الأربعاء 24 إبريل 2024
كتاب الرأي

محمد البالي: انزياح (5)

محمد البالي: انزياح (5) محمد البالي
المقصود بالانزياح هنا خروج عن منطق الخطابات السابقة، التي تتغيى مصالح مؤقتة على حساب المبادئ المستدامة. فهل ثمة خطاب مغاير، يوحد اللغة والسلوك، ولا يعتبر السياسة لعبا  وهوى، بل فضيلة ومسؤولية؛ يكسب صاحبها شرف خدمة المجتمع، ويكسب المجتمع رهان حماية النفس والأرض والدين والحرية والعرض...؟  
في هذا السياق، نقدم نموذجين أولهما قانوني للمقارنة مع خطاب مغالط، والثاني سياسي حزبي للوقوف على مدى انسجام مكونات الخطاب السياسي المغاير عبر ثلاثية المبدأ والموقف والتحرك.
1- خطاب قانوني: 
في مناقشة أستاذ القانون الدستوري عبد العزيز النويضي (محام ورئيس سابق لجمعية عدالة الحقوقية) للمحامي عبد الكريم طبيح (برلماني سابق عن الاتحاد الاشتراكي)، بعد أن رأى هذا الأخير، في مقال له، أنه ليس من اختصاص المحكمة الدستورية النظر في مشروع القانون التنظيمي 04/ 21، وأن "تصويت ممثلي الأمة على القواعد المتعلقة بانتخاب أعضاء البرلمان بما فيها مبادئ التقسيم الانتخابي، هو من صلب اختصاص البرلمان".
في مقال بإلكترونية العمق المغربي، اعتبر الأستاذ النويضي أن زميله "وقع في بعض اللبس عندما اختلطت عليه بعض المفاهيم"، ووضح تنصيص الفقرة الثانية من الفصل 62 من الدستور على التقسيم الانتخابي (جغرافي يتعلق بالدوائر الانتخابية)، وليس على القاسم الانتخابي (بشري يتعلق بالمسجلين أو المصوتين أساسا/ قاعدة في توزيع المقاعد). 
لقد سقط الأستاذ طبيح في مغالطة "استبدال المعطيات" باعتماده حجة فاسدة أو مضللة أو غير مناسبة عملت على قلب الحقائق القانونية، بقصد أو بدونه، وهو المتمرس قانونيا وسياسيا. 
ولتوضيح مخالفة المشروع للدستور، عكس ما ذهب إليه الأستاذ طبيح، عرض النويضي فصولا منه تتعارض مع تبني اختيار المسجلين في اللوائح الانتخابية كأساس لقياس القاسم الانتخابي، ومنها:
الفصل الأول: الاختيار الديمقراطي من الثوابت الجامعة للأمة في حياتها العامة. والاختيار الديمقراطي يعتمد التعددية واختيار ممارسة حق التصويت لتفضيل الأشخاص أو الأحزاب.
الفصل الثاني: ورد فيه الاختيار الحر والنزيه؛ ويعني الاختيار الحر "أنه لا ضغط فيه على المصوتين والمرشحين ولهذا نظمت القوانين الانتخابية المعاقبة على الضغط والتدليس والغش".
الفصل السابع: يشير في فقرة منه إلى دور الأحزاب السياسية في تنظيم المواطنات والمواطنين... وتساهم في التعبير عن إرادة الناخبين". يتساءل النويضي: "فكيف سيتم التعبير عن إرادة الناخبين...؟ إن ذلك يتم بممارسة حق التصويت. وإن كلمة الانتخاب تتضمن الاختيار والاختيار لا يمكن أن يمارسه إلا شخص يصوت".
وفي سلب مشروع القانون أعلاه، لحق المغاربة المقيمين بالخارج، استند النويضي في لا دستورية المشروع على الفصل 17 الذي جاء فيه: "يتمتع المغاربة المقيمون في الخارج بحقوق المواطنة كاملة"، وحدد كيفيات ممارستهم حق التصويت وحق الترشيح. هنا يتساءل: فكيف سيمارس مغاربة العالم حقهم في الترشيح وفي التصويت الذي يتضمن اختيار من يريدون لتمثيلهم إذا أخذنا بالمسجلين في احتساب القاسم الانتخابي؟ 
2- خطاب حزبي: 
فيدرالية اليسار الديمقراطي، التي رفضت المشروع، سلكت سبلا شتى في التعبير عن هذا الرفض.
قد نستنتج في خطاب هذه المعارضة الممانعة، كما توصف في مجموعتها الخطابية، انسجاما بين ثلاثة مكونات، يفترض ألا تتعارض لإنتاج فعل سياسي ذي مصداقية:
أ- المبدأ السياسي: تنهل أحزاب فيدرالية اليسار الديمقراطي، انطلاقا من أوراقها السياسية، من منابع الفكر الديمقراطي، وتعتبر الديمقراطية قيما كونية لا يجب تجزيئها ولا تعريضها لاقتطاعات خصوصية قد تفرغها من مضمونها. وتقوم برامجها على توسيع فضاء الممارسة  الديمقراطية عبر النضالات الجماهيرية والنقابية والجمعوية، وعبر المؤسسات المنتخبة.
ب- الموقف السياسي: استنادا على المبدأ أعلاه، رفضت الفيدرالية، بمختلف مكوناتها مشروع قانون 04/ 21، لأنه يتعارض مع مبدأ حقوق غير المصوتين، ولأنه هدفه تقليص حظوظ حزب سياسي؛ وهو ما يتنافى مع مبدأ المنافسة الشريفة. 
وأعلنت الهيئة التنفيذية موقفها الرافض مفضلة امتناعها عن المشاركة في آلية التصويت. وقد انتقد نائب برلماني من الفيدرالية، عدم إشراك برلمانيَّيها في مناقشة قضية برلمانية، سيتكفلان عمليا بتصريف الموقف منها، سياسيا وقانونيا وإعلاميا.
ج- التحرك السياسي: اتخذ تفعيل الموقف مظاهر متعددة ومختلفة: 
سبق للفيدرالية، أن قدمت في 17 يوليوز 2020 مذكرة بخصوص تصورها للإعداد لانتخابات 2021، تضمنت:
- توفير‭ ‬شروط‭ ‬مناخ‭ ‬سياسي‭ ‬جديد: إطلاق سراح المعتقلين، محاربة الفساد، مأسسة الحوار الاجتماعي، تفعيل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة...‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‬- متطلبات‭ ‬إجراء‭ ‬انتخابات‭ ‬نزيهة‭ ‬وشفافة: ‬إحداث‭ ‬لجنة‭ ‬وطنية‭ ‬ولجان‭ ‬فرعية‭ ‬مستقلة‭ ‬دائمة‭ ‬للإشراف‭ ‬على‭ ‬الانتخابات، الالتزام‭ ‬بمبادئ‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الحقة‭ ‬ونزاهة‭ ‬الانتخابات، ‬إعداد‭ ‬لوائح‭ ‬جديدة‭ ‬للهيئة‭ ‬الناخبة باعتماد التسجيل التلقائي بالبطاقة الوطنية، ‬إشراك‭ ‬جميع‭ ‬الأحزاب‭ ‬السياسية‭ ‬وجمعيات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬لإبداء‭ ‬الرأي في التقطيع، تحديد‭ ‬الجهة‭ ‬كدائرة‭ ‬انتخابية‭ ‬بخصوص‭ ‬انتخابات‭ ‬أعضاء‭ ‬مجلس‭ ‬النواب‭ ‬في‭ ‬أفق‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬دائرة‭ ‬وطنية‭ ‬فريدة، إلغاء‭ ‬العتبة، تغيير الجمعة كيوم للاقتراع، منع ترشح المفسدين، وتخصيص لائحة وطنية للنساء،  ‬معايير‭ ‬موضوعية‭ ‬للتمويل‭ ‬العمومي‭ ‬السنوي‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ تكافؤ فرص الأحزاب في الإعلام العمومي، التصويت بالبطاقة الوطنية والبصم، تجنب الحياء الإداري السلبي، ‬وبمقارنة المذكرة مع القوانين الجديدة، نجد ثمة مقترحات تمت الاستجابة إليها، وهي: تنمية  التمثيلية النسائية، مراجعة‭ ‬القوانين‭ ‬التنظيمية‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالجماعات‭ ‬الترابية‭ ‬والقوانين‭ ‬التنظيمية‭ ‬المتعلقة‭ ‬بمجلسي‭ ‬البرلمان‭ ‬والقوانين‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالعمليات‭ ‬الانتخابية، إقرار مستوى تعليمي للمسؤوليات الانتخابية، توسيع‭ ‬حالات‭ ‬التنافي. ‭ ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وفي سياق الموقف من التعديلا ت الجديدة في القوانين الانتخابية، نظمت الهيئة التنفيذية ندوة رقمية تحت عنوان: "منظومة الانتخابات وسؤال الديمقراطية"، التي سيرها الإعلامي يوسف جايا، قال الأمناء العامون:
- نبيلة منيب، الأمينة العامة للحزب الاشتراكي الموحد: الانطلاق من عدد المسجلين مقتضى غير ديمقراطي لتحقيق أهداف سياسية. وبعد مطالبتها بمناصفة كاملة، اعتبرت أن الدولة بتخصيصها المرتبتين الأولى والثانية في اللوائح البرلمانية الجهوية أقصت الشباب والمغاربة في المهجر. ونشر على صفحة الفيدرالية بفيسبوك، قولها: نحن لا نريد آلية احتيال، بل نريد الديمقراطية.
- علي بوطوالة، الأمين العام لحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي: القاسم الانتخابي سيشجع العزوف للتلاعب بالخريطة السياسية، لأن العزوف هو رغبة غير معلنة لدى السلطة ولدى الأحزاب الإدارية. والسبيل لمواجهة هذا هو المشاركة المكثفة، لأن الشعب هو القادر على التغيير، سواء بالضغط عبر الشارع أو عبر المؤسسات.
- عبد السلام العزيز، الأمين العام لحزب المؤتمر الوطني الاتحادي: لن تتحقق العدالة الانتخابية بهذا القاسم الجديد، وكان من الممكن تقديم نمط اقتراع عادل تحترم فيه مبادئ الديمقراطية. ويتطلب الوضع تغييرا دستوريا؛ فمن مظاهر اللاديمقراطية المبنية على نتائج الانتخابات تنصيص الدستور على اختيار رئيس الحكومة من الحزب الأول في الترتيب، ولو دون أغلبية برلمانية.
واجتمع خطاب الأمناء العامين على عناصر هي: نظام الحكم بالمغرب في مرحلة تشديد التحكّم، الحاجة إلى تعديلات دستورية، القانون المقدم غير محايد ولا ديمقراطي، الإشارة إلى مذكرة الفيدرالية في الحث على الانفراج السياسي واقتراح آليات لضمان انتخابات حرة ونزيهة، دعوة المواطنين إلى المشاركة المكثفة للَجْم الفساد، الانتخابات واجهة نضالية لتوسيع مجال الديمقراطية. على الطريق لتوحيد القوى اليسارية.
وتنزّل الموقف برلمانيا كالتالي:
- قاطع النائب عمر بلافريج جلسة التصويت. 
- امتنع النائب مصطفى الشناوي عن المشاركة في التصويت.
 يبدو أن اليسار المعارض  يفضل الانسجام مع المبدأ، ولا يلتفت كثيرا إلى الجهة التي قد تناسبها مواقفه؛ لذلك وجدناه يتحرك للدفاع عن ضحايا حقوق الإنسان، باختلاف مرجعياتهم الإيديويولوجية ومواقفهم السياسية من اليسار ومن شمولية الحقوق والحريات. وهو ما يفسر نعته ضمن مجموعته الخطابية ب "اليسار المبدئي"، لكننا رغم ذلك نجد داخله خطابا يطالب بمراعاة السياقات السياسية والثقافية في المواقف وفي التحركات.
ومن تعدد صيغ الموقف والتحركات، يتبدى لنا أن نسائل خطاب هذا اليسار الممانع أو البرلماني أو غير الحكومي:
- هل يعكس هذا الاختلاف، تعددا في وجهات النظر، فيكون خطابه مجموعة خطابات؟ يتوجه المرسلون بها، كل إلى مجموعته الخطابية.
- هل يتمتع مناضلو هذا اليسار بقدر فسيح من حرية التعبير وحرية التحرك، وإن لم تتطابق مع الخطاب الرسمي المعلن عبر المتابعات والبلاغات والبيانات؟ 
ثمة من يعتبر هذا تميزا وثمة من يراه عدم انضباط. مسلكان متنازعان بين وحدة التعبير والموقف والتحركات لتمتين قوة أمام أطراف الصراع السياسي، وبين من يعتبر القوة معنوية ذات أثر، في اختلاف التمريرات وإبداع التحركات ضمانا للتميز عن سياسة التقليد والموالاة.
ويبقى هذا، سمة في المجتمع الحزبي اليساري، الذي يعتبر المنتسبون إليه أنهم مواطنون لا رعايا، وأن الديمقراطية فكر وسلوك يومي. ويرفضون القرارات الفوقية، لذلك تتعدد في مؤسساتهم الحزبية التحليلات وتطول في مجالسهم المناقشات، وتُـتْبَع القرارات بتأويلات تجتهد في التنفيذ أو تسائل إلزاميته، فينعكس هذا على نسبة مشاركتهم في التحركات الميدانية وفي اللقاءات العامة.
ويتشابك السؤالان داخل أحد مكونات فيدرالية اليسار الديمقراطي خاصة، هو الحزب الاشتراكي الموحد، الذي سنبحث في بعض مرسَلات خطابه عن ممكنات الالتزام بمتطلبات الصدقية في الخطاب.                    (يتبع)
محمد البالي باحث في الخطاب المغربي المعاصر