- العودة الى منى:
بعد مغادرتنا لمشعر مزدلفة، وصلنا عبر الحافلة إلى مخيمنا بمنى قبل ساعتين من الفجر، وضعنا أمتعتنا الخفيفة، ولم ننتظر طلوع الشمس للضعفة الذين معنا؛ فترخصنا وتوجهنا لمنشأة الجمرات العظيمة غربا في اتجاه مكة لرمي جمرة العقبة الكبرى الذي تم بحمد الله مع الأذان في الدور الأرضي، حلقنا وتحللنا سائلين الله تعالى القبول، ثم جددنا الوضوء وصلينا الصبح على عجل التزاما بخطط تنظيم حشود الحجاج التي تمنع التوقف، ثم قفلنا راجعين إلى المخيم عبر مسار مغاير للذي أتينا معه، كما هو معمول به تجنبا للزحام، فكان المسار طويلا جدا حتى إننا اضطررنا للتوقف الخفيف مرات عدة بسبب التعب الذي لحق نسوة كن معنا، بل إن إحداهن اضطرت لكراء عربة توصلها، وجئنا المخيم المخصص لوكالتنا من الخلف شرقا من جهة مزدلفة...
أغلب من معنا عاد إلى المخيم للراحة بعد حركة يومين، غاية في الإثارة على مستويات عدة منها النفسي والبدني والمعرفي... وقلة من الشباب اختاروا التوجه إلى مكة لأداء طواف الإفاضة والسعي بالنسبة للمتمتعين وهم الأكثر، وطواف الإفاضة وحده لمن أتى بالسعي مع طواف القدوم من المفردين والقارنين.
طواف الإفاضة يوم العيد مقترن بمظنة المشقة الشديدة للزحام الحاصل، وتأخيره لا حرج فيه ولا يترتب عليه شيء، المهم أن يؤديه الحاج قبل متم شهر الحج وقبل العودة إلى بلده، وقد يجعله متضمنا لطواف الوداع خاصة بالنسبة للمرأة التي جاءها ما يأتي بنات حواء حتى تطهر...
في المساء أسهمت بكلمة بطلب من مسؤولي الوكالة، ذكرت فيها بنعم الله السابغة علينا، ومنها بعد الإيمان بالله التمكن من شهود وقفة عرفة، وواجب الشكر المتعين، وضرورة استئناف حياة جديدة لكل حاج قوامها التوبة النصوح ولزوم الاستقامة، وقرأت فقرات من صفة حجة المصطفى صلى الله عليه وسلم من كتاب الدكتور عبد الوهاب الطريري: "كأنك معه"، تتعلق بهديه صلى الله عليه وسلم في أيام التشريق...
في مشعر منى يحضر التاريخ بتصور حركة نبي الله إبراهيم عليه السلام، وصده للشيطان الذي اعترض سبيله لمنعه من الثبات على منهج التسليم والانقياد لله تعالى حتى إنه صدق رؤيا ذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام، ولم يكن الابن بعيدا عن نفس المنهج أي التسليم والانقياد لله تعالى الذي هو لب العبودية، وهو شعار التوحيد الخالص، حين قال لأبيه: "يا أبت افعل ما تؤمر.." ولم يكن قول مجاملة من ولد لوالد بل مكنه من نفسه رضى بما عرض عليه وتصديقا للرؤيا، فجاء الفداء العظيم من الله تعالى... ولا يزال الموضع يحمل اسم الحدث: مجر الكبش...
وفي منى تتداعى الذكريات حيث شهدت فجاجها وشعابها دعوة النبي صلى الله عليه وسلم الأولى قبل بعض عشرة سنة من حجة الوداع، يوم كان يغشى قبائل العرب في مواسمها، ويدخل فجاج منى يدعوهم إلى الله، وقومه جرءاء عليه، يجاهرون بالكفر، ويبادرونه بالعدوان، ويتعاقدون على القطيعة...
وفي منى نذكر مواعدته عصبة من الأنصار، يتسللون إليه تسلل القطا، ليبايعهم على الهجرة مستخفيا من قومه أن ينذروا به،... فكانت بيعتا العقبة الأولى والثانية اللتان مهدتا للهجرة الشريفة إلى المدينة المنورة...
وفي منى مسجد الخيف الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وسبعون نبيا قبله منهم موسى عليه السلام كما الحديث...
أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى، وأعمال الحج عامة شرعت لذكر الله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله». وهي دورة تدريبية للمرء ليداوم على ذكر الله؛ وفضلا عن الأجر المترتب على الذكر فإن من مقاصده استحضار مراقبة الله تعالى في نفس المرء على الدوام حتى يسلم من الغفلة، ويبقى سالكا نهج الاستقامة في أقواله وأفعاله وسائر أموره جليلها ودقيقها...
من أكثر ما يزعج الناس أيام التشريق التوجس النفسي من الزحام، رغم التنظيم الدقيق لحركة الحشود، المستند لمنطق الأمن والسلامة..، ومثل الخوف من الزحام تباين الفتوى بخصوص أحكام رمي الجمار، وما يترتب على العجز عنه، وعن الخطأ الذي يتلبس به بعض الحجاج وأغلبهم عوام... فتجد بعض من تلقى معرفة بفروع الفقه ملتزما بمقتضاها، ومتشددا في تنزيلها، حتى يلزم من ترك حصاة واحدة بدم.. كما أن الحجاج يبالغون في البحث عن الفتاوى من مصادر مختلفة حتى يستجمعون الحرج كله، ويبقون في حيرة من أمرهم...
ولعل أحكام الرمي تحتاج إلى دراسات مؤصلة تعتمد منهج الفقه المقارن، وتمتح من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تيسير أعمال المناسك.. فقد كان صلى الله عليه وسلم سمحا في إقامة المناسك، وهو المبعوث بالحنيفية السمحة، ميسرا للناس رفيقا بهم... ولم يحفظ عنه في حجته أنه أوجب دما على أحد، برغم كثرة الجموع معه، وكونهم حدثاء عهد بالإسلام، يؤدون حجهم أول مرة، وإنما كان هجيراه للناس: "افعل ولا حرج، لا حرج، لا حرج، قد أذهب الله عنكم الحرج"، مصدقا قول ربه: "وما جعل عليكم في الدين من حرج" الحج 87.. الطريري: كأنك معه، صفحة 147..