الجمعة 19 إبريل 2024
فن وثقافة

مذكرات امحمد التوزاني : تفاصيل إطلاق سراحي وأجواء الترهيب التي عانت منها عائلتي بتازة (6)

مذكرات امحمد التوزاني : تفاصيل إطلاق سراحي وأجواء الترهيب التي عانت منها عائلتي بتازة (6) المناضل امحمد التوزاني، وعبد الرحمن بن عمرو (يسارا)
 المناضل امحمد التوزاني.. سليل حركة التحرر المغاربية والعربية من مواليد سنة 1938 بتازة، حمل في المنفى 13اسما حركيا، من بينه خالد (بتسكين اللام) وحسن..صديق الروائي والقاص والصحفي الفسلطيني غسان كنفاني ورفيق درب المناضل الاتحادي المرحوم الفقيه البصري. ناضل بمعية وتحت قيادة الشهيد المهدي بنبركة وعبد الرحمان اليوسفي ومحمد باهي، وغيرهم..
التحق بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية في مرحلة التأسيس وتكلف ضمن اللجنة التنظيمية للمؤتمر بالجانب التنظيمي واللوجستيكي إلى جانب المرحوم مصطفى القرشاوي وفاضل الناصري وأحمد الخراص.
التقى أول مرة بالشهيد المهدي بنبركة عام 1962 حين كلف بمهمة استقباله بفاس والذهاب به إلى تاهلة ليؤطر تجمعا جماهيريا كان قد هيأ له الفرع الحزبي هناك.
ساهم في تأسيس حركة الاختيار الثوري بعد انتقاله إلى باريس إلى جانب عبد الغني بوستة السرايري وأحمد الطالبي المسعودي رغم كفره بمغامرات قائده ومثله الأعلى محمد الفقيه البصري..
"أنفاس بريس" تنشر مذكرات المناضل امحمد التوزاني، والتي تسلط الضوء على حقبة مهمة من تاريخ المغرب السياسي...
 
 
أستاذ امحمد التوزاني، هل يمكن أن تقربنا من أجواء توديعكم من طرف جلاديكم بمعتقل بفاس ؟
قالوا لنا أن اعتقالنا كان في إطار مهامهم لحماية الوطن وأن التعذيب الذي تعرضنا له يقتضيه التحقيق، وهم فقط قاموا بتنفيذ التعليمات، وأنه يجب علينا أن نعتبر ما عانيناه هو خدمة لوطننا وملكنا و ممنوع علينا حكيه حين نخرج من المعتقل. أعطونا تذاكر سفر الى بلداتنا وأوصلوا بعضنا لمحطة القطار والبعض الآخر لمحطة الحافلات، وحرصوا على أن يصاحبونا حتى نقل وسيلة سفرنا، واشترطوا علينا أن نذهب مباشرة لبيوتنا ولا نحلق وجوهنا أو نأخذ حماما، أذكرك
 أننا لم نغيير ملابسنا طيلة مدة الاعتقال و لم نحلق شعرنا، حيث تدلت لحانا وأصبحت رائحتنا نتنة..
 
ماذا عن دخولك لتازة ؟ كيف استقبلتك العائلة والحزب والأصدقاء ؟
وصلت إلى تازة والليل لازال يسدل بستائره، قرعت باب منزلنا فجر يوم 27 شتنبر، ولم يظهر ضوء النهار بعد، كانت والدتي من فتحت الباب وهي ترتعش فوجدتني أمامها بينما لم تكن تتوقع ذلك..أصيبت باليأس هي و العائلة وظنوا أن عودتي وعودة أخي شبه مستحيلة، دخلت عليها بقميصي و سروالي الذي خرجت به مع بداية الصيف للمشاركة في الحملة الإنتخابية، كنت نتنا، أشعث الشعر، حزينا، تعانقنا بحرارة، ألتحق بنا باقي أفراد الأسرة، بكينا بحرقة وتألمنا من جور سلطات ظالمة.
عاد للعائلة بعض الأمل في أن يظهر أخي الذي كان لا يزال مختفيا وحكوا لي ما عانوه من اقتحام البوليس للمنزل وقلبه رأسا على عقب،  وحكوا عن ترههيبهم وحجزهم لصوري وصور أصدقائي وحجز جواز سفري ودفتر شيكاتي.
 
ظللت بالبيت ليومين متتاليين، تنظفت، و غيرت ملابسي، ونمت عميقا، وأكلت ملء معدتي، وتحدتث طويلا مع كل أفراد العائلة، وبعد يومين خرجت لأرى مدينتي وأرى أصدقائي وأرى العالم.
كل من التقيه من المناضلين الذين كانوا معتقلين معي بالكوميسارية بتازة هربوا مني، لا أحد منهم سلم علي، بعضهم غير طريقه، وبعضهم تجاهل رؤيتي..ثمة شيء ما في الأمر، فالعذاب و التعذيب والإغراء الذي تعرضنا له جميعا لم يكن سهلا، لقد ظن الجميع حينها أن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية قد انتهى إلى غير رجعة بتازة، بل بالمغرب كله، كل شيء يدفع الى اليأس و الخوف والرهبة، وكان مفروضا علي أن أزور مركز الشرطة كل اثنين.
 
وهل تحملت العيش في ظل ذاك الجو المشحون والرهيب ؟
أبدا، لقد كانت عائلتي تعاني و تخشى اعتقالي من جديد واعتقال أفراد العائلة الآخرين والجميع كان خائف أن يكون قد وقع مكروه لأخي محمد، لم نعد نعيش حياة عادية. سيارة والدي التي ذهبت بها للسوق لخوض الحملة الإنتخابية بقيت في المحجز الى اليوم. لقد اسودت الدنيا في وجهي و سدت كل الأبواب ولم يعد أمامي من خيار غير الانتحار أو الهرب حتى أخفف عن عائلتي ثقل الكابوس الذي أصبحت تعيش فيه، فكان أن طلبت من والدي أن يتركني أذهب للعراق لإتمام تعليمي العالي كي أنتقل من سلك التدريس بالإعدادي الى الثانوي لكنه رفض.
 
ولكنك في النهاية ذهبت للدراسة في بغداد، أليس كذلك ؟
كنت ذهبت أنا والوالد إلى مكناس في زيارة لخالي عبد الكريم الواضلي -رحمه الله- الذي كان مقاولا في مهنة النقش على الخشب، وهو من زين المحكمة الإبتدائية لمكناس في عهد الإستعمار الفرنسي، كما سبق له أن ذهب الى بغداد وساهم من موقع تخصصه في بناء جسر " لمسيب " الذي قال عنه ناظم الغزالي : " ألف رحمة على بيك.."
طلبت من خالي حديثا على انفراد، وحينما جالسته طرحت عليه موضوع سفري الى العراق، وهو من استطاع أن يقنع أبي بأن يتركني أشق طريقا الى المستقبل بعيدا عن السجون و المعتقلات، خصوصا أن وجهتي كانت بغداد التي لخالي بها ذكريات جميلة.
لقد قدم لي خالي خدمة كبرى لما أقنع الوالد، فقراري كان نهائيا بالمغادة و كنت أريد الذهاب لمكان خارج البلد بإرادة والدي، ففي ثالث اثنين زرت شرطة تازة قررت ألا أعود إلى ذاك المركز مرة رابعة ولو اقتضى الأمر أن أغادر الحياة.
 
هل كان من السهل المغادرة لإتمام تعليمك ببغداد وأنت تحت المتابعة الأمنية ؟
لم يكن سهلا، لكن لم يكن مستحيلا، فالمخزن كان لا يزال منشغلا بالمعتقلين في السجون السرية، وكانت دار المقري وغيرها لا زالت مليئة بالمعتقلين ..الإجراءات بالمطارات والموانئ..لم تكن مستوى التطور والدقة التي هي عليها اليوم، وسلطات تازة التي تتابع وضعي كانت قد حجزت جواز سفري، غير أنني كنت قد هيأت جواز سفر آخر بعلاقاتي الخاصة وكان يوجد بالمنزل الذي كنت اسكنه بالدار البيضاء رفقة زملائي أساتذة التعليم الإعدادي.
 
هذا يعني أنك وضعت خطة دقيقة للمغادرة صوب العراق ؟
لا..لم تكن دقيقة، ولم يكن العراق الخيار الوحيد، ذاك فقط كان تبريرا كي أغادر البيت وتازة، وحتى أخفف الضغط على أسرتي، أما في حقيقة الأمر فلا شيء كان مضمونا، القرار المضمون هوالهرب من الإرهاب الى فرنسا..الى الجزائر..الى العراق..الى الحياة الآخرة ، لا يهم.. لكن الخطة رقم واحد هي أن أجرب حظي في محاولة الوصول الى بغداد.
 
كيف تأتى لك ذلك ؟
انتقلت إلى الدار البيضاء، أخذت أجرتي عن الشهرين الأخيرين كأستاذ وحملت جواز سفري وذهبت للخطوط الجوية الملكية، وطلبت تذكرة سفر لنفس اليوم لأن البقاء بالمدينة يوم آخر قد يعرضني لمشاكل أمنية في منتهى الخطورة، ولأن يوم 17 اكتوبر 1963 لم تكن مبرمجة أية رحلة ركاب..استقليت طائرة لحمل الورود، افترشنا أرضيتها بلباسنا الأنيق نحن أربعة أو خمسة افراد، وقد كانت الوجهة باريس و ليس بغداد.