الجمعة 19 إبريل 2024
فن وثقافة

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (24)

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (24) صورتان من ذكريات عبد الصمد الشنتوف بمدينة الضباب

رحل التيجاني يوم العاشر من شتنبر عائدا إلى أرض الوطن، تاركا وراءه فراغا قاتلا في الضيعة. من دونه سيسكن الحزن إقامتنا بالمرآب وسيغشاها الضجر، ذلك أن التيجاني لم يكن كباقي القاطفين، فهو يمتلك كاريزما جذابة ويتواصل مع الجميع بسلاسة ملفتة. رجل لطيف مفعم بالعاطفة والطيبة تجاه الجميع.

 

لقد رسم حكاية جميلة في مخيلتي، لن أستطيع نسيانه لأنه أنقذني من التسكع بشوارع لندن وخلصني من استجداء المهاجرين بمقهى كازابلانكا. شيعته إلى موقف الحافلات لأقول له وداعا أيها الأستاذ النبيل. سأنهمك في قطاف التفاح لبضعة أسابيع ثم أغادر مثلك إلى المغرب. أعلم أن زملاءك بثانوية مكناس ينتظرونك على أحر من الجمر، ويتوقون لسماع تجربتك الرائعة بشوق كبير. سترحل وتبقى روحك المرحة محفورة في ذاكرتي، صورتك الشامخة ستظل مرسومة في ذهني على أمل اللقاء بك مجددا.

 

مضى الآن علي أسبوعان بالريف الإنجليزي. تأقلمت تدريجا مع وضعي الجديد في المرآب. نسجت علاقات صداقة مع معظم زملائي القاطفين. رفاييل يعشق المغني البرتغالي "روي فيلوزو" كثيرا. يطلق على مسامعنا إحدى أغانيه الشهيرة من جهاز الكاسيت: لا توجد نجوم في السماء. عصمت يحب المغني التركي الشهير "إبراهيم سالتس"، وتجده هو الآخر يطلق على مسامعنا كل صباح إحدى أجمل أغانيه: أنا متعب.

 

بوريس وألكسندر يملكان مذياعا، ولذا فهما كثيرا ما ينصتان إلى الأخبار والموسيقى البولندية. بالموسيقى وسماع المذياع تصبح الغربة أقل قساوة داخل هذا المرآب. تجتاحني نشوة كبيرة حينما أستمع للموسيقى التركية والبرتغالية لكن الموسيقى البولندية لا تثيرني في شيء، أكاد أجزم أن كل شيء قادم من أوروبا الشرقية لا يوقد أفكاري ولا يلامس مشاعري. لا أدري لماذا بعض شبابنا يصورون البلدان الشيوعية كجنات العريف. إنها ليست كذلك. هل بفعل ارتفاع منسوب التفكير الواقعي لدي؟ لست أدري.

 

عندما يشغلون أجهزتهم في آن واحد تتشابك الأصوات والنغمات في الفضاء، وتتحول إلى موجات متحركة غير متناسقة فيضج المرآب بتلوث ضوضائي. فيلوزو مغني وعازف ماهر على القيثارة، نمط أغانيه يشبه أغاني "روك" لبوب ديلان، كلاهما يتقنان العزف على الهارمونيكا والقيثارة بشكل جيد. الفارق الوحيد هو ديلان يغني بالإنجليزية وفيلوزو يغني بالبرتغالية. هذا الأخير لا يمكن أن يضاهي الأول في الشهرة والفن. أما أغاني سالتس التركي فيكسوها الطابع المشرقي.

 

لما أنزوي بنفسي أفكر مليا وأقول: لا أدري لماذا نحن المغاربة نحاول أن نتكلم جميع اللغات، نتذوق كل أشكال الموسيقى ونأكل كل أنواع الأطعمة. كل مرة يحضر زملائي الطعام وفق عادات بلدانهم يعرضون علي أن أتذوقها فألتهمها دون تردد، معظم الأحيان لا أدري ماذا آكل لأنها أطعمة مغايرة لثقافتي وغريبة عني . ومع ذلك أجدني ألتهمها . اكتشفت بعد أسبوع من إقامتي هنا أن شخصيتي تستهويهم ويندمجون معي بسلاسة. ربما لأنني لا أكف عن الكلام وأتحدث معهم في كل شيء.

 

أحيانا لما تصدح أصوات الموسيقى تملأ الفضاء صخبا. تمتزج الإيقاعات الثلاثة داخل أذني فتحدث لي طنينا في رأسي. تمنيت لو كان معي جهاز كاسيت فأطلق عليهم صوت الحاجة الحمداوية، لا شك أنه كان سيكتسح الفضاء ويغطي على أصواتهم جميعا. أدرت وجهي نحو رفاييل وقلت له: أشعر وكأننا في مسابقة أغاني أوروفيزيون، ليثنا نذيع أغاني كل بلد على حدة بانتظام تجنبا لفوضى هذه الأصوات العارمة. عندها سأعرض عليكم أغنية الحاجة الحمداوية "ها الكاس حلو" لتضفي نكهة فنية جميلة على مشهد متعدد الثقافات داخل المرأب. علت وجه رفاييل ابتسامة دافئة وقال: الموسيقى هي اللغة الوحيدة التي توحد كل الشعوب والقوميات، وتتجاوز كل الحدود والمعتقدات.

 

جوصيه يدرس علم الاجتماع بجامعة لشبونة. يهتم كثيرا بالتاريخ وثقافة الشعوب. لطالما سألني عن أشهر الفرق الموسيقية بالمغرب، فأشرت له إلى فرقة ناس الغيوان والمشاهب لكنه لم يسمع بأي منهما. معظم زملائي هنا في الضيعة لا يعرفون عن المغرب سوى البطل سعيد عويطة. جوصيه ورفاييل يحبانه كثيرا لكنهما ينظران إلى اللاعب المغربي خيري كنظرتهم لعبدالملك السعدي، يلقبانه بقاهر البرتغال لأنه سجل إصابتين في شباكهم خلال مونديال 86. كانت تداعيات المونديال لا تزال تخيم على الصحافة العالمية آنذاك. رفاييل ينادي اللاعب خيري برقم 17 حتى صار رقم شؤم في حياته. سيظل رقم 17 عالقا في ذاكرته ويؤرقه إلى الأبد. لأن خيري مرغ أنوف البرتغاليين في التراب مثلما فعل عبدالملك السعدي في القصر الكبير. لقد أزاح حلمهم عن التأهل للدور الثاني مثلما قتل عبدالملك حلم الملك سباستيان في احتلال المغرب. لقد كانت هزيمة ثقيلة على نفوسهم كهزيمتهم في معركة وادي المخازن خلال القرن السادس عشر.

 

حدثت جوصيه في التاريخ وحاولت استطلاع رأيه عن معركة وادي المخازن، لكنه فاجأني برده لما قال إننا في البرتغال نسميها معركة القصر الكبير، بعد التمحيص في بعض مراجع التاريخ الأوروبي تبين لي صحة كلامه. حاولت استفزازه بحديث مزهو عن تفاصيل المعركة التي انتصر فيها المغاربة انتصارا ساحقا ، لكن جوصيه لم يعبأ كثيرا، فرد علي ساخرا: أنت تتحدث عن القرن السادس عشر ونحن في نهاية القرن العشرين، أين هو موقع البرتغال بين الأمم وأين هو المغرب الآن؟ كان يلمح بطريقة ذكية ماكرة أن البرتغال للتو انضمت للاتحاد الأوروبي خلال تلك السنة. لذت بالصمت قليلا وحدثت نفسي: نعم نحن في أسفل السافلين نرزح تحت وطأة حكم مطلق، وما زلنا نكابد الفقر وضنك العيش، وهذا أمر لا يختلف عليه اثنان ياجوصيه.

 

أما رفاييل فهو طالب يدرس سنة رابعة من الطب في جامعة بورتو، لم يتبقى له سوى ثلاث سنوات حتى يتوج طبيبا بإحدى مستشفيات البرتغال. بين حين وآخر تنتابه نوبات سعال قوية ومع ذلك لا يغادر التدخين. يلف عشرات سجائر "دروم" كل يوم ويدخنها بشراهة، قلت له إن التدخين مضر بصحتك وسوف يقتلك إن لم تتوقف. ضحك وقال: ربما سأموت بسبب التدخين. هز رأسه مرفقا ذلك برفع حاجبيه تأكيدا على ما أقول لكن الأمر أكبر من ذلك.

 

يقول رفاييل أنه يزور مدينة شفشاون مرة في العام ويمكث فيها أسبوعا كاملا يدخن القنب الهندي، عندما سألته هل شاهد مدنا أخرى في المغرب قال سبق له أن زار طنجة منذ بضع سنوات لكنه كرهها لأنه مر فيها بقصة أليمة. لما زارها اقتنى قطعة من مخدر حشيش وكادت تفتك بحياته بعد تناولها، علم بعد ذلك أن الحشيش كان مغشوشا وممزوجا بمواد سامة، على إثرها أمضى أسبوعا كاملا ممددا على سرير متسخ في مستشفى المدينة. يصف الوضع قائلا: وجبات الطعام كانت عبارة عن فاصوليا وعدس كل يوم، روائح كريهة تنبعث من مراحيض نتنة، خضت تجربة قاسية أطارد فيها الحشرات والضجيج داخل قاعة مزدحمة بالمرضى، انتهاكات بالجملة وإهمال للإنسان يفوق الخيال. منذ ذلك الحين وهو يتردد على مدينة شفشاون ليتعاطى مخدر الحشيش بنهم كبير، يقول أن الناس فيها عفويون وطيبون وشفشاون هي المغرب بالنسبة إليه.

 

هذا الصباح رحل الضباب الكثيف وأشرقت الشمس مرخية بأشعة حارقة على الحقول، صار الطقس معتدلا وجميلا. أخبرت ريتا جميع القاطفين بأنها تنوي هذا المساء تنظيم حفل شواء "باربكيو" في المزرعة. لكنها اشترطت على كل واحد منا أن يحضر طبقه وفق تراث بلده. ريتا تحب استكشاف تقاليد وعادات شعوب العالم في الطبخ والموسيقى. فهي ودافيد منفتحان على كل الثقافات وكل القوميات. أشارت لي بمرافقة جوصيه ورفاييل لإنجاز أطباقنا في مطبخ صغير خاص بالعمال، أما باقي الزملاء فيمكنهم استعمال مطبخها الشخصي البديع.

 

بعد الظهيرة ببضع ساعات كانت الأطباق كلها جاهزة، سيضم الحفل ستة أكلات شعبية تعود لست دول: إنجليزي، تركي، بولوني، مغربي، غاني وبرتغالي. لما رتبت ريتا مكان الباربكيو بمزرعتها الفسيحة نادت علينا لجلب أطباقنا الطازجة وعرضها فوق طاولة خشبية مركونة في مكان مخصص لذلك. على حواشيها كراس خشبية تعلوها مظلات كبيرة تقي المدعوين من سقوط المطر وحرارة الشمس. على بعد بضعة أمتار يقف دافيد ممسكا بشواية عملاقة ممتلئة بالكفتة.. سوسيس.. وأضلاع اللحم. يزند على النار فيزداد الفحم اشتعالا. لما أنظر إليه أجد تقاسيم وجهه تختفي خلف دخان متصاعد من الشواية، يستنشقه فيصيبه بنوبة سعال حادة. تلمع وجنتاه احمرارا وجبينه يرشح عرقا. بينما ريتا عكفت على ترتيب الحفل وسكب مشروبات روحية وغازية صحبة كلبها لولو الذي لا يفارقها.

 

حينما وضعنا الأطباق فوق الطاولة بدا المشهد ملونا رائعا وكأننا في مهرجان لسباق الطبخ. كان المشهد يرمز إلى تعدد الأذواق وتلاقح ثقافات شعوب آتية من بعيد إلى بلدة هورسماندن. استعرضت ريتا طبقها الإنجليزي "سترة باططس" وهي عبارة عن بطاطس ضخمة محشوة بجبنة إيدام. تلاها طبق بوريك التركي من إعداد أحمد يضم فطائر محشوة ببطاطس وجبن أبيض. طبق "روز دولسي" مجرد أرز مع حليب منثور عليه قطع صغيرة من فواكه جافة أعده جوصيه بعناية. طبق بولوني يدعى "زرازي" مكون من لفائف لحم مشوي. طبق إفريقي غاني من دجاج مشوي منشور عليه قطع مقرمشة من الباذنجان والأنناس. وطبق من بيض وطماطم حضرته بنفسي مع ثوم وبصل نثرت فوقه بعض الفلفل الأسود.

 

أخذت ريتا تحدثنا عن تاريخ أكلة سترة البطاطس البريطانية وكيفية تحضيرها، بعدها بدأ كل واحد منا يحكي عن طبق شعبي من تراث بلده ويعدد علينا محتوياته وطريقة تحضيره. غاية ريتا من وراء الحفل هي التعريف بثقافات متعددة وخلق جو من المرح والترفيه داخل الضيعة بين الطلبة العمال، مما سيولد حالة انسجام اجتماعي وتقارب نفسي فيما بينهم.

 

سألني جوصيه ما اسم الطبق التي قمت بتحضيره؟ فأجبته بكل عفوية:

- هذا الطبق عندنا لا يحمل أي اسم سوى "بيض وطماطم"، لأنه طبق شعبي خفيف يتناوله المغاربة عند ضيق الوقت.

- نحن في البرتغال كل طبق نطلق عليه اسما معينا، فطبقي أيضا خفيف يضم حليب وأرز ونسميه "أروز دولسي".

- آه تذكرت الآن، طبق البيض بالطماطم يسميه صديقي حميد "أتلتيك".

- ضحك رفاييل وقال: يبدو وكأنه اسم فريق كرة قدم وليس اسم أكلة.

- نعم إنه طبق "أتلتيك" نسبة لفريق أتلتيكو مدريد.

- وما دخل هذا بذاك يا سام؟

- هل ممكن أن تصف لي قميص فريق أتلتيكو مدريد؟

- نعم، هو قميص مخطط بالأحمر والأبيض.

- انظر إلى طبقي وستراه أيضا مخططا بالأحمر والأبيض.

 

انفجر رفاييل ضاحكا والتفت نحو صديقه قائلا:

- ما يقوله صديقنا المغربي هو مزيج من الحقيقة والخيال، أليس كذلك يا جوصيه؟ ابتداء من اليوم كلما شاهدت فريق أتلتيكو مدريد على التلفاز سأذكر طبق "أتلتيك" الشهي الذي أقحمنا في ثنايا حوار مجنون...