمنه..
ولسائل أن يسأل: وما فائدة الثروات الباطنية التي حبى الله بها الجزائر من نفط وغاز؟
لا شيء تحقق على الأرض سوى أنها كانت مصدرا لتأمين حكم عسكري أذل الجزائريين ورهن بلادهم لتحقيق رغباته أولا وحماية مصالح دول استعمارية هي غطاؤه الدولي للاستمرار في الحكم..
مرة أخرى يضيع عسكريو الجزائر فرصة للخروج من الباب الكبير، وفتح المجال للجزائريين بأن يختاروا من يحكمهم بحرية كاملة ومن دون وصاية من أحد، وأن يعود العسكر إلى ثكناتهم ومهماتهم الرئيسية في تأمين سيادة الجزائر، وهي مهمة جليلة تتصدى لها الجيوش في كل دول العالم، أما الشأن السياسي فيديره مدنيون يتنافسون ببرامج سياسية ينتخبهم الناس على أساسها..
ولا يفوتني وأنا أنهي هذه المقالة إلا أن أهنئ كل من تحرر من سجون الاستبداد من الحراكيين، وأن أدعو الله لمن تبقى خلف السجون بأن يعود إلى أهله في هذه الأيام المباركة من شهر رمضان المعظم، أعاده الله علينا جميعا في ظروف أفضل مما نحن عليه.
كريم مولاي، خبير أمني جزائري/ لندن