السبت 20 إبريل 2024
فن وثقافة

ذاكرة "أَتَايْ بْلَادِي" عشق مغربي لـ "اَلصِّينِيَّةْ" و "اَلْبَرَّادْ" و "كِيسَانْ حَيَاتِي"

ذاكرة "أَتَايْ بْلَادِي" عشق مغربي لـ "اَلصِّينِيَّةْ" و "اَلْبَرَّادْ" و "كِيسَانْ حَيَاتِي" إعداد الشاي عند المغاربة من أهم لحظات فتح النقاش والدردشة في مختلف مواضيع جدول أعمال الأسرة سواء في المدينة أو البادية
الإحالة على مشروب "أَتَايْ" وطقوس ثقافة الشاي المغربي الموغلة في التاريخ البعيد، لا يمكن أن نمُرّ على إثرها مُرور الكرام دون أن نُشَنِّفَ مسامعنا طربابأغنية "أَتَايْ بْلَادِي" الشعبية والأصيلة التي أرَّختْ بأبياتها الشعرية /الزجلية إبداعا متكامل الأوصاف، مجموعة السهام هذا المشروب التراثي الجذاب بطعمه، والساحر بنكهته، حيث نجحت ذات المجموعة المتميزة في تصويرو وصف طقوسه ومكوناته وعُدَّتِهْ ، وطريقة إعداده، وسِحر جَلْسَةْ "اَلَّلمَّةْ" العائلية في حضرة "اَلْبَرَّادْ" و"اَلصِّينِيَّةْ" مع تناغم صوفي موسيقي عريق بتقاليد وعادات "مَوَاسِمْ" المجتمع المغربي.
 
تقول أبيات أغنية "أَتَايْ بْلَادِي"
تْعَالَ، تْعَالَ، تْعَالَا، وَتْعَالَ تْعَالَا، تْعَالْا
تْعَالَتَجْمَعْنَا اَلنَّسْمَةْ ثَانِي
أَتَايْ وَاَلنَّغْمَةْ مْعَانِي
وَأَتَايْ اَلْحَبَّةْ غْوَانِي
تْكُونْ لُخْزَايَنْ وَاقْفَةْ
وَتْكُونْ اَلْبَابُورَاتْمْصَافَّةْ
هَذَاكْ أَتَايْ، أَتَايْ بْلَادِي
تْكُونْ اَلرُّزَّةْ وَافْيَا
وَتْكُونْ اَلتَّشْحِيرَةْدَافْيَةْ
تَاعْ اَلسَّرْوِيَّةْ وَرْكُوبْ اَلْخَيْلْ
وْلِيدِي، وْلِيدِي، وْلِيدِي
وَيَبْقَى أَتَايْ مَنْ جِيلْ لْجِيلْ
نَحْكِيوْمْعَاهْ تَارِيخْ طْوِيلْ
اَلْـﯕـَعْدَةْمَكْمُولَةْ وَاَلْكَاسْ خْلِيلْ
رَاهْ اَلصِّينِيَّةْ جَايَّنَا هْدِيَّا
رَاهْ اَلصِّينِيَّةْ جَامْعَنَا بِالنِّيَّةْ
هَذَاكْ، أَتَايْ، أَتَايْ بْلَادِي
 
نوستالجيا: من وحي ذاكرة "تَعْمَارْ أَتَايْ" في حضرة "مُولْ اَلصِّينِيَّةْ"
كان عَقْدْ اجتماع "اَلَّلمَّةْ" حول صينية إعداد الشاي عند المغاربة من أهم لحظات فتح النقاش والدردشة في مختلف مواضيع جدول أعمال الأسرة سواء في المدينة أو البادية، بل كان يعتبر حرص رب الأسرة على إقامة جلسة الطقوس الإحتفالية لإعداد الشاي بشكل دوري (ثلاثة مرات في اليوم) مؤشر مهم على أن الأجواء العائلية يسودها الإحترام والإنضباط والإطمئنان وخصلة التضامن، بعيدا عن كل ما من شأنه أن يقلق ويُنغِّص الحياة بين أفرادها، على اعتبار أن تلك الجلسات الحميمة هي مناسبة يومية للتواصل ومراقبة وتشخيص نبض رابط الوضع العاطفي بين مكونات "اَلْبَيْتْ" و الحرص جدّا على توزيع المهام وتحيين الأدوار على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية والتربوية والإنسانية.
 
التحلُّق حول صينية "أَتَايْ" وسط فضاء "اَلْقُبَّةْ" تسبقه إشارات تنبيه إلى توقيت الجلسة الحميمية التي تؤثثها الأم "عْمَارَةْ اَلدَّارْ" بحركاتها ومواقفها الصّارمة،باعتبارها مكلفة بمهمة أصيلة متوارثة أبا عن جد، لا يستقيم نجاحها إلا بفتح النافذة الخشبية لـ "اَلْقُبَّةْ" وتشغيل زِرْ راديو "اَلْكُتُبِيَّةْ" أزرق اللون، عبر موجة أثير الإذاعة الوطنية لاستقبال أغاني الفجر الجميل، بعد تجديدهالنظافة الفضاء الرحب مع مطلع تباشير شمس الصباح ونسيمه العليل، على إيقاع صيحات الدّيك وتغاريد العصفور المقدس "طِيبِيبَطْ".
 
تَشَمِّر الأم سَلِيمَةْ على ساعديها لنفض الغبار وكنسه، وإعادة ترتيب الأفرشة المعتادة بفضاء "اَلَّلمَّةْ" من (زَرَابِي وَلْعَابَنْ/حِيَّاكْ صُوفِيَّةْ وَحْرَاشَشْ، وَ هْيَادَرْ وَوَسَائِدْ..)،ثم تضع في ركن خاص بعناية فائقة "اَلْمَجْمَرْ" الطيني الذي يعانق رفيقه "اَلْمُقْرَاجْ" المعدني فوق لهيب ناره التي تُعَجِّلْ بـ "إِطْلَاقْ اَلسْبُولَةْ" وتصاعد البخار الناصع البياض، "هَا اَلْمَا طَابْ".
 
داخل غرفة "اَلْكُشِّينَةْ" التقليدية، تنكبُّ "اَلْحَادْﯕَـةْ" على تهيء مجامع اَلصِّينِيَّةْ، ولوازم إعداد الشّاي، حيث يسمع صوت رقص كِيسَانْ حَيَاتِي بعد تلميعهم، فوق الصينية النحاسية أو الفضية المنقوشة بأجمل زخرفة أنامل الصانع التقليدي المغربي (الفاسي)، وتضع قطع قالب السكر التي كسرت بـ "اَلزَّﯕْلِيزَةْ"الحديدية داخل "عْمَايَرْ" السُّكر وبجانبها أخرى مخصصة لحبوب الشَّاي ونبتة النعناع التي تملأ رائحتها أرجاء الفضاء.
 
إنه العمل اليومي المعتاد،السهل والممتنع، الذي تقوم به كل أمهاتنا الكادحات منذ زمان بكل إتقان و عشق، بعد إخراج عجين خبزها من "اَلْخَبَّازْ" ووضعه بعناية في "طْبَـﯕْ" اَلدُّومْ بجانب صحون الزيت والسمن وبعض ما تبقى من مكسرات وفواكه جافة، في انتظار قدوم "رْكِيزَةْ اَلْخَيْمَةْ" الأب (الفلاح والعامل والحرفي والصانع...) الذي تنتظره مهمة ومسؤولية افتتاح جلسة "تَعْمَارْ أَتَايْ" بطريقته الأصيلة التي يتابع مراحلها بشغف الأبناء والبنات.
 
عبق التاريخ يفوح برائحة "أَتَايْ بْلَادِي"
حسب مجموعة من الوثائق التاريخية، فإن الشّاي دخل عبر بوابة قصر السلطان العلوي المولى إسماعيل، وانتقل استعماله من الخاصة إلى عامة الناس وانشتر بالبادية المغربية التي رافق ساكنتها كوجبة أساسية تُرْفَقُ بالخبز والزيت وأطعمة أخرى جد متواضعة. وتشير بعض الوثائق التاريخية أنه: "في ثلاثينيات القرن التاسع عشر انعتق الشّاي من حِصْنِ دار المخزن، وبدأ ينتشر لدى العوام في المدن، ثم انتقل إلى البوادي... وفي مستهل القرن العشرين دخل الشّاي معظم البيوت المغربية". و تسجل ذات الوثائق أن عُدَّةْ و لوازم إعداد الشّاي كانت منعدمة لدى العامة بالقول: "حتى في القرى والبوادي كانت لوازم الشاي وعدّته لا تتوفر إلا في منازل قليلة ومعدودة، وخصوصا في دار المخزن، وعند الأعيان،وزعماء القبائل...)".
 
وتضيف وثائق تاريخية أخرى موضحة بأن"السلطان المولى الحسن الأول عَمِدَ إلى تقديم الشّاي والسكّر والأواني الفضية كهدية لرؤساء وزعماء القبائل الذين يرفضون الخضوع لسلطته أو يترددون في إعلان ولائهم، وسرعان ما أتت هذه السياسة أُكلها وبسط السلطان نفوذه على هذه القبائل دون حروب، وإنما اعتمادا على قوة طعم الشّاي".
 
جلسات لَحْبَابْ في حضرة مْجَامَعْ الصينية و "رْبَايْعْ" السكر والشاي والنعناع
"اَلصِّينِيَّةْ" الفضية أو النحاسية التي بَرِعَ في صناعتها وزخرفتها اليهود المغاربة تعتبر عمود طقوس إعداد وتقديم "أَتَايْ بْلَادِي"وترمز إلى "لَمَّةْ لَحْبَابْ" حيث تُصَفَّفُ فوقهاكؤوس حياتي التي يزيد عددها على عدد الضيوف، بشكل هندسيـ نصف دائري ـ متناغم مع قطر الصينية التي يتوسطها "اَلْبَرَّادْ"،بالإضافة إلى صينية صغيرة الحجم تُوضع عليها ثَلَاثُ "عْمَايْرْ/اَلرْبَايْعْ" تحتوي على مواد الشّاي والسكّر، فضلا عناَلنَّعْنَاعْ و يمكن إضافة نباتات عطرية مختلفة حسب الذوق مثل نبتة "اَلنَّعْنَاعْ اَلْعَبْدِي" أو "فْلِيُّو" أو"اَلشِّيبَةْ" أو"اَلْوِيزَةْ" أو "مَرْدَدُّوشْ"أو "زْهَرْ اَلَّليْمُونْ" وحتى نبات "اَلزَّعْتَرْ".
 
مع مرور الزمن، أضحى "أَتَايْ بْلَادِي"، طقسا شعبيا مقدسا ترسخ ضمن عاداتنا اليومية منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث احتلت أواني "َاَلْبَرَّادْ" و "اَلصِّينِيَّةْ" و "كَأْسْ حَيَاتِي" و "اَلْمُقْرَاجْ" و "اَلْمَجْمَرْ"، و "اَلطَّاسْ" و "اَلْحَسْكَةْ" مكانة خاصة ضمن تجهيزات "فِيتْرِينَا" المطبخ، بل أن "صِينِيَةْ أَتَايْ" أضحت جزء أساسيا من مظاهر الإحتفال وجلسات الأفراح والأعراس،بحكم أن مْجَامَعْ"رْبَايْعْ أَتَايْ" التي تفنن في صناعتها الصانع التقليدي تعتبر اليوم رمزا للكرم والجود وحسن الاستقبال، ولا تكتمل جلسات السمر إلا بتشغيلها دون نقصان أو زيادة.
 
رمزية عُدَّةْ "مْجَامَعْ أَتَايْ" في حضرة "اَلصِّينِيَّةْ" تُعَدُّ من أقوى رموز وفخر الأصالة المغربية، بحكم أن القائم على مسؤوليتها "مُولْ ا لصِّينِيَّةْ" يشترط فيه موسوعية المعرفة بأمور الحياة، وخَبِرَ التِّرحال والتِّجوال، والقدرة على الحكي والرواية الشّفهية، وملم بقضايا الناس ومشاكلهم المختلفة، ومتمكن من أمور الدين والفلاحة و التجارة، وقادر على إيجاد الحلول لأغلب القضايا الاجتماعية والإنسانية التي تطرح خلال الجلسة التي يترأسها نيابة عن صاحب "اَلْقُبَّةْ" الذي يكون عينا من أعيان القبيلة يمتاز بسخائه وكرمه.
 
من غرائب "أَتَايْ لَمْشَحَّرْ" على نار هادئة فوق لهيب نار "اَلْمَجْمَرْ" والذي يصب في "كُؤُوسْ حَيَاتِي" أصبح رديفا لطقوس تدخين "اَلسَّبْسِي وَاَلشْقَفْ" الذي يوضع في مقدمته مفروم "اَلْكِيفْ وَطَابَةْ" و استهلاك ملاعق "اَلْمَعْجُونْ" في بعض جلسات السّمر الخاصة التي يتبارى فيها ثلة من "اَلْمَبْلِيِّينْ" أثناء اللعب بالورق "اَلْكَارْطَةْ"، تلك اللعبة المفضلة التي عمرت طويلا في زمن الألعاب الشعبية.
ألم يبدع المغاربة مفردات غاية في الغرابة ارتبطت بجلسات "أَتَايْ" حيث أطلقوا كلمة "اَلدَّكَّةْ" و "اَلتَّلْسِيقَةْ" في إشارة إلى ما يتبقى من قطرات أتاي الحلوة التي ترشف بعشق ويتذوقها لسان "لَمْكَايْفِي" مول السبسي بمهل بين الفينة والأخرى ليطفئ حرارة دُخَّانْ اَلْكِيفْ؟
 
أنماط غنائية ورقصات شعبية احتفالا بأصالة "الصينية والبراد"
إن ثقافة الشاي ورمزية "مْجَامَعْ أَتَايْ" في أوساط المجتمع المغربي متجذرة تاريخيا في الأوساط الشعبية، وتعتبر من أساسيات فن التبوريدة خلال المواسم حيث أن لَمَّةْ الفرسان لا يحلو الحديث فيها عن انتصارات سنابك الخيل والبارود إلا بإعداد أتاي من طرف "مْقَدَّمْ وَشِيخْ اَلرّْمَا" والتي يصدح فيها صوت فقهاء الطّلْبَةْ بقراءة آيات من القرآن الكريم.
 
وقد وثقت هذه الطقوس والعادات الجميلة أيضا عدة أنماط غنائية عصرية وشعبية وبدوية (فن العيطة وفن الملحون...)، في هذا السياق نذكر على سبيل المثال أغنية "اَلصِّينِيَّةْ" للمجموعة الرائدة ناس الغيوان والتي جاء في جزء من قصيدتها الجميلة:
(فْينْ اَلِّلي يْجَمْعُوا عْلِيكْ أَهْلْ اَلنِّيَّةْ، آهْ يَا اَلصِّينِيَةْ / دُوكْ اَلِّلي يْوَنْسُوكْ / فِينْ أَهْلْ اَلْجُودْ وَاَلرْضَى / فِينْ حْيَاتِي / فِينْ حُومْتِي وَاَلِّلي لِيَّا، آهْ يَا اَلصِّينِيَّةْ / وَاعَرْ بْلَاهْ، مَا سَاهَلْ عَشْقْ اَلْكَاسْ.../ وَاعَرْ بْلَاهْ، جَايْنِيبِغْرَامُو، وَاَلْعَنْبَرْ إِلَا يْجِي ﯕُدَّامُو، وَالنَّعْنَاعْ وَالشِّيبَةْ، آهْ يَا اَلصِّينِيَّةْ...).
 
ومن قَاعْ ذاكرة الغناء البلدي أغنية (وَتْكَلَّمْ يَا اَلْبَرَّادْ، وَنَارِي عْلَى اَلْبَرَّادْ اَلِّلي قَامُوهْشِي بْنَاتْ) ثم هناك بعض "اَلْبَرَاوِيلْ" من أغاني نساءالعونيات اللواتي تبرعن في وصف رمزية "أَتَايْ" ومْجَامَعْ الصينية والبراد والكيسان المصحوبة بصحون اَلُّلوزْ البلدي في إشارة إلى كرم الرجل وعشقه لجلسات السّمر الفني (الزوج والحبيب): "حَلْ اَلْقُبَّةْ أُو ﯕَالْ لِي دُخْلِي / حَطْ اَلصِّينِيَّةْ أُو لَبْرَارَدْجُوجْ / جَابْ اَلصِّينِيَّةْ و طْبَاسَلْ اَلُّلوزْ...."
 
في سياق متصل نجد أن الموروث الثقافي الشعبي التراثي المغربي زاخر برقصات فنية مختلفة تحيل على ذاكرتنا الجماعية، فهناك على سبيل المثال لا الحصر، رقصات حربية وقتالية مثل رقصة "لَمْكَاحَلْ"، ورقصات جمالية تتفاعل مع الموسيقى الشعبية بالجسد وحركاته السريعة والخفيفة مثل رقصة "اَلصِّينِيَّةْ" التي يضعها الراقص على رأسه وهي محملة بِعُدَّةْ أَتَايْ (اَلْبَرَّادْ واَلْكِيسَانْ واَلشَّمْعْ) في إشارة إلى مكانة "أَتَايْ" في حياة المغاربة، وهي لحظة تتعزز فيها أواصر الروابط التاريخية بين الشرق والغرب والجنوب والشمال من خلال تقديم أروع المشاهد التي يحتفل فيها الجمهور بـ "أَتَايْ بْلَادِي".