خيرني عبد السلام بين البقاء في بيته أو الانتقال إلى بيت مهاجر آخر يدعى مصطفى شرقاوي . لم أكن أعرفه ولاسمعت به من قبل، هو صديق حميم لعبد السلام على ما يبدو .
كان مصطفى متواجدا في المغرب يقضي عطلته الصيفية مع أسرته الصغيرة . تقاسمت البيت مع إدريس الذي كان حديث العهد بالهجرة مثلي . أخذت مكاني في غرفة مجاورة لغرفته داخل شقة متواضعة ، تقع في قبو المبنى بشارع أشمور رود .
عرفت إدريس كلاعب كرة قدم بالعرائش ، لم نكن نلتقي سوى نادرا داخل البيت الذي يجمعنا . كان يشتغل ليلا في إحدى المطاعم فيما كنت أشتغل نهارا بورشة الأحذية .
كان يوم أربعاء ، لا أحد يذهب إلى العمل ، الشوارع مليئة بالناس وكأنه يوم عيد . الشعب البريطاني في موعد مع الفرح والسرور . تشهد اليوم بريطانيا مراسم زواج الأمير أندرو وسارة فيرغسون وسط أجواء أسطورية تخيم على العاصمة لندن . لا حديث تلوكه ألسنة الناس سوى حديث زواج الأميرين . كان حدثا تاريخيا من العيار الثقيل .
كنت قد ضربت موعدا مع صديقتي سوزان بمحطة سانت جيمس بارك لحضور هذا الحدث التاريخي المهيب .
كان الطقس مشمسا رطبا ، ولم أكن أمتلك ملابس فاخرة تليق بهذه المناسبة . ارتديت قميصا أحمر ، وسروال جين أزرق مع حذاء رياضي . نفس البذلة التي انطلقت بها في رحلتي من العرائش، وهي أحسن ما أملك لحد الساعة .
غادرت البيت وقصدت محطة "وستبورن بارك" مشيا على الاقدام . تسلقت القطار مبتهجا وتوجهت نحو قصر باكينغهام الملكي ، حيث ستدور مجريات الحدث المشهود .
حط القطار بعد نصف ساعة بمحطة "سانت جيمس بارك" ، هرولت نحو المدخل الرئيسي حيث تنتظرني حبيبتي سوزان . اقتربت منها بشوق كبير ، ابتسامة مشرقة تشع من وجهها الملائكي المستدير ، شفتان حمروان ، عينان عسليتان وتصفيفة شعر مموج تسدله على كتفيها . إنها جميلة الجميلات جاءت لتؤثث بحضورها هذا الحفل الأسطوري وكلها أناقة وإثارة . ترتدي سوزان فستانا بنفسجيا من قماش الفسكوز ، تعبق منه رائحة عطر فرنسي ساحر كأنها بطلة فيلم آل باشينو الشهير "عطر امرأة" ، كانت ترتدي حذاء أسودا لامعا بكعب عال زادها فتنة وجمالا .
وقفنا برهة أمام مطعم "كنتاكي شيكن" . طلبنا وجبتين خفيفتين من الدجاج المقلي . قطع مقرمشة لذيذة متبلة ومرشوشة برقائق الذرة . نغمسها في صلصة مكسيكية حارة ونلتهمها مع قطع بطاطس مملحة على أنغام أغنية المغني الإنجليزي "كريس ديبورغ" "لدي إن ريد" . أغنية رومانسية فتنت عشاق العالم آنذاك .
خرجنا من المطعم، تابعنا سيرنا نحو قصر باكينغهام . أمسكت بيدها ثم أرختها، إحساس ناعم لا يقاوم . كانت أول مرة ألمس يد سوزان . أمسكتها مرة ثانية ، فالتصقت يدها بيدي وكأننا توأم سيامي . كنا نمشي في طريقنا وكأننا عاشقين إيطاليين من مدينة البندقية...على طريق قصر باكينغهام كان ينمو الحب !
تجمعت حشود ضخمة من الجماهير منذ ساعات الصباح خارج قصر باكينهغام للاحتفال بقران الأمير أندرو وسارة فيرغسون . حشود تدفقت من كل أنحاء بريطانيا وباقي أنحاء العالم . تعالت صيحات وأهازيج لحظة خروج العروسين من بوابة القصر حيث يصطف زهاء مليون شخص على الطريق بين القصر وكنيسة ويستمنستر أبي .
دفعني فضولي أن أتسلل وأخترق الصفوف نحو الأمام حتى أشاهد العروسين عن قرب . استحضرت في ذهني مشهد التزاحم عند بوابة سينما أبنيدا بمدينتي . كان سلوكا تلقائيا سلكته دون أن أشعر ، ككثير من سلوكيات منفرة جلبتها معي إلى بلاد الإنجليز ، لكن سوزان لم تكن لتبالي أو تتبرم مني .
لحظة امتطاء الأميرين للعربة الملكية الفارهة ، حضرتني حالة هي أقرب للهستيريا فبدأت أصيح بأعلى صوتي وألوح بيدي للأمير دون وعي مني ، حتى ظننته يعرفني : عاشت إليزابيث ! عاش أندرو ! تلبسني خشوع شديد وفرح كبير ، كان مشهدا عاطفيا جميلا ، لم أعد أستشعر حركاتي وكأن عقلي طار في الفضاء في حالة "نرفانا" . يقف بجانبي كهل إنجليزي فارع الطول ، يضع نظارات "راي بن" على جبينه ، ينظر إلي بعينين غائرتين وشفتين منقبضتين ، تخيلته غاضبا سيحتج علي أو يعاتبني ، لسان حاله يقول : وما موقعك من الإعراب من كل هذا أيها العربي الأبله ؟ .
كان الأمير يمشي مرتديا زيا رسميا للقوات البحرية فيما العروس ظهرت بفستان أبيض من حرير منفوش ، تسير على مهل وتجر ذيلا حريريا مثل الطاووس ، قيل إنه من تصميم المصممة "ليندا سييراش" . كان مشهدا رومانسيا رائعا يليق بزواج الأمراء . وضعت الأميرة سارة فيرغسون خاتم زواج مصنوع من ذهب ويلزي في بنصرها ، بينما كان خاتم الأمير من البلاتين الرفيع . حفل شارك فيه عدد كبير من المشاهير والشخصيات أمثال : إلتون جون ، جورج كلوني ، غاري لينكر ولاعب التينس جون ماكنرو.
كان العروسان يلوحان بيديهما الناعمتين من فوق العربة الملكية وسط حشد غفير من المواطنين . تسير العربة بسرعة بطيئة نحو كنيسة "ويسمنستر أبي" لاستكمال طقوس المراسم في حفل أسطوري بهيج ، أدار مراسم الزواج كبير أساقفة كانتربري الزعيم الروحي لطائفة الانجليكان .
عند مدخل الكنيسة قام الأمير بطبع قبلة حميمية على شفتي عروسه وسط صخب من هتافات الآلاف من المعجبين التي كانت تلوح برايات وطنية ملونة .
قبل بدء مراسم الحفل بساعات ، منحت الملكة الأمير أندرو وسارة فيرغسون لقب دوق ودوقة يورك .