الخميس 28 مارس 2024
فن وثقافة

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (الحلقة14)

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (الحلقة14) عبد الصمد الشنتوف
كلما شعرت بالفراغ ، ونازعتني الرغبة في الاختلاء بنفسي ، قصدت ساحة دار المخزن للجلوس منفردا  بعيدا عن صخب الناس . أتطلع إلى تهدئة أعصابي وتحسين مزاجي . خلوة أجدد بها شحن طاقتي ، تمنحني شعورا بالحرية من قيود الحياة.
من  شرفة "كومندانسيا" المحاذية لبرج اليهودي ، وقفت مطلا على ضفاف نهر لوكوس مسافرا عبر الزمن ، مستحضرا زمن الفنيقيين ، الوطاسيين والسعديين ، وحضارات عديدة تعاقبت على هذا الوادي . هواء عليل يصعد إلى وجهي ،  أنظر إلى حركة المراكب يحلق فوقها سرب أبيض من النوارس بمرسى المدينة ، لحت ببصري نحو أطلال ليكسوس القابعة فوق هضبة "الشميس" ، المدينة  الأسطورة ! مدينة شامخة ضاربة في القدم تتنفس عبق التاريخ . استغرقت في التأمل أقلب بين ثنايا الماضي البعيد . تماثلت أمام أعيني معركة "المليحة" ضد البرتغاليين على ضفاف النهر ، وهجمات الإسبان والفرنسيس على ثغر العرائش من جهة البحر . وقفت ساهما في مكاني برهة ، صرت هائما على وجهي ، وما هي إلا لحظات حتى تهادى إلى مسمعي صوت شيخين طاعنين في السن يجلسان القرفصاء وراء جدران مسجد الأنوار ، منهمكان في لعبة الورق .
في المساء ، يتحول فضاء كومندانسيا إلى مرتع لشيوخ نالت منهم تضاريس الزمن فاحدودبت ظهورهم ، يشعرون بالتعب بعد كل هذه السنوات التي أثقلت كواهلهم ، معظمهم من جنود "ريجولاريس" قاتلوا بضراوة إلى جانب فرانكو بإسبانيا . يفترشون قطع الكارتون وينغمسون في لعبة الورق و"ضاما" قصد التلهي وقتل الوقت ، وكأنه آفة لا بد من قتلها . ينتحي الفيلالي إحدى زوايا الساحة رفقة غريمه في اللعبة الحارثي وهو بحار سابق أنهكه تجديف القوارب ، أما الفيلالي فهو جندي متقاعد خدم فرانكو بإخلاص ، وفقد عينه اليسرى بإحدى معارك الحرب الأهلية الاسبانية الشرسة .
راقني حديث الرجلان ، ساورني الفضول فأقتربت منهما أكثر وأقتعدت مصطبة إسمنتية ، عدلت جلستي ورحت أراقبهما لأستمتع بالنزال الذي أخذ يحمى وطيسه . خمنت أنهما يلعبان "الروندا" . على الرغم من إعاقته البصرية إلا أن الفيلالي لاعب ذكي ، وهو الذي راكم خبرة واسعة في خبايا لعبة "الروندا"، يحسب أوراقه جيدا ويلم بكل تقنيات اللعبة وهفواتها المحتملة ، فيما الحارثي شخص عنيد لا يستسلم بسهولة ، يحاول مجاراة ألاعيب وحيل خصمه الماكر ، وبعد محاولة يائسة منه لتخمين ما تبقى في يد الفيلالي من أوراق ، يسقط الحارثي مهزوما أمام خصمه اللدود الذي أطاح به بضربة "ميسا" القاضية .
بعد برهة قصيرة ، أقبل شيخ مبتور الساق طويل القامة بخطى حثيثة ، كان يعتمر عمامة صفراء ، يمشي ببطئ على عكازه الخشبي ويدعى "السرجان اليزيد" ، جلس القرفصاء وانضم إلى الرجلين في لعب "الكارطا" ، هذه المرة قرروا أن يلعبوا "صوطا" ، وهي لعبة تقتضي أن تتخلص من كل أوراقك ومن بقيت ورقة "صوطا" وحيدة في يده في الأخير فهو الخاسر الأكبر . قام الحارثي بتوزيع الكارطا بالتساوي بين اللاعبين بعد "ضمسها" ، التقط الثلاثة أنفاسهم وشرعوا في اللعب بتركيز  وخشوع فائق .
احتدمت المنافسة وبدا الفيلالي متفوقا منذ الوهلة الأولى ، كيف لا وهو اللاعب الماكر ! أخذت الأوراق تتآكل من بين يديه ، فيما ملامح الغضب علت قسمات وجه اليزيد ، كيف يقبل السرجان بهزيمته أمام جندي كان البارحة يشتغل تحت إمرته في الجيش الإسباني ، أضف إلى  ذلك أنه كان مقربا من الجنرال الريفي أمزيان الذي كان قائدا عاما لجيش"ريجولاريس" طيلة مدة الحرب الأهلية . أخذت الشكوك تراود اليزيد وهو يرى غريمه الفيلالي يتخلص من أوراقه بسرعة البرق ، كان يظن أنه يغشه ، استشاط غضبا وأخذ يصرخ وينعت جنديه السابق بالقديس الأعور ، فيما لبث الفيلالي صامتا يتحمل الشتائم من طرف رئيسه السابق في الجيش ، يتابع لعبه برباطة جأش دون أن يغفل عن السبحة التي لا تفارق يده اليمنى ، وأخيرا استنفذ كل أوراقه وانسحب منتصرا من لعبة "صوطا" وهو في حالة انتشاء .
أطلق السرجان اليزيد زفرة قوية واستجمع قواه من جديد لمواجهة خصمه الآخر العنيد الحارثي .
في هذه الأثناء بدا واضحا أن الحارثي يتقدم عليه ، وملامح النصر تلوح في الأفق ، صعدت فورة الدم إلى رأس السارجان واصبح يشعر بالتوتر سيما وهو يقترب من الهزيمة ، صاح بقوة في وجه الحارثي بعدما أمطره بوابل من نعوت قدحية قائلا : أنت غشاش يا (مول المقذف) ، أنت مجرد جداف قوارب ، محاولا أن يحط من قيمته  .
فما كان من الحارثي إلا أن رد الصاع صاعين منتفضا في وجه السرجان اليزيد مرددا :  - أخرس يا "بورجيلة وحدة" ، لا يعور ولا يعرج إلا البلا المسلط ! لحظتها ، تدخل الفيلالي بعدما أخذته العزة مؤازرا رفيق دربه معتقدا أن الحارثي أهانه هو أيضا كونه أعور العين اليسرى . صار المشهد ضاجا بالصراخ وتحول إلى مشادة عنيفة ، رفع السرجان عكازه وهش بها على الحارثي مما زاد الوضع تأججا ، لكن الفيلالي تصدى له ومنعه قائلا : هدئ من روعك يا أحمق ، هل فقدت عقلك ، هذا لعب الدراري ! نحن في لعبة "كارطا" ولسنا في معركة ضد "الروخوس". في خضم هذا الصخب وزوبعة الأصوات صدح المؤذن السربوت بصوته الجهوري من أعلى المأذنة وكأنه يعلن نهاية المنازلة ، ليمتثل الجميع للآذان ويعود الهدوء . حملق الثلاثة في وجوه بعضهم البعض مطلقين ابتسامة الصلح والرضا ، وقاموا مهرولين لصلاة المغرب وكأن شيئا لم يحدث ، فيما ظل السرجان متأخرا يجر عكازه .