الجمعة 26 إبريل 2024
مجتمع

"العزيز" الذي حول السجن إلى فضاء للحرية والمعرفة واستحق أن يكون سفيرا ثقافيا

"العزيز" الذي حول السجن إلى فضاء للحرية والمعرفة واستحق أن يكون سفيرا ثقافيا جانب من اللقاء
مع بزوغ الخيوط الأولى لأشعة شمس صباح شتنبر من يومه الرابع لسنة 2021، وهي تبسط نورها الساطع على مساحة السجن المحلي بحاضرة المحيط/ أسفي،(مع بزوغها) كانت عيون لجنة التنسيق المسؤولة عن استقبال الأستاذ عبد العزيز مؤمين متجهة نحو بوابة السجن في انتظار خروج فلدة كبد عائلة الحاج صالح مؤمين المتقاعد الفوسفاطي، التي كابدت وعانت مدة 30 سنة، متمسكة بخيوط الأمل والحرية لإبنها (ضابط الصف سابق في الجيش المغربي تخصص هندسة مدنية).
استعادتي لشريط مسار الرجل/المؤسسة، والذي تنقل بين عدة سجون من أجل المعرفة والتحصيل العلمي والتكوين والمساهمة في الأنشطة الثقافية والفنية والإجتماعية، قلت علانية بعد أن وضعت نفسي مكان الرجل البهي: "نعم، داخل أسوار السجن ما يستحق الحياة والتضحية، ولو كان الحكم بالمؤبد وَحُوِّلَ بعفو يتيم إلى ثلاثة عقود...فقد راهن الرجل على التحدي ضد المستحيل من أجل استعادة رائحة الخبز والقهوة، واستعادة حضن أمه وأبيه وإخوته وأخواته وأصدقائه...نعم، أول الحب ذكريات مدينتي المنجمية ورائحة مناجم الفوسفاط وبقايا عظام أسماك ضخمة، وضجيج قطار فوق جسر القنطرة دون نسيان إيقاعات مجموعة الشهاب و ترانيم آلة البانجو لكي تنسج خيوط الأمل وتفتح كوة ضوء في جدار الحرية...وَلِمَ لَا؟".
 

مرفوع الهامة كان يمشي عزيزنا متجاوزا باب السجن، بقميص ناصع البياض يعكس نور شمس الحرية، ابتسامة عريضة بحجم البحر تطارد تجاعيد 30 سنة خلف الأسوار، كان العناق حميما واَلْقُبَلْ تفوح عطر الياسمين والقرنفل، وامتزجت دموع الفرح بضحكة رجل هزم السجن وحوله إلى مساحة لصناعة الأمل.
لسنا هنا والآن لاسترجاع وجع وألم وجراح التهمة المفبركة والمطبوخة، والتي قرر فيها القضاء حكمه بالإعدام ثم المؤبد ويليه حسم نهائي لمدة 30 سنة بالتمام والكمال (من يوم 4 شتنبر 1991 إلى يوم 4 شتنبر 2021). لكن عبد العزيز قرر أن يتحدى هذا الزمن الروتيني بسلوكه وطبعه وأحاسيسه ويحول مساحات السجن ومرافقه إلى قاعات للدرس والتحصيل والتكوين والأنشطة لفائدته وفائدة السجناء.
 

في هذا السياق قال الأستاذ عبد العزيز مؤمين لجريدة "الوطن الآن" مباشرة بعد أن احتسى كأس شاي في أحضان اليوسفية بين ثلة من الرفاق والزملاء والفعاليات المدنية والجمعوية: "انتقالي للسجن المحلي بمدينة أسفي شكل لي منعطفا رائعا، وفتح لي نقطة ضوء في مساري العلمي والمعرفي والثقافي والإجتماعي، وتمكنت من تحقيق حلمي لأكون قدوة في ترجمة مفهوم إعادة الإدماج وراء الأسوار وفي محيط اَلْأَسْرْ محليا ووطنيا" .
أول عمل سيقوم به عبد العزيز هو تحويل قاعة تعليم الهندسة المدنية إلى ورشة لتكوين النزلاء على اعتبار أنها كانت تخصصه "اكتشفت قاعة جميلة تحتوي على كل شروط التعليم ومجهزة أحسن تجهيز بوسائل الإشتغال في ميدان وظيفة ومهنة الهندسة المدنية التي عشقتها، فقررت أن أباشر تكوين النزلاء لمدة سنتين. وأحسستهم بأنهم خارج السجن ويتابعون تكوينهم بمؤسسات التكوين المهني خارج الأسوار. وتخرج على يدي فوجين خلال المواسم الدراسية (92/93 و93/94 ثم 94/95 و 95/96 )".
بفضل مدير المؤسسة السجنية والمشرف الاجتماعي استطاع عبد العزيز أن ينخرط في التعليم غير النظامي داخل سجن أسفي وتقريب التعليم اليومي من المعتقلين والسجناء (ابتدائي وإعدادي والثانوي) حيث باشر عمليات الدعم لكل الراغبين في ذلك طيلة السنة وتدرج العديد من النزلاء في العملية التعليمية بحب وشغف "أحسست أنني أسير في الطريق الصحيح وشعرت بأنني دخلت في مصالحة ذاتية لأنني كنت أحب فعل الخير لنفسي وللآخرين". لذلك يضيف قائلا عن أسباب نجاح مساره داخل السجن: "لقد استطعت استثمار كل نقط القوة في وجودي ككيان يفكر، وقمت في نفس الوقت بتنمية ذاتي على مستوى نقط الضعف التي صقلتها وطورتها". 
وأكد ضيف الجريدة بأنه بفضل الإدارة تمكن من "إعطاء دروس في محو الأمية لمجموعة من الحالات التي كانت لا تعرف لا الكتابة ولا القراءة، و واكبها بالتدرج من مستويات الإبتدائي والإعدادي والثانوي ثم الجامعي إلى أن حصلوا على الإجازة في القانون.."
من جهة أخرى قرر عبد العزيز في بداية تنفيذ عقوبة السجن (30 سنة) أن يضيف لسيرته الدراسية شهادة البكالوريا شعبة الأدب، لأنه كان علميا، و لا يتقن اللغة العربية التي كان يتلمس عالمها الجميل، وانضبط لحضور دروس اللغة العربية عند أساتذة آخرين علما أنه كان يقوم بتدريس عدة مواد علمية لفئات أخرى، وكذلك كان بعد ثلاثة سنوات متتابعة ليظفر بشهادة البكالوريا أدب سنة 2001 بمعدل جد مشجع (15 على 20 ).
 

بتنسيق مع الإدارة السجنية يضيف الأستاذ عبد العزيز "تم إحداث عدة شعب، مثل شعبة البناء وشعبة كهرباء البناء والترصيص والبناء بالموازاة مع شعبة الخياطة والفصالة التي كانت تجمع بين التكوين وإنتاج حاجيات المؤسسة السجنية (بدل، أفرشة ..)، علاوة على شعبة البناء متعدد الكفاءات..". هكذا بدأت معالم النجاح ترسم أفقها وإشراقاتها الجميلة "لقد تحول السجن في عيني إلى مرفق عمومي واجتماعي وتواصلي ...لأنني كنت أشعر كمعتقل له كرامة وكينونة ويحس أنه ينتج ويبدع بحرية ودون قيود تحد من تطلعاته المستقبلية".
بعزيمة وإرادة قوية خلال سنة 99/2000، قرر المعتقل عبد العزيز أن يقتحم بوابة الدراسة كطالب جامعي يتابع التحولات التي يشهدها المغرب، حيث يقول "اخترت دراسة القانون الخاص، وحصلت على الإجازة سنة 2005، بكل سهولة مدة أربع سنوات بعد قيامي ببحث الإجازة تحت إشراف أستاذ جامعي في موضوع علم الإجرام/ العوالم المؤثرة في السلوك الإنساني...لكنني لم أتمكن من متابعة الدراسة بالسلك الثالث لعدة اعتبارات موضوعية فضلا على أن التسجيل في الماستر يلزم إجبارية الحضور...خلاف ما نشاهده اليوم من تحولات وحقوق السجين ".
هذا الحدث الذي لم يستسغه المعتقل زاد من إصراره على العمل وتقديم الخدمة العمومية على مستوى الأنشطة الثقافية والفنية والإجتماعية "انخرطنا في إقامة ثمانية جامعات ربيعية (شهر مارس) وخريفية (شهر شتنبر) والتي عرفت نجاحا باهرا خصوصا أن فضاء سجن عرف تحولات جد مهمة لفائدة السجين الذي يتميز بالكفاءة والمعرفة الواسعة ورغبة في العمل".
وأشاد الأستاذ عبد العزيز مؤمين بعمل المندوبية العامة للسجون على مستوى الشق الإجتماعي من خلال فريق العمل المتميز على مستوى وضع وتنفيذ البرامج وتتبعها في أفق ترجمة مفهوم الإدماج "سنة 2013 انخرطت في ورشات ثقافية وفنية ورياضية تحت إشراف أساتذة أكفاء متخصصين، وأحببت العمل معهم ومرافقتهم، وحصلت في هذا الميدان على عدة جوائز سواء في الشعر الفصيح أو الزجل وكنت سفيرا ثقافيا لسجن أسفي بعدة سجون مغربية من خلال كتابة المسرحيات وإخراجها (إدريس الرخ) وتقديمها في أكبر المؤسسات الثقافية بالرباط (مسرح محمد الخامس) ". الجميل أن عبد العزيز يعتبر منتوجه في أدب السجون وخصوصا بعض القصائد كأبنائه وجزء من كبده بعدما حرم من نعمة الأبناء.
ومن أروع ذكرياته تلك التكريمات التي حضي بها في اليوم الوطني للسجين بمؤسسة السجن المحلي بأسفي باعتباره سفيرا ثقافيا وفنيا من خلال أعماله الشعرية والثقافية والاجتماعية والمواطناتية فضلا عن أوراش التكوين في مختلف الميادين و الشعب (عدة شواهد تقديرية وديبلومات).