Wednesday 9 July 2025
مجتمع

محمد سالم إنجيه: مذكرات الحج... رحلة الذكر والشهود (8)

محمد سالم إنجيه: مذكرات الحج... رحلة الذكر والشهود (8)

- على صعيد عرفات الطاهر..

عملا بالتيسير في أعمال الحج، غادرنا مخيم منى إلى مشعر عرفات الذي وصلناه قبيل الفجر من تاسع ذي الحجة لعام 1438، وجهنا مسؤولو وكالة الأسفار إلى الخيم المخصصة لنا... جددنا الوضوء ثم صلينا، وتناولنا وجبة إفطار سريعة، ثم استلقى كل منا في الحيز المعد له، مع استثناءات قليلة تتعلق بعدم انضباط بعض الحجاج؛ لكن في النهاية اتسع المكان للوافدين...

تقع عرفات خارج حدود الحرم شرقا بعد مزدلفة، وهي أرض منبسطة ينتصب فيها جبل يسمى جبل الرحمة، جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الوقوف على صعيدها ركن الحج الأكبر بقوله لسائل: "الحج عرفة"، ووقف عليه الصلاة والسلام بعد زوال اليوم التاسع من ذي الحجة في حجة الوداع عند الصخرات بسفح الجبل، وقال صلى الله عليه وسلم: "وقفت هنا وعرفة كلها موقف". فمن هذا النص نبه العلماء على عدم تخصيص مكان وقوفه صلى الله عليه وسلم بأفضلية على غيره من صعيد عرفات، ومع ذلك فإن خلقا كثيرا من الحجاج استجابة للعواطف والفضول، لا يزالون يتحملون مشاق الخروج من خيامهم ويعرضون أنفسهم لخطر ضربة الشمس والتيه في أمواج الحجاج، فضلا عن التفريط في الأهم وهو استفراغ الجهد والوقت في هذا اليوم العظيم للعبادة بالدعاء والذكر وسؤال الله تعالى التوفيق والقبول، والسلامة من الرد خائبين..

عامة الحجاج يصطحبون خليطا من المعلومات والمعارف عن الحج وخاصة عرفة، تتفاوت قوة وضعفا، وهذا يحتاج إلى جهود استثنائية لتبيان مقاصد الحج والمعاني التي يرجى تحصيل أثرها في النفوس أثناء التنقل بين المشاعر، ورعاية الجوانب التعبدية، وتحقيق مراميها، ومحاولة التخلص من شكلية الأداء، من أجل استدرار الآثار القلبية والعقلية، والعوائد السلوكية على الحاج ورفقته؛ خاصة في جانب تنمية النيات، وتعهد قيم الإسلام العظيمة في أفق التخلق برسالته العالمية... بطلب من مسؤولي الوكالة ارتجلت كلمة قبل الزوال تناولت فيها بعض ما فتح الله تعالى به من تأملات وإرشادات تعيننا على تحصيل النفع الكامل من وجودنا في هذا المشعر العظيم، وفي هذا الزمن الفاضل.. وذكرت بفضل الله تعالى علينا حيث جعلنا من وفده هذا العام، وضرورة النظر في أنفسنا والاعتراف بذنوبنا عند التوجه لله تعالى، وسؤاله المغفرة، والبحث في أوجه مطابقة السلوك للمعتقد، وذكرت بالبشارة الجليلة التي ننتظرها عند مغرب هذا اليوم، ففي الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما مِن يوم أكثر مِن أن يعتق الله فيه عبدًا مِن النار مِن يوم عرَفة، وإنه ليَدنو، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟ رواه مسلم.

وورد: ما رؤي الشيطان أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا أن الرحمة تتنزل فيه فيتجاوز عن الذنوب العظام..

وفي هذا اليوم اكتمل الدين فقد أخرج البخاري عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا قَالَ أَيُّ آيَةٍ قَالَ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) قَالَ عُمَرُ قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ .

وبعد صلاة الظهر والعصر جمع تقديم، أقبل الحجاج على أنفسهم، كل بطريقته في الدعاء والقراءة والذكر، على تفاوت بينهم في شدة الإقبال وخفتها، وعلى تفرغ كلي ودون ذلك، وقبيل المغرب شرعوا في مغادرة الخيم إلى الشارع العام في اتجاه الحافلات، ولمشاهدة مغيب الشمس، وذكر لي أحد الإخوة أن مما يحمد لمشرفي خطة التنظيم منعهم الحجاج من الخروج من حدود عرفات في اتجاه مزدلفة حتى تغرب الشمس...

مشهد الغروب عظيم جدا، وترى بعض الناس وكأنه في سباق مع الزمن حتى لا يمضي بالغروب، فيبالغ في الذكر والدعاء..

نسأل الله تعالى جميل الجزاء، وعظيم المغفرة لنا ولمن سألنا الدعاء له من عامة المسلمين وخاصتهم..