- من حكم الإقامة بمنى:
"مساحة منى بحدودها الشرعية 16,8 كم2 بما فيها السفوح الجبلية والمنطقة السهلية المنبسطة، وتقدر مساحة بطن الوادي في منى بحوالي 4 كم، وهي تكاد تكون نصف المساحة الإجمالية للحدود الشرعية لمشعر منى، في حين أن بقية المساحة سفوح جبلية، تستأثر الطرق والأرصفة بحوالي 25% منها، في حين تقدر المساحة التي تشغلها الدوائر الحكومية والخدمات ب 15% منها. وبهذا يتضح أن المساحة المتبقية لنصب الخيام، وإيواء الحجاج في منى هي 5,2 كم2".
(أنظر البحث الماتع للدكتور عبد الوهاب أبو سليمان والدكتور معراج نواب، المنشور في مجلة البحوث الفقهية المعاصرة عدد (49)، تحت عنوان: "منى المشعر والشعيرة").
من الحكم الظاهرة المترتبة على الإقامة والمبيت في منى أيام التشريق مخالطة الحجيج -في فضاء محدود نصبت فيه خيم مكتظة- أربع ليال على الأقل، مما يوجب تحمل تقارب الأجساد، والصبر على أجواء الضوضاء، والتزاحم في الممرات والشوارع، وتعود الانتظار للنقل، وعند المرافق الصحية، وأثناء توزيع التغذية التي تكاد تقيم الأود، كما تحقق للحجاج قدرا من التعارف فيما بينهم، وإعطاء الفرصة لقياس أثر الحج على سلوكات كل منهم، ومدى انضباطه لقيم الدين، ومستوى تفهمه لأوضاع إخوانه في العالم من خلال معايشة عينة الحجاج الوافدة من كل فج عميق، وتخول له الاطلاع على أحوالهم، وعلى بعض عاداتهم في المأكل والملبس والحديث، وحتى منسوب المعرفة الشرعية لديهم؛ الأمر الذي يتيح للحاج إمكانية المقارنة بينهم وبين واقعه ليطلب المنافع ويحمل الذكريات، كما تعينه على توسيع مجال شعوره بإخوانه المسلمين... والتعرف أكثر على معادنهم بمن فيهم الرفقة القادمة معه من بلده، فما بالك بوفود العالم...
في منى يحيى الحاج أجواء الاجتماع على الذكر والدعاء، وقراءة القرآن، وحضور مجالس الخير التي تقدم فيها دروس التوجيه والإرشاد، فضلا عن الحفاظ على الصلوات في أوقاتها،...
تبقى منشأة الجمرات بعد كمال تشييدها أعظم إنجاز في المشاعر المقدسة اعتمدت فيها أعلى درجات السلامة والأمان، من خلال طوابقها الأربعة، ومداخلها المتسعة، وأحواض الرمي الثلاثة، بيضاوية الشكل التي يتوسط كل واحد منها شاخص عبارة عن حائط طويل، مع تجليد جوانب الأحواض التي يستند إليها الرماة...
ومن جميل الخطط التنظيمية منع عودة الحجاج من نفس الطرق الذي سلكوها إلى الجمرات، ليكون طريق العودة مسارا طويلا، خاصة يوم العيد عند التوجه لرمي جمرة العقبة الكبرى، ضمانا لعدم الازدحام والاصطدام؛ فهو الهاجس الأول والأخير الذي يسيطر على تفكير ومشاعر جهات التنظيم...
يستخدم عناصر الشرطة والجيش المسهمين في تنظيم أداء الحجاج للرمي أساليب تجعل نفوس الحجاج يقظة وحذرة منها استخدام منبهات السيارات والأضواء التي تعلوها بشكل مستمر، وإشراك عدد مهم منهم عند مواطن الزحام على شكل سلاسل متصلة، (في هذا الموسم جند مائة ألف عنصر لتأمين حركة الحجيج في المشاعر وفي المسجد الحرام)، مع تكرار كلمات وجملا تكاد تكون لازمة على لسان كل واحد منهم مثل: "تقدم يا حاج. لا تتوقف يا حاج". وغيرها مما يضمن انسيابية في حركة الحجيج تمنع عرقلة الحشود... ومن جميل فعالهم -تخفيفا من وطأة التوتر- القيام برش الماء البارد على وجوه الحجاج بمتعة بالغة وفرح غامر، في الممرات وعند الجمرات وفي ساحات الحرم، رغم وجود أعمدة المراوح التي تنثر رذاذ الماء في الطرق والساحات تلطيفا للجو...
ومن خططهم منع دخول الحافلات إلى منطقة الجمرات في أوقات معينة، مع الحزم في إجبار الحملات والبعثات على التزام نظام التفويج...
تتم تغطية أعمال الرمي بطائرات حوامة؟ مع اعتماد نظام مراقبة بالكاميرات يتحسس مواطن تجمع الحجاج من بعيد، ليتم تفتيت جموعهم المكتظة لتصل تباعا إلى منشأة الجمرات..
رميت بفضل الله تعالى جمرة العقبة في الدور الأرضي دون مشاكل تذكر، ورميت الجمرات الثلاث في اليوم الأول من أيام التشريق من الطابق الرابع استكشافا له..
المشكل الأكبر آت من سلوكيات الحجاج، وما يسيطر على نفوسهم من توجس وخوف وترقب، وعجلة قد تدفع أحدهم إلى اختراق الحشود في اتجاه أحواض الرمي دون تفطن إلى خطر ذلك؛ خاصة أن الأمر يتطلب هدوء، وسكينة، وتركيزا ..
عند التعجل يقع ضغط شديد على مسؤولي الحملات، وعلى سلطات التنظيم، فضلا عن الحجاج؛ غير أن عملية التفويج وتنبيه القادرين من الحجاج على خيار مواصلة سيرهم بعد الرمي راجلين إلى مكة عبر طريق المشاة ذي الأربعة كيلومترات تقريبا يسهم في سلاسة التعجل، ويترك الفرصة لمحاولة إدخال ما أمكن من حافلات لتقل العجزة والمرضى لمغادرة منى قبل الغروب حتى لا يلزمهم مبيت الليلة الثالثة..
ومما تجدر الإشارة إليه أن تطوير المنطقة المركزية بمكة المكرمة شمل توسعة المسعى عرضا بين الصفا والمروة، وتشييد بناية ضخمة بمرافقها المتعددة، وهندستها الفريدة في الجهة الشمالية الغربية، فضلا عن توسعة صحن المطاف حول الكعبة، هذا في المسجد الحرام. وفي محيطه شيدت أبراج وقف الملك عبد العزيز وفق طراز عال من العمارة، ضمت أسواقا ومطاعم ومواقف سيارات وفنادق سبعة يتوسطها برج ساعة مكة على ارتفاع شاهق،..
يضاف إلى ذلك مشروع تهيئة جبل عمر الذي أوشك على الانتهاء، ويضم هو الآخر فنادق مصنفة وأسواقا ومطاعم ومواقف سيارات...
يظهر من خلال عمليات الهدم للأحياء القديمة غرب الحرم وشماله، استمرار مشاريع تطوير المنطقة المركزية بمكة المكرمة حتى تتسع لاستيعاب حشود الحجاج والمعتمرين، وتوفير سبل الراحة لهم، بعد مسيس الحاجة إلى ذلك، ولو على حساب آثار مكة القديمة، لتزول جبالها وشعابها وأحياؤها وتنتصب مكانها أبراج حديثة، تتوفر فيها أنماط وصور من الترفه والراحة،.. وبرغم أهميتها إلا أنها تفقد الحاج الاستمتاع بالأجواء الروحانية التي صاحبت بساطة العمارة القديمة...