الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

جمال المحافظ: الاعلام بين زمني الانتقال الديمقراطي والتناوب

جمال المحافظ: الاعلام بين زمني الانتقال الديمقراطي والتناوب جمال المحافظ
كثيرا ما يحلو للعديد من السياسيين والباحثين ومعهم جمهور من المتتبعين المغاربة، القيام بمقارناتما بين التجربة المغربية خلال حكومة " التناوب التوافقي" ما بين 1998 و2002 وفترة الانتقال الديمقراطي بإسبانيا ما بين 1975 1978 على الرغم من أن الجارة الشمالية للمغرب، حققت انتقالها في فترة وجيزة، بينما التناوب لم يكتمل،وتوقف مع " الخروج عن المنهجية الديمقراطية" آنذاك.
وبغض النظر عن الاختلافات ما بين تجربتي الملكيتين المغربية الواقعة شمال افريقيا والاسبانية بجنوب أوروبا على المستويات التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية، فإن ماجمع بين تجربتين الانتقال والتناوب،الى حد ما التشابه في طبيعة المرحلة التاريخية التي مرت بهما كلا التجربتين وسمتهماالمشتركة المتمثلة في رغبة الفاعلين من مختلف المواقع معارضة وموالاة لتجاوز وضعية الاستبداد والحكم الفردي الى تحقيق انتقال ديمقراطي سلمي وسلس مبني على قاعدة التوافق بين الطبقة السياسية لطي صفحة الماضي الأليم والتوجه نحو المستقبل عبر الديمقراطية.
فبمقتضى تدبير أعده الجنرال فرانكو الذي حكم البلاد بقبضة من حديد لأزيد من 40 سنة، استلم الملك خوان كارلوسسنة 1975 قيادة الدولة، وتوافقت القوى السياسية يمينها ويسارها للمضي قدما بالانتقال الديمقراطي مع ترك الخلافات والصراعات جانبا والتوجه نحو المستقبل الذي توج بالمصادقة على دستور جديد، في حين أن التناوب الذي كان " ثمرة تفاهم وتوافق سياسي" بين الملك الراحل الحسن الثاني و(الكتلة الديمقراطية )" صفقة تفاهم سياسي، مبني على الثقة، أكثر منه تعاقد مسطر"من أبرز نتائجها قبول قائد المعارضة عبد الرحمان اليوسفي الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية تشكيل الحكومة رقم 25 في تاريخ المغرب المعاصر.
توافق بين حكومة ديمقراطية ناشئة، والاعلام تعددي
بالمقابل يعود الانتقال الديمقراطي بإسبانيا، الى" ثلاثة لا عبين رئيسيين"، هم الملك خوان كارلوس الأول الذي قرر التوجه نحو الديمقراطية مباشرة وأضولفوصواريث، أول رئيس حكومة منتخب ديمقراطيا، والاشتراكي فليبي غونواليس الذي قضى في رئاسة الحكومة 13 سنة. وشكلت هذه التجربة حالة فريدة للتوافق بين حكومة ديمقراطية ناشئة، وبين وسائل الاعلام متعددة التوجهات ( فرانكوية، اشتراكية، جهوية ...).وبعد اجراء انتخابات 15 يونيو 1977، تعزز الانتقال الديمقراطي، باتخاذ عدة قرارات جريئة منها على الخصوص اعلان العفو العام، والاعتراف بكل الأحزاب بما فيها الحزب الشيوعي،واعداد دستور جديد وإلغاء الرقابة على الصحافة وحذف وزارة الاعلام وإحداث محلها وزارة للثقافة.
وتجدر الإشارة الى أن الانتقال الديمقراطي يعد دعامة الاتصال السياسي الذي يتأسس من واقع التفاعل في ما بين وسائل الاعلام والسياسة والمواطنات والمواطنين مما يجعله ينطوي على قواعد وتوقعات معيارية تبدو جد معقدة.
فعلى خلاف المغرب،ساهمت وسائل الاعلام الاسبانية، بدور حاسم في احتضان الانتقال الديمقراطي،واجتهدت الصحافة في ترويج خطاب جديد في مجالي السياسة والثقافة، مسايرة بذلك تطور النقاش السياسي في القضايا العامة، في الوقت الذي كان الإعلام في مرحلة ديكتاتورية فرانكو ينزع الطابع السياسي عن اهتمامات الجمهور، مع التركيز على قضايا بعيدة عن انشغالات الرأي العام.
الاعلام في زمن التناوب علاقة ملتبسة
وإذا كان هذا واقع حال الاعلام بإسبانيا بعد مرحلة فرانكو،فإن " التناوب التوافقي"،وإن حظي بترحيب وطني ودولي، فإن التأييد الذي لقيته هذه التجربة في بدايتها من وسائل الاعلام، سرعان ما تحول الى انتقاد لأدائها على صفحات الجرائد، خاصة بعدما "فشلت" الحكومة في إحداث تغيير عميق في قطاع الصحافة والإعلام والعمومي، وفي ظل عجز الطبقة السياسيةعلى فهم متطلبات هذا القطاع الاستراتيجي وخصوصياته المهنية.
فالمغرب وإن عرف على المستوى السياسي والدستوري والحقوقي، دينامية متواصلة زمن التناوب، إلا أن العلاقة مع وسائل الاعلام ظلت دائما تشكل فضاء للتوتر بين الدولة والصحافة، على الرغم من أن التحول الى الديمقراطية، غالبا ما يفضى الىنزاعات أساسية بين الحكومات والاعلام. كما أن الاختلاف حول مفاهيم حماية القيم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية والأمن القومي والنظام العام، والتي ما تتخذ في الغالب كذرائع ، لتبرير التدخل السياسي في الصحافة.
وعلى الرغم من ذلك، انتعشت الكتابة الصحفية،في مرحلة التناوب حول الذاكرة السياسية الوطنية بشكل ملحوظ،وتميز ما كانتتنشره الصحف، بجرأة كبيرة في تناول قضايا كانت تعد من المحرمات الى حين، بسبب "الخطوط الحمراء"والإفراط في ممارسة الرقابة الذاتية لدى معالجة ملفات التاريخ السياسي الوطني .وتنافست الصحافة المكتوبة، في هذا الصدد على تقليب صفحات الماضي، وحظيت هذه الحفريات الاعلامية باهتمام متزايد من لدن الطبقة السياسية ومعها فئات واسعة من الرأي العام، وهو ما مكن من احداث نقلة نوعية في التفكير والبحث.
كما سجل انتعاش ملحوظ في الاقبال على الصحافة، وعرف الأداء المهنينتيجة ذلك تطورا، مع الاستناد في تحليل المادة الصحفية على مقاربات تسند على قواعد المنهج التوثيقي، وتعزز المشهد الصحفي والاعلاميأيضا بالتحاق جيل جديد من الشباب ب" مهنة المتاعب"، من المتوفرين على تكوين عال.
الصحافة تخلخل يقينيات أحداث الماضي
وإذا كانت الصحافة قد تمكنت من أن نفض الغبار عن ملفات الماضي، بالتساؤلات حول ظروف وتداعيات بعض الأحداث، فإنها أثارت في المقابل جدلا واسعا،حول وظائف الصحافة، ودور الصحفي في تناول هذه الأحداث، التي عادة من اختصاص المؤرخين، لأن تحرير المادة الصحفية، تختلف عن الكتابة التاريخية، لتعامل الصحافة الفوري مع الأحداث بمنهجية اعلامية وتحويلها الى مادة صحفية، حتى تكون في مستوى ادراك فئات واسعة من القراء والمشاهدين والمستمعين.
هذه التحولات خلقت على مستوى أداء الاعلام، واقعا جديدا، وتخلخلت بموجبها يقينيات سادت لردح من الزمن حول فصول من أحداث الماضي التي طرحت وفق مقاربات مستجدة، وأعيد قراءتها وتحليلها بدون قيود في مرآة الصحافة.وخلقت هذه الوقائع المنشورة جدلا واسعا بين مختلف الأطراف الحزبية والحكومية والإعلامية، ومعها طرحت اشكاليات متعددة من قبيل ماهي حدود التماس بين الفاعل السياسي والصحافة، ودور الاعلام في زمن التناوب التوافقي .
الانتقال الديمقراطي:الصحافة أداة اتصال مستقلة
وإذا كانت الصحافة الاسبانية،تمكنت خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي من التحول الى أدوات اتصال مستقلة عن الحكومة وذات خط تحريري يعكس توجهات القائمين عليها بفضل أجواء الحرية ما بعد فرانكو،وساعد الاعلام على ترسيخ الديمقراطية،والارتقاء بمستوى العمل الصحافي، فإنه على العكس من ذلك ساد التوتر زمن التناوبما بين الصحافة والدولة، وانصب الجدل حول العلاقة الملتبسة في مراحل الانتقال الديمقراطيبين الفاعل السياسي والفاعل الإعلامي.
فالتناوب وإن " لم يكن تلك العصا السحرية التي تحقق المعجزات"، فإن وسائل الاعلام، جعلت قطاعات عريضة من المجتمع المغربي، تتوق الى"استعادة السنوات الضائعة"،لكن ابتداء من أواخر سنة 2000، وبعد" الخروج عن المنهجية الديمقراطية " في2002 بتعيين وزير أول تكنوقراطي من خارج الأحزاب السياسية، "وقع احكام للقبضة من جديد على الصحافة"، حيث تعرضت ثلاثة من الجرائد للمنعمن الصدور، ليس بحكم قضائي، وإنما بقرار حكومي.