الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

خالد فتحي: نقاش هادئ مع رافضي جواز التلقيح(1)

خالد فتحي: نقاش هادئ مع رافضي جواز التلقيح(1) د/ خالد فتحي
إذا طالعت بعض التدوينات والتعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي حول جواز التلقيح، قد تعتقد أنك في بلد غير المغرب، بلد يعرف سمعة سيئة للتلقيح واللقاحات، قد تظن نفسك مثلا في بلغاريا التي يمشي فيها التلقيح مشي السلحفاة، مما كان السبب المباشر في نكبتها الوبائية الحالية،
أو في روسيا التي يعزف سكانها عن اللقاح، والتي وصلت بالكاد 30% من التغطية اللقاحية، رغم أن عاصمتها موسكو بلغت ذروتها التاريخية من الإصابات والوفيات، ورغم أن صوت بوتين قد بح من الصراخ أن سبب المأساة الكورونية ببلده هو عدم الإقبال هذا على التلقيح.
تفرك عينيك جيدا، فتجد أن هذه التدوينات باللغة العربية، فتستوثق أنك فعلا في المغرب. تهرع لتعيد النظر في واقع الحال وفي الارقام التي تعلنها المملكة بخصوص الوباء، فتجدها على النقيض مما توحي به وسائل التواصل الاجتماعي هذه الأيام.
هناك الآن 24 مليونا من المواطنين قد تلقوا بالفعل الجرعة الأولى، وهو ما يعني 80% من الفئة المستهدفة، و22 مليونا آخرين استكملوا التلقيح بالجرعة الثانية، وهناك مليون مغربي قد قبلوا أن يعيدوا الكرة، وتلقوا الجرعة الثالثة.
مظاهرات هنا وهناك، واحتجاجات وتنديدات ينقلها لما الإعلام من طرف عشرات من الممتنعين عن التلقيح يلعب الفايسبوك ويوتيوب دور مكبر الصوت لها. هؤلاء المحتجون الجدد الذين لم نكن نتخيلهم منذ شهور فقط، والذين قد خرجوا من جبة كورونا يعلنون أنهم ضد جواز التلقيح وليسوا ضد التلقيح.
لكنهم في الحقيقة إنما يشككون في اللقاح، الذي يرفضونه في قرارة أنفسهم، والحال أن التشكيك في اللقاح لا يكون الا بالأدلة العلمية وبالدراسات المحكمة، وليس هو بالتأكيد بمسألة تظاهر واحتجاج وتدرع بالمظلومية.
أغلبية المواطنين مع اللقاح، هذه الأغلبية تعتبر أن الحياة الآن قد تغيرت كما ظلت تتغير دوما عبر التاريخ، وأن الدخول للأماكن العامة أصبح يقتضي جواز تلقيح.
قوة هذه الأغلبية أنها عملية براجماتية واثقة في حسن نوايا السلطات، وفي نجاعة خططها التي أتت أكلها لحد الآن، لكن سمتها الاساسي أنها صامتة لأصوت لها حتى أنها لتكاد تفقد مع تعالي صوت الاحتجاجات إيمانها بالحجج العلمية الدامغة التي جعلتها تتوجه طواعية نحو مراكز التلقيح،
من الواضح للعيان أن الرافضين للجواز ليسوا مجموعة متجانسة ،إذ منهم المتقاعسون فقط الذين ظلوا يؤجلون التلقيح إلى أن حل بهم الجواز، ومنهم المترددون الذين لم يحسموا امرهم من كثرة الأخبار الزائفة التي ابدع فيها كل من الفايسبوك وتويتر وانستغرام، وكانت تلزمهم هاته الرجة التي شكلها الجواز للقطع مع هذا التردد المميت، ومنهم المرضى الذين لم يتلقوا المعلومات الكافية كأولئك الذين يخلطون بين الحساسية العادية التي لا تمنع التلقيح وصدمة الحساسية التي تتطلب التلقيح باحتياطات أكبر، وهناك بطبيعة الحال الذين ينكرون أهمية التلقيح ممن تعشش في عقولهم نظرية المؤامرة... أصحاب التفكير الخرافي غير العلمي، هؤلاء لا تنفك تنجو منهم أمة من الأمم سواء كان ذلك في الماضي او في الحاضر او في المستقبل ،وهم يتوزعون بطبيعة الحال على جميع الفئات المجتمعية من أميين ومتعلمين وحتى من أصحاب الشواهد العليا. فالتفكير العلمي هو اسلوب ونمط حياة وربط للنتائج بالأسباب، وليس شهادة علمية ودكتوراه، لقد كان هذا أيضا مما استخلصته من دروس كورونا التي لا تنتهي حين صادفت أطباء وصيادلة وعلماء بيولوجيا ومهندسين يتحدثون عن اللقاح والتلقيح كيا أيها الناس. ثم هناك الفئة المظلومة وسط هذا الجدل الصاخب أصحاب الموانع الحقيقية الذين يتحرقون للتلقيح ولا يجدون له سبيلا، والذين تختلط بهم كل تلك المجموعات التي ذكرت، فتضيع وجاهة مطلبهم وسط كل هذا الصخب، هذه الفئات يقر لها الخبراء أنها الاستثناء الوحيد لعملية التلقيح الذي يؤكد القاعدة التي يسعى لتحقيقها تعميم الجواز في أن حياة المرء فوق كل اعتبار، إذ ينبغي التجاوز عنه أية حالة العذر القاهر.
ولكن من يشرح لي قبل أن انهي هذه السطور، لماذا يرتفع الإقبال على اللقاح لدى الشيوخ والمسنين ويصل إلى نسبة 100% ، وينخفض الى مستويات متدنية في صفوف من هم بين35 و45 من العمر؟؟؟.حتما لا يكمن السر في أن الحرية لصيقة او مطلب للشباب أكثر مما هو للشيوخ، بل هي فقط الانانية التي تجعل فئة من السكان تعتقد أنها بفضل شبابها وقوتها الفسيولوجية بمنأى عن المرض، الذي هو في رأيها شأن ومشكلة الاخرين، فتحل نفسها من واجب حمايتهم عن طريق المساهمة في تحقيق المناعة الجماعية. وهذا موقف غير صحيح من الناحية الطبية، خصوصا مع استهداف السلالات الجديدة لمن هم أصغر سنا.
دعونا نقول أيضا أنه ربما كان فرض الجواز متسرعا قليلا، لأنه لم يترك فسحة من الوقت بين الإعلان عن القرار، والشروع في تطبيقه، هذا ما فعلته مصر التي منحت مهلة 15 يوما للموظفين وشهرا للمواطنين، ولكن ربما هو ظهور المتحورة الفرعية لسلالة دلتا ببريطانيا وعدد من الدول الأوروبية من أجبر السلطات لدينا على مثل هذه السرعة القصوى، فكورونا فيروس المفاجآت، والمغرب كما يقدر المسؤولون ليس من مصلحته التخلي عن سياسته الاستباقية الناجعة في المواجهة معه.
في رأيي كان من الواجب أن تعلن السلطات عن نيتها إصدار مثل هذا القرار عندما تلقح لديها أكثر من نصف المجتمع(18 مليونا من المواطنين)، وتعطي آجالا معقولة للبدء فيه، ولكن ربما لم يكن لها آنذاك المخزون الكافي لمواجهة الطلب المفترض، الآن هناك 16 مليون جرعة متوفرة، والمغرب اقتنى62 مليونا التي كانت الدولة قد وعدت بها الشعب ولذلك هي ترى أنه حان الوقت لتلعب بخصوص اللقاح على الأقل دور الدولة الاجتماعية المطلوب منها كاملا بعد أن توفرت لها كل شروطه ومن ضمنها تصنيع اللقاح محليا خلال المدى القريب جدا.
ثم إلا نتذكر جميعا تلك الانتقادات التي كالها المغاربة للحكومة عندما تعطل مجيئ الجرعات أول مرة؟؟؟ يجب أن لا تكون ذاكرتنا قصيرة، وعندما نحتج يجب أن نستحضر كل المسار والاوقات العصيبة للجائحة منذ جاءتنا عبر اول حالة من ايطاليا.
إنه عندما أستقبل سيلا عارما من المكالمات من أصدقائي، وابنائهم ومن الجمهور بعد قرار تعميم اعتماد الجواز، يطلبون رأيي في أيها أفضل اللقاحات، أتعجب من بعضهم كيف أنه تأخر كل هذا التأخر الذي لم أكن اتوقعه.
لكني اجيبه وأرشده وأبدد بعض مخاوفه، ثم تتبدد مخاوفي أيضا حين أكتشف أن السبب الحقيقي لعدم تلقيح اغلبية هذه الخمسة مليون ونصف مواطن الذين نتمنى استقطابهم لمراكز التلقيح لم يكن انكارهم لأهمية التلقيح، إنما قد كان هو التكاسل فقط.
نحن إذن بصدد أقلية رافضة صغيرة جدا ضمن أقلية أكبر لم تتلقح .
هذه الفئة هي التي علينا أن نحاورها ونقنعها بأهمية التلقيح. ولكن لا ينبغي ابدا أن نسقط في فخ عدم التشريع وعدم اتخاذ القرارات وفق مصلحة الغالبية من المواطنين.
فاذا كانت المظاهرات والاحتجاجات علامة على الديمقراطية التي تعني الاستماع لكل الاصوات، ففي الأخير ينبغي الرضوخ جميعا لقرار الأغلبية. هذه هي الديمقراطية في جوهرها، وهذا هو المعنى الحقيقي للحرية.