الثلاثاء 23 إبريل 2024
كتاب الرأي

أحمد حبشي: في خيارات اليســــــار

أحمد حبشي: في خيارات اليســــــار أحمد حبشي
لقد مر ما يزيد على نصف قرن من تجربة ما سمي في التاريخ السياسي المعاصر في المغرب باليسار الجديد، تجربة شبابية سعت في طموحها الواسع إلى تجاوز واقع سياسي محتقن، انعدم فيه التواصل بين السلطة الحاكمة والقوى السياسية التي ساهمت بفعالية في استعادة استقلال البلاد. فمنذ سنة 1965 حيث بدأت الإرهاصات الأولى لتشكيل تيار شبابي رافض لمختلف الطروحات السياسية التي كانت في تقديره ذات نزوع إصلاحي، وتسعى إلى التساكن والتعاطي مع نظام محافظ استبدادي، أو تهدف إلى الانقلاب عليه بدون رؤية واضحة وبرامج تروم خدمة الشعب وطبقاته الكادحة.                                     عرفت هذه التجربة اليسارية الكثير من المنعرجات ومرت من حقب كان لها الأثر في تأثيرها وتأثرها بمحيطها، في تفاعل صبغ سلوكها السياسي وممارستها العملية بسمات ميزتها عن مختلف القوى السياسية الفاعلة في حقل سياسي موسوم بالاحتقان وغياب الأفق. عاش اليسار في تاريخه الخاص محطات ميزت تجربته التنظيمية، إذ وسع قاعدته على أساس نقاش مفاهيمي وتصورات نظرية في التعاطي مع واقع مجتمعي وفي سعي لتغيير علاقاته والرفع من إيقاع تطوره، وهو ما جعله يحصر مجال عمله في الوسط التلاميذي والطلابي وفئات واسعة من المثقفين والعاملين في قطاع التربية والتعليم، ومن هذه الثلة برز أكثر قادته شهرة وتأثيرا. كان ذلك خياره الأول انطلاقا من تحديد القطاع الطلابي كطليعة نضالية، بما لا يعني حصر مجال حركيته في قطاع مجتمعي دون غيره.
هذه التجربة مكنت تيارا مجتمعيا من بلورة صيغ نضالية وأساليب كفاحية، غيرت الكثير من المعطيات في التفاعل مع واقع متسم بالتسلط والاستبداد، وانحسار مجال الممارسة السياسية وما رافق ذلك من مضايقات وقمع شرس، توج بمحكمات أصدرت أحكاما قاسية استهدفت عزل القيادات عن قاعدتها وحصر تأثيرها الذي أصبح أكثر من مزعج.
واصل اليسار مسيرته النضالية بعد كل الرجات التي كان لها التأثير البالغ في تجديد أطروحاته السياسية وتغيير في أساليبه النضالية، على قاعدة مواصلة الكفاح من أجل تغيير العلاقات المجتمعية وتطوير الأداء السياسي بما يكفل تحقيق الكرامة وتوسيع مجال الحريات. فمن الدعوة لتغيير النظام وبناء الخلايا السرية في سياق الإعداد لممارسة العنف الثوري لمواجهة الاستبداد والتسلط، إلى الدعوة للنضال الديمقراطي وتنظيم الفعل الاجتماعي في إطارات متعددة ومحددة الأهداف، مسيرة نضالية عرفت المد والجزر واستقر بها المقام إلى تحديد صيغ الحد الأدنى في بلورة فعل جماعي لفئات اجتماعية واسعة بما يعني تغيير العلائق المجتمعية وتسمح بتوسيع الفعل الشعبي والرفع من وقع تأثيره السياسي.                                                                                 فإن كان الفعل اليساري الجديد قد ظل وفيا في العموم لأطروحاته الأساسية، وإن تباين أداء فصائله، فقد ظل عاجزا عن بلورة صيغ تنظيمية تمكنه من تحقيق انصهار مجتمعي، يعكس عمق تأثيره في مجريات الواقع على مختلف المستويات. فكان سؤال التنظيم يطرح باستمرار، يتأرجح بين الجماهيرية والاختيارات النخبوية، بين البناء القاعدي للفعاليات الشعبية والتماسك الأفقي والانسجام بين الأطر. فإن كانت الجماهيرية مطلوبة فإن النخبوية ظلت سائدة ومتحكمة في كل المسارات التي اعتمدت لتحقيق أهداف وتطلعات، أريد لها أن تكون مفتاح التحولات المجتمعية والتداعيات السياسية، بما يفتح آفاق بناء مجتمع الوفرة والحرية والكرامة.
إن الاختيار العملي للطابع النخبوي في هيكلة مختلف تنظيمات اليسار، قاد في عمومه إلى الانشطار المستمر وانحسار الفعل النضالي المحكوم برهانات سياسية ظرفية مسنودة بخلفية نظرية، لا تأخذ في الاعتبار معطى التحولات المجتمعية وما كان من تأثير للرجات القوية التي عرفتها البنية المفاهيمية، لدى أجيال لفظتها المؤسسات وضيقت الممارسات الحزبية مجال اختياراتها. لقد اتضح منذ عقود أن الفعل اليساري لم يتجاوز في ممارساته أكثر من تسجيل مواقف على هامش قضايا مجتمعية أساسية، تعكس ردود فعل رافضة لبنية الدولة وأجهزتها والتحفظ على كل معاملة سياسية معها، وذلك على خلفية تأسيس مجتمع بديل يقوم على قواعد موسومة بتعميم الحريات واقتسام الثروات. اختيارات سياسية لا يقابلها عمل ميداني يسعى لترسيخ قوام المواطنة الفاعلة من أجل توسيع دائرة الفعل المتفاعل مع التحولات التي يعرفها المجتمع ومحيطه. ففي لحظة إعادة بناء الدولة المغربية بعد عهد الحماية مباشرة بلورت قوى اليسار اختياراتها على قاعدة التخلص من البنية التقليدية للدولة واستلهام نماذج دولاتية تعتمد في التنظير العام على نموذج تنموي مختلف في أسسه وأهدافه. تقابلت الاختيارات في مرحلة كان الشرط التاريخي العام لا يتسع لفك الروابط في بنية مجتمعية مثقلة بتقاليد الولاء والامتثال للاستبداد. فكان ما تجلى خلال كل مراحل الصراع وتطور حدته على أكثر من مستوى، تبلور مفاهيم وتصورات شكلت خلفية لليسار تقوم على العداء المطلق للدولة ومكوناتها، دون التمييز بين مجالات وأسس الصراع السياسي أو ما يسمح بالفصل بين الدولة والنظام واختياراته السياسية ومختلف تداعياتها الاجتماعية. وظل التيار اليساري في حركيته مشدودا إلى منحى إيديولوجي غارق في الاطلاقية، حتى بعد توالي إخفاقات نماذج اعتبرت كأفق منظور لمسار كفاحي مؤطر بيقين نظري وزخم نضالي عرف كل أشكال البدل والعطاء.
لقد غيرت التجربة العملية خلال عقود من الممارسة السياسية الكثير من ملامح اليسار، تباينت أراء مكوناته وتدهورت روابطها التنظيمية، وانحسر فعله السياسي وتدنت إسهاماته الفكرية، وتحول إلى ظاهرة صوتية تفتقد إلى الرؤية العميقة لمسار التحولات ذات الأبعاد التواصلية الفاعلة والمؤثرة، كما لم تعد له القدرة على الدفع بمكونات المجتمع إلى إبراز خصائص أطرافها ومستوى تفاعلها في وحدتها وتضادها، وكذا تحديد مجال فعلها في واقع محكوم بخصوصيات تأكد عمق تأثيرها وصعوبة تجاوزها.
إنها أزمة تطور عميقة انعكست بشكل لافت في محدودية وسائله التواصلية، إذ فقد منابره الإعلامية وآلياته المعرفية التي ساهمت في توسع قاعدة تأثيره، وابتعد عن المحيط الثقافي الحاضن لتطلعاته، وأصبحت مخارج أزمته تتوالي كلحظات تفكك وسعي دائم إلى الانشطار، في محاولات متعثرة إلى إعادة بناء دون اعتبار لحجم الاكراهات التي تحاصر فعله، وهي سمة لا تستكمل دورتها حتى تعود إلى نقطة انطلاقها.                                                        لم يعد أمام اليسار متسع لتجديد أدائه والوقوف الحازم لبلورة رؤية تستشف مكونات الواقع المجتمعي أفقيا وعموديا، وتحيط بطبيعة تحولاته وكيفية التأثير فيها.
فإن كان جزء من اليسار قد تجاوز من الناحية النظرية إشكالية التمييز بين الدولة والنظام السياسي في إطار التوازنات المجتمعية، فإن ما أنتجه من فكر وممارسة ظل مشدودا إلى قواعد الفعل التكتيكي، الذي يخفي التردد والالتباس ويعلق الحسم في المواقف وتحديد المواقع وفق ما يقتضيه الفعل السياسي في لحظة تاريخية ذات طبيعة مفصلية. فكثيرا ما ضيع اليسار فرصا كانت سانحة لتحصين مواقعه او تغييرها، نظرا لتقديرات لم تكن في مستوى إمكانياته التنظيمية وقدراته الفعلية، إلى جانب استصغار الفعل المضاد وعزله عن محيطه العام المرتبط باستراتيجيات الصراع في تقاطع مصالح العديد من الأطراف.
لقد آن الأوان لفسح المجال لاستقراء التجربة، من زاوية حصر طبيعة الإخفاقات وتحديد عناصرها، وكشف كل الإعاقات ذات الطبيعة الذاتية التي تحتكر الحقيقة، وتسند الأخطاء للآخرين ولعناد الواقع الذي يستعصى على الترويض ويخفي مفاتيح اقتحامه. ولن يكون كل ذلك ممكنا دون أخذ في الاعتبار المسافة اللازمة بين الذات والموضوع. لا حاجة لنا لبخس ما أنجز، وإن كان لابد أن نميز ما بين حضورنا السياسي وغياب فعلنا الاجتماعي الوازن، إلى جانب ظواهر سلوكية استطاعت أن تزرع الكثير من الشك في قدرات اليسار، على أن يقوي صفوفه في سياق تحقيق أهدافه والوصول إلى مراميه.
لابد من التذكير بان أي نقاش أو تداول في قضايا اليسار لا يكتسي أية مصداقية دون مساهمته أطره والفاعلين الأساسين في تدبير شؤونه، لقد  فشلت التدخلات الأكاديمية على مختلف مستوياتها بان تحقق التوازن الذي فقده اليسار، بين الرؤية النظرية والممارسة العملية، فالتأكيد على ما يجب القيام به لا تتطابق مع كيفية تجسيده كفعل خلاق منتج، فالتأمل النظري يختصر تداعيات الفعل في النتائج، دون اعتبار لمختلف المؤثرات وملابسات الممارسة العملية. إلى جانب غياب أي تقدير لكلفة تصحيح أو تغيير مسار وتقوية الفعل فيه.
يجب التأكيد في نهاية المطاف على أن تجربة اليسار المغربي كانت غنية، وكلفتها كانت باهظة، وبذلك فهي تستحقق أكثر من وقفة تصحيحية منصفة، تفتح آفاقا شاسعا كل التطلعات لتحقيق تغيير موازن القوى لصالح توسيع دائرة الحريات والحق في العيش الكريم وتجديد الآمال في الحياة.