Monday 22 September 2025
كتاب الرأي

نعيمة بنعبد العالي: التهكم عند كافكا.. ضحكٌ أسود في قلب المأساة

نعيمة بنعبد العالي: التهكم عند كافكا.. ضحكٌ أسود في قلب المأساة    نعيمة بنعبد العالي

اعتاد القرّاء والنقاد أن يروا فرانتس كافكا (1883-1924) كاتبًا للكوابيس البيروقراطية، نبيّ القلق والاغتراب، وصاحب عوالم مغلقة حيث الإنسان مطارد بقوانين لا يفهمها. غير أنّ هذه الصورة، على صدقها، تغفل بُعدًا أساسيًا في نصوصه: التهكم أو المفارقة الساخرة. فقد نقل أصدقاؤه أنّه كان ينفجر بالضحك حين يقرأ مقاطع من "المحاكمة" أو "المسخ" على مسامعهم. ضحك أسود، لكنه كاشف. ومن هنا يمكن القول إنّ التهكم ليس مجرد توشية، بل مدخل أساسي لفهم التجربة الكافكاوية. ليست أداة أسلوبية، بل هي رؤية للعالم ومنظور وجودي. ليست سخرية هدامة بل "مأساوية" أو "وجودية".

 

فهي تختلف عن السخرية الساخطة أو الهزلية. إنها:

 صامتة ومربكة: لا تهدف إلى إضحاك القارئ، بل إلى إشعاره بعدم الارتياح، والغرق في حالة من اللاعقلانية والعبث.

 مؤسسة على التناقض: التناقض بين الجهد المبذول وعدم جدواه، بين البحث عن العدالة واستحالة تحقيقها، بين الرغبة في الفهم واستعصاء العالم على الفهم.

غالبًا ما يكون بطل كافكا جادًا تمامًا في محاولته فهم النظام الذي يحكمه أو البحث عن خلاصه. السخرية تنبع من فجوة المعرفة بين القارئ، الذي يرى عبثية الموقف، والبطل الذي يستمر في محاولته.

 

1. التهكم البيروقراطي: القانون كمهزلة

في رواية "المحاكمة"، يُقدَّم القانون باعتباره مطلقًا، لكنه يُمارس في فضاءات هزيلة: جلسات سرية في علّيات مغبرة، موظفون يتشاجرون كالأطفال، بطل يُحاكَم دون أن يعرف جريمته. تمثل المحكمة ذروة السخرية البيروقراطية. فهي موجودة في كل مكان، لكن لا يمكن الوصول إلى قضاتها الحقيقيين. القوانين غامضة، والمواعيد غير محددة، والمحامون عاجزون. الجهد المبذول للدفاع عن النفس هو نفسه ما يقود إلى الإدانة. هذا التناقض يولّد تهكما واضحا: كلّما ازدادت الجدية الشكلية، ازدادت الكوميديا. هنا نجد ما يشبه "العقلنة البيروقراطية" التي وصفها ماكس فيبر، لكن كافكا يذهب أبعد: هذه العقلنة تتحوّل إلى عبث كامل.

 

2. التهكم في مواجهة السلطة الأبوية والسياسية

في "رسالة إلى الأب"، تتحوّل صورة الأب إلى كاريكاتور أسطوري: رجل ضخم يملأ المكان بصوته، يتحكم في تفاصيل البيت. المفارقة أنّ المأساة الشخصية تتحوّل، عبر المبالغة، إلى مشهد شبه هزلي.

وفي "المستعمرة العقابية"، تُوصف آلة التعذيب بدقة تقنية تكاد تكون علمية: مسامير، إبر، تعليمات. لكنّ هذه الدقة المفرطة تجعل الجهاز مثيرًا للسخرية بقدر ما هو مرعب. إنها صورة لسلطة تفقد هيبتها حين تُقدَّم كما لو كانت لعبة ميكانيكية. هنا يلتقي كافكا مع ما سيحلّله ميشيل فوكو في "المراقبة والمعاقبة"، حيث السلطة تعمل على الجسد بدقة "علمية".

 

3. التهكم:المهانة اليومية

في "المسخ"، حين يستيقظ غريغور سامسا وقد صار حشرة، يكون همّه الأول ألا يتأخر عن القطار. إنّه مشهد مفارق: كارثة وجودية تُختزل في قلق وظيفي. الجسد الحشري، العاجز عن قلب نفسه أو فتح الباب، يتحوّل إلى صورة هزلية للمهانة الإنسانية.

كافكا هنا يكشف تفاهة الحياة العصرية: حيث تتحوّل الوظيفة إلى معيار القيمة، وتصبح الكارثة نفسها مشبعة بالمفارقة الساخرة.

 

4. الضحك كوعي مأساوي

التهكم عند كافكا ليس أسلوبًا فحسب، بل موقف فلسفي. فهي تذكّر بأنّ العالم يبدو منظّمًا، لكن التنظيم لا يقود إلا إلى طريق مسدود. هنا يلتقي كافكا مع سورين كيركغارد، الذي رأى أنّ التهكم هو وعي سلبي يكشف بطلان المعنى الظاهري للعالم.

ضحك كافكا هو ضحك على حافة الهاوية: الشخصيات تطيع القوانين، لكن القوانين تحكم عليها بالعدم. النظام موجود، لكنه يقود إلى الفراغ.

التهكم يتحوّل إذن إلى وعي وجودي يواجه العبث بالابتسام.

 

يدخلنا كافكا في شبكة من الآليات السردية التي تجعل القارئ يعيش المفارقة بدل أن يسمعها.


 يستخدم كافكا بعض الأدوات لتحويل المفارقة إلى تجربة حيّة:

تضخيم بيروقراطي: يرفع التفاصيل الإدارية إلى مرتبة ملحمية ويظهر القانون أو النظام، المفترض أن يكون عقلانيًا، كآلة عبثية.

مثلا في المحاكمة يصف قاعات المحكمة، السلالم، الملفات، بإلحاح مفرط حتى يغدو "النظام" بلا منطق، فيثير الضحك والقلق معًا.

منطق مقلوب (Logique inversée)

كل شيء يتبع منطقًا صارمًا… لكن هذا المنطق يقود إلى اللامعقول.

ما يجعل القارئ يسلّم بالقواعد ثم يكتشف عبثها.

مثلا في"المستعمرة العقابية" يصف آلة الإعدام بدقة علمية يجعل الرعب يبدو "معقولًا" إلى أن ندرك جنونه.

 كافكا لا يكسر المنطق تمامًا، بل يتبعه إلى نهايته العبثية. الشخصيات تحاول التصرف بعقلانية وبمنطق في وضع غير عقلاني أساسًا.

مثال: في "المحاكمة"، يحاول يوزف ك. استخدام منطق القانون للدفاع عن نفسه ضد تهمة غير معروفة. محاولة تطبيق المنطق على اللامنطق هي في ذاتها صورة كاريكاتورية مأساوية.

فيظهر أن "المنطق" الذي نثق به في عالمنا قد يكون عديم الفائدة تمامًا في مواجهة قوى لا نفهمها (السلطة، القدر، الموت).

 

المزج بين الواقعي والغرائبي

 يبدأ النص بوضع مألوف ثم يزجّ بعنصر فانتازي بلا مقدمات.

ما يقوّض ثقة القارئ في "الطبيعي".

مثال: في "المسخ" يتحوّل غريغور سامسا إلى حشرة في جملة واحدة، بينما يواصل القلق بشأن عمله وكأن لا شيء حدث.

هناك نوع من الواقعية السحرية (قبل أن يُصطلح عليها): كافكا يقدم اللامعقول على أنه أمر عادي. لا يوجد شرح أو تفسير خارق للطبيعة للتحول في "المسخ" أو لطبيعة المحكمة. هذا القبول السردي للحدث الخارق كجزء من الواقع يزيد من إرباك القارئ وقبوله له.

 هدف كافكا من هذا الأسلوب (الكاريكاتور + المبالغة + الأسلوب الواقعي) هو:

تضخيم التجربة: لجعل القارئ يشعر بشكل مكثف وغير مريح باغتراب الإنسان في المجتمع الحديث، وبعجزه أمام الأنظمة التي خلقها بنفسه ولكنها تحولت ضدّه.

كسر الحاجز: الواقعية المفرطة في الأسلوب تجعل العالم الكابوسي قابلًا للتصديق ومريبًا. لو استخدم كافكا لغة شعرية أو خيالية بحت، لكان التأثير أقل رعبًا.

خلق التهكم المأساوي: الفجوة بين الجدية التي يعامل بها البطل عالمه الكاريكاتوري وبين يأس موقفه هو مصدر السخرية المرة التي لا تثير الضحك، بل التأمل والرعب.

  كافكا يخلق عالمًا كاريكاتوريًا باستخدام تقنية المبالغة، لكنه يصفه بأسلوب واقعي جاف لتعميق الشعور بالعبثية والتهكم الوجودي.

 المفارقة بين اللغة والحدث

يستعمل كافكا لغة هادئة، شبه قانونية، ليصف كوارث وجودية.

هذه المسافة الباردة تولّد ضحكًا أسودا.

مثلا السرد الجاف لوضع سامسا أو لجلسات المحكمة يزيد وقع العبث.

الواقعية في الأسلوب: هنا يكمن سحر كافكا و سخربته الأساسية. يصف عالمًا كاريكاتوريًا ومبالغًا فيه، إلا أنه يستخدم لغة واقعية خالية من كل حرارة عاطفية، ومحايدة، وتفصيلية دقيقة جدًا، كما لو كان يكتب تقريرًا محاسبيًا أو خبرًا صحفيًا.

مثلا وصف حشرة غريغور سامسا في "المسخ" دقيق جدًا (قشرة صلبة، بطن مقسم، أرجل صغيرة ترفرف). الوصف يشبه عالمًا طبيعيًا، وليس كابوسًا.

هذا التناقض بين غرابة الحدث وعادية الأسلوب هو ما يخلق التهكم الكافكاوي المميز ويجعل القارئ في حالة من الارتباك والقلق. العالم مجنون، لكن الجميع يتعامل معه بجدية تامة. هذا هو الكابوس الحقيقي: الجنون المُعقلَن.

كافكا يُجسّد المفارقة بدلاً من أن يصفها:

يلبس الرعب ثوب العادي.

يعامل المضحك بجدية علمية.

يوحي بدوائر بلا مخرج عن طريق التكرار والمتاهات والنهايات المفتوحة. هذا ليقوي الاحساس بأن العبث أقوى من أي حلّ، فيتحوّل الخوف إلى ابتسامة مُرّة، فمثلا رحلة "ك" في القلعة لا تنتهي ولا تتقدم.

يجعل القارئ يتواطأ مع عبثٍ يدرك في النهاية أنه غير معقول.

قد نتساءل لماذا لا يرتبك القارئ في ظل كل هذه المفارقات؟

لأن كافكا لا يقدم له شيئاً ليربكه بشكل مباشر. بدلاً من صدمة واحدة كبيرة، يقدم سلسلة من الصدمات الصغيرة والمقبولة.

لا يوجد "سر" لحل هذا السر: القارئ لا ينتظر تفسيراً، لذا لا يشعر بالإحباط لعدم وجوده.

الاستعارة تغلب على الحَرفية: بسرعة، يتوقف القارئ عن قراءة النص كقصة خيال ويبدأ في قراءتها كاستعارة قوية عن المرض، الاغتراب، العبء الاقتصادي، وانحلال الروابط الأسرية. في هذا المستوى، تصبح ردود فعل العائلة، رغم قسوتها، مفهومة بشكل مأساوي.

كافكا لا يدخل القارئ في دوامة الارتباك، بل يدخله في دوامة القبول المتواري لللامعقول. القارئ، مثل غريغور وعائلته، يتعلم العيش داخل الكابوس بدلاً من محاولة الاستيقاظ منه. وهذا هو أكثر أنواع الرعب كافكاوية: الرعب الذي يصبح جزءاً من الأثاث.

ولهذا نجد أن بطل "المحكمة" هو أيضا يقبل الحكم

بهذه الآليات، تصبح السخرية الكافكاوية تجربة وجودية كاملة: ضحكٌ يفتح على الوعي.

 من جهة أخرى، يمكن الحديث عن أشكال متعدّدة لسخرية كافكا، لأن نصوصه لا تعتمد نوعًا واحدًا من التهكّم، بل شبكة من المستويات يتداخل فيها الاجتماعي والفلسفي واللغوي.
 أبرز هذه الأشكال :

 السخرية الوجودية

جوهرها: يواجه الإنسان عبث الكون وهو يتصرّف كما لو أن كل شيء منطقي.

مثال: القلعة، حيث يطارد «ك.» هدفًا لا يتحقق أبدًا.

أثرها: تخلق شعورًا بأن الحياة لعبة بلا قواعد ثابتة، فيبتسم القارئ رغم القلق.

 السخرية الجسدية (Grotesque)

جوهرها: تحويل الجسد إلى مصدر هزل ومهانة.

مثال: تحوّل غريغور سامسا إلى حشرة في المسخ، وعجزه المضحك عن قلب نفسه.

أثرها: يُعرّي هشاشة الكائن البشري، فيمزج الرعب بالضحك.

 السخرية اللغوية

برودة وابتعاد. لا شفقة ولا لين. لا حنان و لا رحمة أمام المواقف الكارثية، أمام بشاعة آلة الاعدام مثلا.

ما يخلق تناقضًا بين جمود التعبير وفداحة الحدث.

 استعمال كافكا للغة قانونية وإدارية جافة لوصف أحداث غير منطقية (مثل وصف الحشرة في "المسخ" بلغة علمية زائفة) يخلق سخرية لاذعة. اللغة، التي من المفترض أن تنقل الوضوح والحقيقة، تُستخدم هنا لإخفاء الغموض والعبث.

حوارات تفتقر إلى التواصل، حوارات الصم. شخصيات كافكا تتحدث، ولكن نادرًا ما تفهم بعضها بعضا. الحوارات تدور في حلقات مفرغة، كل شخصية تنطلق من افتراضاتها الخاصة. هذا يخلق تهكما تراجيدي حول استحالة التواصل البشري الحقيقي في عالم مفكك.

تواصل مستحيل: البطل (ك.) يحاول يائسًا الوصول إلى القلعة (السلطة، النظام الإلهي، المركز) للاعتراف به كمساح، لكن كل محاولاته تبوء بالفشل. كلما حاول الاقتراب، ازدادت القلعة غموضًا وبعدًا.

وساطة في ضلال: الأشخاص الذين من المفترض أن يساعدوه (مثل بارناباس وأسرته) هم أنفسهم ضالون ومنبوذون. المساعدون لا يقدمون أي مساعدة حقيقية.

أمل كاذب: النظام الإداري للقلعة يبعث برسائل ووعودًا غامضة تمنح ك. بصيص أمل، لكنها في الحقيقة لا تعني شيئًا أو تُفسَّر بشكل خاطئ، مما يزيد من حيرته ويأسه.

التصاق بالبطل: كافكا دائمًا يروي الأحداث من خلال وعي البطل المحدود والمشوش. القارئ لا يعرف أكثر مما يعرفه البطل. هذه التقنية تضع القارئ في حالة ارتباك وقلق، بدلاً من أن يكون مجرد مراقب خارجي. فهو لا يشاهد الكابوس، بل يعيشه.

السخرية الميتافيزيقية

جوهرها: تلميح إلى فراغ المعنى الكوني، وكشف عبث البحث عن "نظام أعلى".

مثال: شخصيات تطيع قوانين غامضة لا تفسَّر أبدًا، وكأنها تتبع إلهًا ساخرًا.

أثرها: يدفع القارئ إلى التساؤل عن جدوى الحقيقة نفسها.

 السخرية الاجتماعية المريرة

جوهرها: نقد ناعم للمجتمع البرجوازي، للعائلة، للعمل، وللأعراف الصغيرة.

مثال: اهتمام سامسا بموعد القطار أهم من تحوّله المروّع.

أثرها: إظهار تفاهة اليومي الذي يبتلع المأساة الكبرى.

التهكم والبُنى الاجتماعية

الأسرة: في "المسخ"، العائلة، التي يُفترض أنها ملاذ الأمان والحب، تتحول إلى مؤسسة اقتناصية ونفسية قمعية. الحب مشروط بالفائدة. هذا تهكم مأساوي حول انهيار أقدس الروابط الإنسانية تحت وطأة الضغوط المادية والاجتماعية.

الدين والقانون: في "المحاكمة" و"القلعة"، النظامان الديني والقانوني، المُعدان افتراضيا لتوفير العدالة والتوجيه، يصبحان مصدرًا للظلم والغموض والاضطهاد. البحث عن الخلاص أو العدالة هو نفسه طريق العذاب.

سخرية كافكا فسيفساء:

بيروقراطية تضحك من السلطة،

وجودية تضحك من القدر،

لغوية تضحك من اللغة نفسها،

جسدية تضحك من ضعف الإنسان،

وميتافيزيقية تضحك من فكرة المعنى المطلق.

هذا التنوّع هو ما يمنح كتاباته ذلك الضحك الأسود المتعدّد الطبقات: نضحك ونحن نشعر بأننا نحن موضوع النكتة.

 أثر التهكم الكافكاوي

- صمويل بيكيت: في "في انتظار غودو"، يعود التهكم الكافكاوي في شكل انتظار عبثي، يتحوّل فيه اليأس إلى مادة للضحك. - خورخي لويس بورخيس: رأى أنّ متاهات كافكا تحمل "سخرية ميتافيزيقية"، حيث النظم العملاقة تكشف خواءها. - الأدب الشعبي: ثمة صلة غير مباشرة مع شخصية جحا أو

 "المهرّج الحكيم"، حيث المنطق يُستَعمل ليُفضي إلى عبث. كافكا يعيد صياغة هذه الروح الشعبية في سياق حداثي فلسفي.

 

يكشف التهكم في نصوص كافكا أنّها ليست عدوّ المأساة بل رفيقها. فهي التي تجعل القارئ يحتمل النصوص، وتسمح للكاتب بأن يفضح السلطة دون خطابة، وأن يحوّل المأساة إلى مهزلة كاشفة. إنّها ضحكة سوداء، لكنها تذكّرنا أنّ الإنسان، حتى في أشدّ لحظات الضيق، يملك سلاح السخرية.

بهذا المعنى، لم يكن كافكا فقط كاتب الكوابيس، بل أيضًا كاتب الضحك المتوتّر، الذي يعرّي جدّية العالم عبر مفارقاته.

يبقى أن نتساءل عن السؤال المركزي الذي يثيره هذا التهكم:


هل سخرية كافكا هي سخرية يائسة تمامًا، أم أنها تحتوي على بصيص من التمرد؟

التفسير التشاؤمي: التهكم يظهر أن المقاومة مستحيلة، وأن النظام القمعي ينتصر دائمًا عن طريق كسر إرادة الفرد. حتى أن الشخصيات تتهكم من أنفسها. فالأبطال يبرّرون أو يتقبّلون ما لا يُحتمل. والقارئ يضحك من مفارقة وعيهم الناقص.

 

مثال: سامسا يفكّر في قطار العمل أكثر من تحوّله الجسدي.

التفسير التمردي (وإن كان ضئيلاً): هذا التهكم شكل من أشكال المقاومة. مجرد وصف هذا العبث بطريقة جادة هو نفسه عمل تمردي. إنه رفض للتقليل من شأنه أو قبوله بصمت. كتابة "المحاكمة" هي بمثابة صيحة احتجاج على الظلم، حتى لو كان مصير البطل داخل القصة هو الهزيمة. القبول في نهاية "المحاكمة" قد يكون أقسى أنواع التمرد. لأنه في لحظة الانحناء للسكين، يقول البطل للنظام: "أنت لا تستحق حتى أن أقاتلك. خذ جسدي، فإرادتي لم تعد في متناولك". هناك كبرياء مأساوي في هذا الاستسلام. قبول يوزف ك. للحكم هو أعظم انتصار للتهكم الكافكاوي. إنه يظهر كيف أن الجدية البشرية في السعي نحو العدالة داخل نظام عبثي لا تؤدي إلى الإنصاف، بل إلى استيعاب العبثية نفسها والاستسلام لها. البطل لا يهزم بقوة خارجية، بل يُهزم من الداخل، وهو ما يجعل النهاية مروعة ومقنعة بشكل لا يصدق.