الخميس 28 مارس 2024
فن وثقافة

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (17)

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (17) عبد الصمد الشنتوف ومارغريت تاتشر

يعود عشق عبدالله للعبة الورق "روندا" إلى زمن بعيد، فهو شغوف إلى حد الثمالة بهذه اللعبة الضاربة في الموروث الشعبي المغربي، شغف بها منذ كان شابا يافعا يعيش ببلدته "شفراوش" شمال المغرب، انتقل للعيش بلندن أواخر الستينيات عبر عقد عمل حصل عليه عن طريق الوسيط "رفاييل" المقيم بالعرائش.

 

أسهم رفاييل بشكل كبير في هجرة عدد كبير من سكان المنطقة إلى بريطانيا. عبد الله رجل هادئ دائم الابتسامة على محياه، يحب حكي النكت وسرد الأساطير كحبه للعبة "روندا"، تجاوز الأربعين من عمره بقليل، يشتغل كمنظف بمستشفى القديسة مريم غرب لندن، بيته لا يبعد كثيرا عن مقهى كازابلانكا حيث التقيت به أول مرة، ويعد أحد الوجوه المعروفة لدى المغاربة بحي بورطوبيلو، يتردد على المقهى كل مساء للعب "الكارطا" قصد الترويح على النفس. خصمه الشديد في اللعبة يدعى "ولد ميمتي" وهو أيضا مهاجر أربعيني ينحدر من ضواحي العرائش، رجل طويل القامة يتحدث بلكنة "عروبية"، يعتني بشاربه كثيرا ويبرمه إلى حد الفخر والتبجح، أما عبد الله فهو قمحي البشرة، قصير القامة، وأصلع الرأس ذو شارب أسود كث. يعرفه رواد المقهى جيدا ويضربون له ألف حساب عند المنازلة، يصر دائما على خصمه بإلقاء أوراقه أولا حتى يتسنى له معرفة ما تبقى لديه من أرقام فيجهز عليه في النهاية، لاعب ماكر وبارع في الحساب، يلعب أوراقه بذكاء حاد ودهاء بالغ، غالبا ما ينتصر على خصمه اللدود "ولد ميمتي" بضربة "ميسا" القاضية التي لا يتقنها سوى الراسخون في قواعد اللعبة.

 

يصاب ولد ميمتي بنوبة عصبية كالسعار حين ينهزم، ينهض واقفا على طرف الطاولة مرتجفا ويشرع في لعن عبد الله وشتم أمه وقبيلته، رغم طول قامته فهو لا يملك من الذكاء إلا الشيء القليل. هنا في فضاء المقهى سرعان ما تتفجر الأحقاد والحزازات النفسية بين المهاجرين، خصوصا عندما ينهزمون في لعبة البارشي والكارطا فتأخذهم العزة، لا يملكون الروح الرياضية اللازمة، ينتفضون.. يتخاصمون.. يشتم بعضهم بعضا. هذا يلعن الآخر فيقول له بخبث ماكر:

- أتذكر عندما كنت تبيع أكياس البلاستيك بالسوق الصغير؟ !

فيرد عليه الآخر:

- وهل تذكر أنت عندما كنت تجر عربة مهترئة محملة بالسردين في أزقة المدينة؟ !

 

لا أحد يريد أن يتذكر زمن الفقر و"الحزقة" بالمغرب. زمن البؤس والتعاسة .

 

لم يتخلص المهاجرون هنا من عصبيتهم القبلية التي راكموها بوطنهم الأم قبل الهجرة. مازالت تسكنهم تلك العصبية المناطقية الضيقة وتتفجر عند نوبات غضبهم.. وإلا كيف نفسر سلوك "ولد ميمتي" الأرعن تجاه زميله عبدالله حين ينهزم في لعبة "روندا" فيشرع في سبه ولعنه :

- سر يا "الجبلي المقفح".. سر يا "السارح" (راعي غنم) !

فيرد عليه عبدالله غاضبا:

- اذهب عني أيها "العروبي" القذر !

 

يتعمد عبد الله إغاظة خصمه اللدود بمكر، "يطرطق له العروق" بنشوة المنتصر في "طرح روندا". يصدح بأهازيجه الجبلية متهكما عليه بعيطة "أعيوع". فيستشيط ولد ميمتي غضبا ونرفزة.

 

الجميع ينادي عبدالله باسمه إلا أنا كنت أناديه بالميموني. كان يذكرني بأخيه الأكبر الذي كان يعمل عندنا حارسا بمعهد التكنولوجيا بطنجة. جالسته عدة مرات في هذا المقهى من قبل. يحكي أنه وجد صعوبة بالغة في التأقلم مع الطقس البارد، والضباب الكثيف مع التساقط اليومي للثلوج مما يجعل الشتاء في لندن صعبا للغاية. انتقاله من مجتمع قروي ببلدة "شفراوش" إلى مدينة عملاقة تضج بكل مظاهر الحياة الباذخة أصابته بصدمة حضارية كانت لها ارتدادات نفسية عميقة على شخصيته. انسجمت معه كثيرا لذكائه وعفويته، يأسرني بحديثه الشيق وأنا أنظر إلى عينيه المتقدتين، يتحدث بلكنة جبلية خفيفة . كنا نحتسي سويا أكواب الشاي الأخضر ونتبادل الحكايات. يحدثني عن صداقته بعمي "علي" لما كان راعيي غنم عند سفوح الجبل. لم أكن أقاطعه عندما يسترسل في رواياته الجبلية، فهو رجل يعيش في عاصمة الضباب لكنه يحمل بلدته في عقله ووجدانه.

 

ذات يوم استغرقنا في الحديث وانتابته نوبة حزينة على صديقه علال، واسترسل في حديث معاناة المهاجرين قائلا:

- كان علال يشتغل في شركة "إماصا" (معمل خشب) قبل انتقاله إلى لندن، يعيش حياة زوجية عادية لا تخلو من مشاكل. كان هو السلطان الحاكم بأمر الله داخل بيته، ينفق بسخاء ويتسكع في المقاهي والحانات كيفما يشاء. يعنف زوجته أحيانا فتغضب وتذهب إلى أهلها. كان يصالحها فترجع إلى بيت الزوجية بعدما يحلف اليمين ويقطع العهد على نفسه أمام والدها بألا يسيئ معاملتها لاحقا. لكن حلقة العنف تتكرر.. ويتكرر الصلح.. أتدري ماذا حدث يا صديقي؟ !

- انقلبت الآية عندما التحقت يامنة بزوجها علال في لندن، أصبحت هي التي تعنفه وتطرده من البيت، فيلجأ إلى أصدقائه طلبا للوساطة والصلح واسترضائها حتى تغفر له وترجعه إلى البيت.

 

سكت عبد الله هنيهة، ثم استطرد حانقا:

- تلك بلاد يحكمها الرجال.. أما بريطانيا فبلد الذل والإهانة يحكمها النساء !

قلت له:

- تقصد تحكمها مارغريت تاتشر؟

هز رأسه قائلا:

- نعم، البلد الذي تحكمه امرأة لا خير فيها ولن ترى التقدم والفلاح !

- لكن ثاتشر امرأة بسبعة رجال.. تولت الحكم في السبعينيات وكانت البلاد غارقة في فوضى الإضرابات التي انعكست سلبا على الوضع الاقتصادي، وأصبحت بريطانيا الآن تعيش ازدهارا اقتصاديا ورفاهية لا مثيل لها. لم يكن الجنيه في عهد حزب العمال يتجاوز سبعة دراهم مغربية، أما الآن فتجاوز اثنا عشر درهما، وهذا يعود عليك بأرباح كبيرة عند صرف الجنيه ببلدك. أضف إلى ذلك فثاتشر سنت قانونا لصالح الطبقة الشغيلة والمتوسطة لتمليك المنازل الحكومية التي تقطنون فيها عبر تخفيضات خيالية وتسهيلات في الأداء.

 

بدأ يطأطئ رأسه وكأن حديثي بدأ ينفذ إلى عقله، لكنه سرعان ما انتفض عندما تذكر حكاية صديقه علال وقال:

- لكن النساء "زائغات" في هذا البلد.. أضف إلى ذلك أن التعامل مع الأبناك حرام شرعا !

أجبته على الفور:

- أتفهم وضعيتك سي عبد الله، لقد كنتم أسودا مفترسة في بلد يحكمه الرجال، وحين هاجرتم إلى أوروبا صرتم حملانا وديعة في بلد تحكمها امرأة !

رد علي ضاحكا:

- تماما تماما، الآن بدأت تفهمني !

 -لا تنسى أن وضعيتك الاجتماعية تحسنت كثيرا.. وتعيش في بلد يحفظ لك كرامتك، بلد يسوده القانون والعدالة الاجتماعية ..!

 

لا ينفذ هذا الكلام إلى قلبه ولربما يعتبره كلام السياسيين النصابين.. فهو لا يتذكر سوى يامنة التي مرغت أنف علال في التراب وطردته من البيت لما تجاوز حدوده. يفتخر سي عبد الله بالحكام العرب ويشيد بهم رغم فشلهم واستبدادهم.. لكنه لا يتقبل ثاتشر رغم نجاحها.. لأنها امرأة !

قلت له:

- ثاتشر امرأة حديدية وحاكمة عبقرية، لو وضعت كل حكام العرب معها على الميزان لرجحت كفتها أضعافا مضاعفة.

اعترض على كلامي بعصبية شديدة وقال :

- ترهات ترهات، الرجال رجال مهما فعلوا ..!

- أتدري أن ثاتشر سبق أدبت جنرال الأرجنتين "ليوبولد غالتيري" في حرب الفوكلاند منذ أربع سنوات وأدبت دكتاتور ليبيا القذافي منذ بضعة شهور..؟!

فنظر إلي وقال:

- أنتم جيل اليوم استغرقتم في تفسير الحياة بمفاهيم خاطئة وفلسفة فارغة، تتقنون الكلام فقط، كل ما أعرفه إذا حكم النساء عم الفساد في الأرض واختلت الموازين، وهذا ما يؤكده ديننا الحنيف، يقصد الحديث النبوي (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) .

 

أصبت بذهول شديد جراء ردوده القوية، وحملقت في وجهه مستحضرا في ذهني المثل الشعبي: على من تقرأ زبورك يا داوود.

 

شعرت وكأني وصلت إلى طريق مسدود في حواري عن المرأة مع سي عبد الله.. لكنني تفهمت وضعه جيدا.. قلت في نفسي: هذا وضع طبيعي، راكم الرجل جملة من تصورات سلبية استمدها من موروث ثقافي متكلس، لم أستطع النفاذ إلى عقله للأسف...

 

انسحبت في هدوء نحو بيت صديقي خالد، وتركته وحيدا منغمسا في تفكير عميق، لاذ بصمت مطبق، لربما كان يرسم خطة ذكية في ذهنه ليستأنف لعبة "روندا" مع خصم جديد ليطيح به بضربة "ميسا".