الخميس 18 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبد السلام انويكًة: استقلال المغربِ.. ملحمة شعبٍ وذكرى نداءات وطن

عبد السلام انويكًة: استقلال المغربِ.. ملحمة شعبٍ وذكرى نداءات وطن عبد السلام انويكًة

نداءات وطن وملاحم عدة استهدفت ما هو ترابا ونماء بشريا ومستقبلا أفضل للبلاد، هو ما كان عليه مغرب الاستقلال بعد استرجاعه لسيادته قبل خمسة وستين سنة. ولعل مما طبع البلاد من انشغالات وأشغال ونداءات وأوراش ترابية هنا وهناك، وكذا تحديات وإنجازات وعلاقات دبلوماسية وغيرها، على امتداد هذه الفترة من زمنه الراهن، نجد نداء وطن ووطنية ارتبط بأول ملحمة همت طريق وحدةٍ صيف سنة ألف وتسعمائة وسبعة وخمسين سنة فقط بعد الاستقلال، اسم أطلقه السلطان محمد بن يوسف رحمه الله على مسلك جبلي وعر فاصل بين تاونات وكتامة، لكونها أنهت حدودا وهمية كانت قائمة بين منطقتي احتلال فرنسي واسباني زمن الحماية. وغير خاف عن مؤرخين وباحثين مهتمين أن هذا الطريق الذاكرة تم شقه ضمن نداء وطني، من قِبل شباب مغربي متطوع في جو تعبئة وفرح وحماس غداة الاستقلال، إثر خطاب ملكي حول إنجاز هذا الورش الرمزي في منتصف يونيو من نفس السنة. وملحمة طريق الوحدة هذه استهدفت إنهاء واقع إرث استعماري من جهة، وإعداد مشاركين متطوعين وفق ما ينبغي من تعارف وتبادل لوجهات نظر حول شؤون البلاد، وكذا تلقي مبادئ مواطنة ووطنية ليكونوا بمثابة طاقات واعدة إصلاحية من جهة ثانية. ولعل بقدر ما محى طريق الوحدة معالم حدود عن الزمن الاستعماري وتوحيد شمال البلاد بجنوبها، بقدر ما تخرج منه كورش ميداني على امتداد ثلاثة أشهر شباب متشبع بمعاني وطن. هكذا كان هذا الطريق أول نداء وأول مسيرة من مسيرات بناء مغرب الاستقلال، تلك التي أشرف عليها السلطان محمد بن يوسف وسار على منوالها الراحل الملك الحسن الثاني، بتنظيمه مسيرة خضراء تم على إثرها استرجاع أقاليم البلاد الصحراوية الجنوبية، ونفسه هو ما نهجه الملك محمد السادس في مسيرة تنمية بشرية منذ عقدين من الزمن.

 

وأما عن نداء الوطن الثاني في مغرب الاستقلال، فذلك الذي ارتبط باستكمال وحدة البلاد الترابية من خلال دبلوماسية مغربية هادئة، حرصت على طرح قضية استرجاع ما ضاع من تراب البلاد خلال فترة الاستعمار. وإذا كان أول سفير إسباني قدم أوراق اعتماده للسلطان محمد بن يوسف في يوليوز من عام ألف تسعمائة وستة وخمسين، فإن هذا التاريخ كان بداية مفاوضات بين البلدين حول ملفات عدة منها قضية الصحراء المغربية، حيث قام الراحل الحسن الثاني بزيارة لإسبانيا التقى فيها بـ "فرانكو" صيف سنة ألف وتسعمائة وسبعة وستين، وتم الحديث عن مستقبل أقاليم البلاد الصحراوية الجنوبية، في إطار وفق ما يجمع البلدان من مودة وتعاون حسن جوار. تطورات وغيرها انتهت بمطالبة المغرب رسميا باسترجاع ربوعه الترابية في محافل دولية عبر نشاط دبلوماسي كثيف، تكللت بإقدامه على مبادرة وطنية حكيمة كانت بصدى دولي كبير، تلك التي تجلت في تنظيم مسيرة خضراء سلمية إلى الصحراء اخترق متطوعوها حدودا وهمية لاستعمار إسباني في سادس نونبر ألف وتسعمائة وخمسة وسبعين. تبين من خلالها للعالم عزم المغرب استرجاع أراضيه، ومن ثمة لإسبانيا التي قبلت بمفاوضات انتهت باتفاقية نونبر من نفس السنة، حيث تم جلاؤها عن المنطقة تحت الضغط بتسليمها للسيادة المغربية. وعليه، كان حدث المسيرة الخضراء التاريخية ونداء الوطن هذا من أعظم ملاحم مغرب الاستقلال وفترة سبعينات القرن الماضي.

 

ويسجل أن من أوراش مغرب الاستقلال أيضا ما ارتبط ببداية الألفية الثالثة بمناسبة الذكرى الخمسينية لهذا الحدث، حيث تقرير خمسين سنة من التنمية البشرية وآفاق سنة ألفين وخمسة وعشرين. تقرير بقدر ما استهدف وضع حجر أساس لمشروع تشاركي وفق ما يجب من رأي ومقترح وتأمل ودراسة ونقاش، بقدر ما استهدف تقويماً استرجاعياً لمسار تنمية بشرية منذ استقلال البلاد مع استشراف آفاق هذا الورش. ولعل هذا التقرير كان حصيلة عمل باحثين وخبراء وسياسيين واكاديميين، لتشخيص ما هناك من صعاب وتحديات وسلبيات تخص صناعة القرار كذا مصداقية علاقة بين سلطة ومواطن. وكان هذا التقرير قد توجه بالعناية لتجاوز ما هناك من اختلالات تخص مجالات عدة، من قبيل رهان دمقرطة البلاد، كذا ما يتعلق بنموها الاقتصادي وتنميتها البشرية من تعليم وصحة وفقر وبيئة وقضايا هجرة وجالية بالخارج وغيرها.

 

وكان تقرير خمسينية الاستقلال قد تزامن مع تقرير لجنة انصاف ومصالحة، استهدف مسح أخطاء ماض تمثلت في انتهاكات حقوق الإنسان منها تلك التي تعلقت بسنوات الرصاص وأحداث ماي ألفين وثلاثة وما شابها من خروقات، ويسجل أن مما طبع تقرير الخمسينية هذا كونه بلور مشروعا ديمقراطيا حداثيا، انبنى على مفهوم جديد للسلطة وعلى تشارك في صناعة القرار، عبر آلية لامركزية وسياسة قرب مع اطلاق سلسلة مشاريع ذات طبيعة إنمائية. وقد اقتضى هذا الرهان مؤسسات تم إحداثها في هذا الإطار، من قبيل ديوان مظالم ومجلس استشاري لحقوق الإنسان وهيئة عليا لاتصال سمعي بصري، كذا مجلسا أعلى للحسابات ومعهدا ملكيا للثقافة الأمازيغية وغيره. دون نسيان أن هذا التقرير الاستراتيجي الذي طبع العهد الجديد من زمن الاستقلال، استحضر مفهوم الإمكان البشري باعتباره محركا أساسيا للتنمية البشرية بما هو عليه من ديمغرافيا وإرث ثقافي مجتمعي، مع أهمية الإشارة إلى أنه رغم ما يسجل عليه من نواقص يبقى في تقدير الكثير، وثيقة بقدر كبير من الأهمية في مغرب متصافح مع ذاته وماضيه من أجل مستقبل أفضل.

 

ومن نداءات وملاحم مغرب الاستقلال أيضا نجد ما هو دستوري، ذلك أن البلاد شهدت منذ استقلالها عدة مراجعات دستورية تكريسا لِما عرفته من تحولات. ولعل آخر مراجعة تلك التي ارتبطت بحراك مغربي كان محفزا لإطلاق دينامية مجتمعية جديدة، تفاعلا مع منسوب وعي اجتماعي شعبي بقضايا الشأن العام. وعليه، شكل الخطاب الملكي لتاسع مارس ألفين وأحد عشر أرضية لتعديل دستوري شكلا ومضمونا. وكان ما شهده المغرب إثر هذه البادرة السياسية محط عناية مراقبين، باعتباره حالة استثناء بالمنطقة العربية والمغاربية كتجربة جديرة بالدراسة والتحليل.

 

ورغم تعدد تعديلات المغرب الدستورية منذ الاستفتاء على أول دستور عام ألف وتسعمائة واثنين وستين، يبقى دستور ألفين وأحد عشر الأكثر سعة وعمقا. ذلك أنه اعتبر بشمولية ارتكزت على مكونات أساسية في إطار ثوابت، منها تكريسه لتعدد هوية البلاد الوطنية وترسيخه لدولة حق وقانون ومؤسسات وحريات فردية وجماعية، كذا ارتقائه بالقضاء إلى سلطة مستقلة مع توطيد مبدأ فصل السلط وتعزيز آليات تأطير المواطنين من خلال دور الأحزاب ومكانة المعارضة وفعل المجتمع المدني، فضلاً عن تقوية آليات تخليق الحياة العامة وربط المسؤولية بالمحاسبة ودسترة هيئات الحكامة الجيدة وحقوق الإنسان وحماية الحريات.

 

ولا شك أن دستور ألفين وأحد عشر رغم ما أحيط به من قراءات، يشكل نقلة ذات أهمية، لِما جاء به من مقتضيات مع ما شكله أيضا من لبنة في مسار انتقال ديمقراطي. فقط ما ينبغي من تسريع لوتيرة اشتغال وترافع لتفعيلها، عبر إشراك فاعلين كل من موقعه لبلورة سياسات عمومية وكسب رهان دولة حق وقانون وتطوير ديمقراطية تشاركية، مع ما يمكن أن يسهم به في هذا الإطار فعل مجتمع مدني شريك.

 

بعض فقط مما طبع مغرب الاستقلال من ملاحم ونداءات بمناسبة احتفاء الشعب المغربي بذكرى عيد الاستقلال، الذي يعود إحياؤه لسنة ألف وتسعمائة وخمسة وخمسين تاريخ عودة السلطان محمد بن يوسف من منفاه. حدث تاريخي يعني نهاية كفاح مرير منذ فرض الحماية على البلاد مطلع القرن الماضي، بعد معارك وطنية ومقاومة مسلحة بجميع جهات البلاد تكللت بانطلاق عمليات حيش التحرير التي عجلت باستقلال البلاد.

 

عبد السلام انويكًة، عضو مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث