الخميس 25 إبريل 2024
فن وثقافة

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (10)

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (10) عبد الصمد الشنتوف مع مشهد من مشاهداته في لندن

صبيحة الأحد، جل المحلات التجارية تكون مغلقة، الشوارع خالية من المارة، أمشي على رصيف شارع هارو رود. كان الطقس مشمسا، أستنشق هواء رطبا، نسيم لطيف ينبعث من الوادي يداعب وجهي. أنظر إلى سماء لندن وأجدها صافية زرقاء وقد هجرها الضباب الكثيف.

لم يكن يفصلني عن مقهى كازابلانكا سوى جسر حديدي يعبر بك إلى شارع غولبورن رود. هناك على يمين الرصيف يقع المقهى، ملتقى معظم المهاجرين المغاربة خلال الويكاند. ولجت الباب وكان أول ما وقعت عليه عيناي هو صاحب المقهى مصطفى، أشار لي بالجلوس إلى جنبه على طاولة يتقاسمها مع مهاجرين اثنين، عبد الله وأحمد اللذان تربطهما به علاقة صداقة. سألني مصطفى عن أحوالي وكان على دراية بقصتي مع عبدالملك، أخبرته أني بخير، أقيم حاليا في بيت شرقاوي وأشتغل بإحدى ورشات الأحذية في شرق لندن. أفرحه الخبر وعلت محياه ابتسامة طيبة ومودة ثم طلب لي شاي بالنعناع. هكذا هو مصطفى الذي عرفته، رجلا مضيافا كريما.

انهمكنا في حديث مطول كان بطله السيد أحمد هذه المرة. أجواء المقهى ملبدة بدخان السجائر والضجيج يحيط بك من كل جانب. لا مكان فيه للنساء وكأنك في مقهى با عبد الله بالعرائش. رجال يلعبون الورق وبارشي، يتضاحكون في جو من الصخب والضوضاء وآخرون منغمسون في حديث المهاجرين.

قدمني مصطفى إلى صديقيه كطالب جامعي من العرائش حديث العهد بالزيارة. بدا عبدالله كرجل وديع ومتواضع في جلسته. يرتدي قميصا بسيطا، أصلع الرأس وفي لسانه لكنة جبلية، بينما أحمد بادية عليه مظاهر الأناقة والتمدن يظهر ذلك من خلال وضعية جلسته وتسريحة شعره. يضع أحمد نظارات سوداء من نوع "راي بن" فوق جبينه، كما يضع رجلا فوق الأخرى ممسكا بسيجارة مارلبورو، يجذب منها نفسا عميقا ثم يشفط الدخان في الهواء بانتشاء شديد.

 

وصل أحمد إلى بريطانيا في بداية الستينيات قادما من طنجة مع إحدى فرق السيرك العالمي. رجل طويل القامة، متجعد الوجه، قليل الابتسامة، شعره أسود مموج وكأنه واحد من الغجر. إذا رأيته تحسبه عملاق بابل، أو الممثل الامريكي "أرنولد شوارينزجر" في ضخامة جسمه القوي. كان أحمد يلعب دور "الرفاد" في السيرك، يحمل على كتفيه الواسعتين أهراما بشرية يبهر بها المشاهدين في عروض مذهلة. يتكلم بلكنة طنجاوية قوية، ينطق حرف القاف همزة لا تتناسب مع ضخامة شكله. عندما يستغرق في الحديث يمط شفتيه ويرفع عينيه نحو السماء وكأنه يرتب أفكاره في ذهنه، ثم يسترسل متحدثا عن مغامراته وحكايات بطولية عاشها مع الإسبان في طنجة الدولية خلال فترة الاستعمار. حظه من التعليم بسيط لكنه يمتلك مخزونا هائلا من تجارب الحياة في ذاكرته. يستأثر بالكلام ويحب أن يكون محط أنظار السامعين. حاولت أن أقاطعه مرة وأشاركه الحديث قائلا:

- والدي كان يمتلك بيتا بحي مرشان في طنجة خلال الستينيات قبل أن يستقر في العرائش كمدرس بالتعليم، لكنه لم يعبأ بما أقول ولم يعر لحديثي أي اهتمام. لا صوت يعلو على صوت أحمد في مجلسنا. عندما يشرع في الكلام يبقى لك فقط واجب الإصغاء إليه باهتمام بالغ وكأنه المهدي المنتظر يحدثك عن علامات الساعة. أحيانا يحدق في وجه مصطفى وينصت إليه باكتراث بالغ، لا أدري لماذا؟ ربما لأنه صاحب مقهى ووضعه يستدعي بعض التزلف كما يفعل كثير من الناس.

 

 كان أحمد يرتدي قميصا صيفيا راقيا ذي ماركة عالمية، يميل إلى لون تركواز وفتحة على صدره العريض كما لو كان يستعرض عضلاته على الناظرين. تطوق عنقه سلسلة ذهبية لامعة تضم حرف "A" ترمز لاسمه. كان شديد الافتخار بطنجة، مزهوا بنفسه إلى حد التباهي. متزوج بامرأة اسبانية من الشمال ويعشق فريق ريال مدريد لكرة القدم كعشقه للغة الإسبانية. يذكرني إلى حد كبير بغريمه العرائشي الحلاق العربي موخيكا عاشق فريق برشلونة الكاطلاني.

يقول إنه عندما غادر السيرك خلال السبعينيات امتهن مهنة الفندقة بفنادق مصنفة وسط لندن، وبدأ يخالط المهاجرين المغاربة الذين للتو وصلوا إلى بريطانيا. انضم إلى نشاطهم في الوداديات، ونسج علاقات مع بعض موظفي القنصلية، كان يتباهى بمعرفتهم ويتزلف إليهم خلال الأعياد الوطنية فزاده ذلك قيمة ونفوذا في أعين الناس كما كان يتوهم. استرسل في حديث ثقيل عن صديقه العربي الشاوي وهو أحد رؤساء وداديات المهاجرين بلندن، استغرق في وصف مبالغ فيه عن صديقه وكأنه الزعيم فرحات حشاد. قاطعته مرة وخضت معه في حديث السياسة منتقدا أوضاع المغرب زمن الجمر والرصاص، فلم يرقه حديثي واعترض علي بشدة. غضب مني ونعتني بالشاب المتهور الذي لا يدرك قيمة حب وطنه وملكه. فازداد وجهه تجهما لما علقت على عتابه بكلام ماكر قائلا: يبدو أن دروس التربية الوطنية التي تلقيتها في ردهات الوداديات أتت أكلها، فرماني بنظرة ازدراء متبرما مني.

فجأة، في خضم هذا الحديث "الوطني" الممل، دخل علينا رجل في الستين من عمره، قصير القامة، أصلع الرأس، يرتدي بدلة أنيقة سوداء مع ربطة عنق حمراء. سلم علينا جميعا بابتسامة ودودة ثم تقدم إلى أحمد فعانقه بحرارة ملفتة. شكله يوحي أنه رجل أعمال مستعجل في أمره. جلس معنا هنيهة، فقام مغادرا على وجه السرعة بعدما خاض في حديث ثنائي مقتضب مع أحمد.

 

سألت أحمد على الفور:

- من هذا الرجل؟ !

أجابني بزهو:

- هذا رجل عظيم سيذكره التاريخ، إنه معلمي في صنعة السيرك، جلبني وجلب العشرات من أمثالي إلى أوروبا، اسمه علي الحساني.

فقلت له في حماس زائد:

- نعم، نعم سمعت عنه عندما كنت في المغرب، يلقبه الشباب بالمقدم الحساني، لقد جلب العديد من أصدقائي للاشتغال معه في سيركه العالمي.

ثم بادرته بسؤالي:

- حدثنا عنه لو سمحت سيد أحمد؟ !

وكانت فرصة سانحة للهروب من حديث الوداديات المقرف.

 

انطلق أحمد في حكايات مشوقة ومذهلة عن حياة هذا السوسي العظيم وتلميذه الطاهر دويس الذي لم أسمع به من قبل.

وأخذ يروي عن حياته ببعض التفاصيل  :

"كان علي طفلا أمازيغيا صفيقا وذكيا، يقطن بإحدى دواوير أوريكا قرب مراكش، ينحدر من أسرة فقيرة مكونة من ثلاثة عشرة إخوة وكان في الترتيب السابع بين إخوته، انضم إلى إحدى فرق أولاد حمادة موسى الصوفية التي حلت ببلدته وهو ابن السادسة من عمره، فأخذ يطوف معهم بين الدواوير والقرى في كل ربوع المغرب، يقومون بعروض بهلوانية ساحرة بهدف الفرجة وتوزيع البركة على الناس حتى استقر به الحال في ساحة جامع الفنا بمراكش. وفي الثلاثينيات من القرن الماضي اختطفه رجل يدعى "محند" الذي كان يشتغل مع سيرك أوروبي وهو طفل ابن السابعة من عمره، فتم نقله الى إسبانيا حيث أخذت حياته منعطفا مختلفا مع بداية الحرب الأهلية الإسبانية. ظل يشتغل ويتدرب معهم في السيرك إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يكن يتقاضى أي أجر مقابل عروضه، فقط كان يعطى له الطعام والمأوى وضروريات الحياة العادية. ولما اشتد عود الطفل وبرزت مهاراته، بدأ يتنقل مع السيرك بين دول أوروبا إلى أن انتقل البهلوان الموهوب إلى بريطانيا بداية الخمسينيات بعد أن حصلت فرقته على عقد مع السيرك البريطاني "بيلي سمارت". خلال اشتغاله هناك ستقع في حبه شابة تدعى تمارا وهي ابنة بهلواني شهير يدعى "كوكو بولاكوفس" سيتزوجها علي لاحقا، ومن تم ستأخذ حياته منعطفا مثيرا مع زوجته الشقراء. أسس الاثنين لفرقة جديدة من البهلوانيين ولاعبي الجمباز المغاربة. جلبهم الحساني عبر وكلاء مختصين. في هذه الأثناء قامت الفرقة بعروض ساحرة في معظم دول أوروبا. وفي منتصف الستينات سيذاع اسم الحساني عبر وسائل الإعلام سيما وأن فرقته قامت بعروض متألقة ستبث على إذاعة بي بي سي البريطانية من مسرح هيبودروم الشهير وقاعة رويال ألبرت بلندن. كانت الفرقة تقوم بحركات استعراضية مبهرة حيث يتجمع لاعبو الجمباز المغاربة على أشكال أبراج وأهرامات بشرية تتطلب كثيرا من الدقة والتوازن من مراكز القمم إلى مراكز القواعد. دفعته شهرته وعروضه الناجحة إلى إطلاق سيرك خاص به تحت اسم "سيرك الحساني ببريطانيا"، ويعد أول سيرك عالمي بلا حيوانات. ومنذ بداية الثمانينات استقر به الأمر بحديقة حيوان شيسينغتون في ضواحي لندن حيث سيظل يقدم عروضه الساحرة هناك بنجاح كبير".

 

أما تلميذه المراكشي الطاهر دويس فقصته مشابهة كمت يروي المهاجر أحمد لكنها غريبة الأطوار:

"كان طفلا نشيطا وذكيا ينحدر من حي القنارية بمراكش، مولعا بالألعاب البهلوانية وترويض الأفاعي. انضم لفرقة "الحمادشة" وعمره لم يتجاوز ست سنوات، وامتهن الحلقة بساحة جامع الفنا لمدة عشر سنوات كان يؤدي حركات استعراضية تشد لها الأنفاس. لقد كان طفل الخوارق والمغامرات. مع منتصف الستينيات سيلتقطه وكيل سيرك عالمي يدعى الشتوكي بعدما لاحظ فيه مهارات عجيبة. أخذه معه إلى سيرك بألمانيا وسنه لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره. لم يطل مقام الطاهر طويلا هناك حيث التحق بسيرك أستاذه الحساني الذي كان بدأ يشق طريقه نحو النجومية ببريطانيا. ظل يؤدي عروضا احترافية هناك حتى دخل كتاب "غينيس" للأرقام القياسية بعد تمكنه من حمل "هرم بشري" مكون من 12 شخصا ويزن أكثر من 770 كيلو في إحدى العروض المثيرة بمدينة برمينغهام. فذاع صيته عبر العالم وأصبح اليد اليمنى للأسطورة المقدم الحساني في عالم السيرك. مع مرور الوقت سيلفت انتباه "بوب تايغر"، وهو أحد المصارعين المشاهير عبر التاريخ الذي كان يعمل في سيرك "إخوان رينغلينغ" الأمريكي. بعدها سيرحل مع السيرك إلى لاس فيغاس وهناك ستبرز قوة الطاهر الخارقة في ترويض الأسود والتماسيح. فتفتح أمامه أبواب الشهرة العالمية إذ أضحى يلقب ب"طرزان الأسود"، ويعد الطاهر أول شخص عبر التاريخ يضع رأسه الحليق بين فكي تمساح خلال عروض السيرك".

 

في مشهد رهيب، يتقدم الطاهر ذي البشرة السمراء والجسم الضخم إلى حلبة السيرك لتقديم عرض مصارعة التماسيح. كان حليق الرأس، يرتدي لباسا من قطع جلود النمر وكأنه من الهنود الحمر جاء قادما من أدغال الأمازون. يجلس على ركبتيه ويبدأ يحدق في عيون التمساح وكأنه يحاوره في موضوع ما. إنه رجل مغامرات وخوارق يحب المخاطرة بنفسه. أخذ علومه ومهاراته في مصارعة الوحوش على يد فرقة الحمادشة الصوفية منذ صغر سنه. يأخذ عصى طويلة فيلكز بها الوحش كي يستفز بها التمساح الفتاك الذي يفوق طوله خمس أمتار، فتهتز المدرجات بصياحات المتفرجين. يرجع قليلا إلى الوراء فيقوم بحركات استعراضية غريبة ليغيض بها التمساح، الذي هو الآخر يرسل صراخا لاستشعاره للتهديد. يمسك الطاهر بالوحش ويوقفه على شكل مستقيم، ثم يلصق رأسه الحليق بعنق التمساح فيأخذ في دفعه نحو الأمام في مشهد سوريالي مرعب والوحش لا يقوى على الحركة. فينغمس الجمهور في ولولة وصراخ وكأنهم أمام فيلم رعب. بعد ذلك يقترب الطاهر من التمساح أكثر ويلوح له بأصبعه فيقوم بتقبيله. يضع يده على رأسه ويهمهم بشفتيه وكأنه يقرأ عليه ترانيم عبد الله بن حمدوش. فيتسمر التمساح في مكانه ويغمض عينيه، ثم يفتح فمه الضخم وكأنه يقول للطاهر أمنحك الأمان. بعدئذ يحرك ذيله الطويل وكأنها إشارة الرضى لخصمه في المصارعة. عندئذ يضع الطاهر يده داخل فم الوحش فيدخلها بين الفكين حتى تصل حلقه دون أن يصيبه بأذى كما لو كان طائر زقزاق يدخل إلى فم تمساح فيأكل ما تبقى من الطعام بين الأسنان، فيحصل الطائر على وجبة شهية كما يحصل التمساح على أسنان نظيفة دون أن يطبق عليه بفكيه. سبحانك يا بديع صنع الخلق! بعدها يمسك الطاهر بالتمساح فيعانقه وكأنهما في مشهد حميمي.

رجل أتى من عالم الغرائب، يروض وحشا بهذه الطريقة الخارقة. من يتحدى الطاهر في كل هذا؟ يضايقه تارة ويعبث معه تارة أخرى.

 

وفي مشهد خارق خطير، يقوم الطاهر بفتح فكي التمساح بيديه القويتين فيدخل رأسه بشجاعة مذهلة لبضعة ثوان ثم يخرجه بعد ذلك دون ان يمسسه الوحش بسوء. فتنهض الجماهير من فوق المدرجات واقفة على أقدامها تصفق دون توقف في خشوع وانبهار، بعدها يقف البطل المغربي وسط الحلبة ملوحا بيديه للمتفرجين. يؤدي لهم التحية وينحني لهم تقديرا لإعجابهم به، ثم ينصرف في جو رهيب بالصخب والتصفيق. بعد كل هذه العروض الساحرة صار اسمه متداولا بين الناس ووسائل الإعلام. أخذت شهرته تتسع من بلد لآخر، فلقبته الصحافة بـ "ملك التماسيح".

 

قيل عن المقدم الحساني أنه عاد إلى المغرب بعد أكثر من أربعين عاما في الغربة، ولم يجد أثرا لإخوته الاثنا عشر ببلدته الأمازيغية الأصل وكأن الأرض قد ابتلعتهم، فأمضى باقي حياته في ضواحي لندن وكأنه مقطوع من جذع شجرة...

في حين غادر تلميذه الطاهر بريطانيا سنة 1986 ليستقر في أمريكا مستمرا في أداء عروضه المثيرة، نفس السنة التي قدمت فيها إلى لندن. برقت في ذهني صورة ذلك المذيع الأمريكي على شاشة التلفاز وهو يصف الطاهر دويس... بالرجل الذي عانق الوحوش...