الأربعاء 24 إبريل 2024
كتاب الرأي

مصطفى الخداري: التوركي

مصطفى الخداري: التوركي مصطفى الخداري

التوركي

فتحت " ماريا " وهي سيدة مسنة باب بيتها في الصباح الباكر. كان الجو باردا. ليس بردا قاسيا من النوع الذي اعتادت عليه في بلاد الأراضي المنخفضة. بردا كان فعلا يتسرب إلى الأعماق و لكنه لا يضاهي الحدة التي تنتج عن تساقطات الثلوج الكثيرة في السنوات الماضية .

هذه الثلوج التي كانت تربك الحياة اليومية و تشل الحركة لمدة طويلة. ورغم ذلك لم يكن هذا عائقا يوما ما يثنيها على عادتها التي تتكرر على الأقل أربع مرات في اليوم. مرة لشراء حاجياتها اليومية من الدكاكين القريبة من مقر سكناها.

وهي مناسبة تدردش فيها مع الباعة وبعض الزبناء الرسميين الذين تصادفهم هنا وهناك.

أما خرجاتها الثلاث فهي جولات خاصة للتنزه مع كلبها "يان". المرة الأولى في الصباح الباكر، و الثانية بعد الزوال ثم تكون الجولة الثالثة بعد تناولها العشاء.

إن الذهاب في نزهة مع "يان"هي أهم اللحظات اليومية التي تحس بها " ماريا". فهي ليست فقط بمثابة استراحة للكلب ومنحه فرصة تلبية احتياجاته والتنفيس عن طاقاته باللعب والجري، ولكن أيضًا فرصة تساعدها على الحركة و المشي بانتظام. بالإضافة للتواصل مع بعض سكان الحي الذين تصادفهم في جولاتها باستمرار. وبهذه الطريقة تحافظ على علاقاتها مع سكان الحي و تظل على علم بكل ما يقع ويحدث في المنطقة.

نسبة كبيرة من ساكنة البلد لها كلب أو أكثر يقتسم معها الحياة داخل البيت. في بعض الأحيان ينصح الأطباء باقتناء كلب حتى يضطر الشخص للخروج و الابتعاد عن المكوث في البيت لمدة طويلة. هذه الوصفة الطبية أصبحت واحدة من بين الأدوية و العلاجات التي تمنح للأشخاص لتحفيزهم على المشي.

بعد وفاة زوجها، أكثر من عشر سنين مضت, ظلت " ماريا" تعيش لوحدها في نفس الشقة. ابنتها الوحيدة التي تقطن صحبة زوجها وأولادها في جنوب البلاد لا تزورها إلا نادرا. و هذه حالة عادية بالنسبة للهولنديين. فبمجرد بلوغ سن الرشد,يبدأ الشاب أو الشابة في التنقيب عن سكنى للعيش لوحده أو مع أحد أصدقائه, معتمدا على نفسه.

" صباح الخير!"

بادرها أحد الجيران الذي يقود هو الآخر كلبه في نفس الاتجاه. ثم تابع حديثه:

" ياله من يوم بارد".

الحديث عن الطقس هو في الغالب الموضوع الرئيسي المتداول بين السكان في جميع أحاديثهم اليومية. لأن الطقس في الأراضي المنخفضة يتغير باستمرار. مما يجعل الجميع يتابع التقلبات عن كتب. خصوصا اذا كان المرء مقبلا على القيام برحلة, حفلة أو الخروج في مناسبة خاصة. ولقد أصبح هذا أمرا طبيعيا عند الساكنة.

لكن حديث " ماريا" هذا اليوم مع جارها لم يكن موضوعه الرئيسي هو أحوال الجو. لقد كانت تنتظر بفارغ الصبر ظهور أحد جيرانها لتقتسم معه الهلع الذي أحل بها هذه الأيام. فبمجرد رد تحية الصباح, انتقلت الى الموضوع بكل سرعة.

" أسرة التوركي مصابة بكورونا".

"أسرة التوركي", إنها التسمية التي يطلقها سكان الحي على السيد " هليل". يعيش هذا الأخير أكثر من عشرين سنة في نفس العمارة التي تقيم فيها السيدة " ماريا". ورغم طول هذه المدة فتسمية "التوركي" لازالت تلازمه هو وزوجته "كيزام". لا أحد من جيرانه الهولنديين يعرف اسمهما الحقيقي.

" حمزة" طفلهما الصغير المزداد بنفس الشقة في الطابق الرابع هو الوحيد الذي ينادى باسمه.

عندما بدت الأنوار الزرقاء والحمراء تنعكس داخل الغرفة, شعرت "ماريا" أن سيارة الإسعاف تقصد أحد الجيران لا محالة. ولو أن وقوفها أما باب العمارة كان في وقت متأخر من الليل, فهذا لم يمنع "ماريا" من متابعة الأحداث عبر نافذة شقتها في الطابق السفلي. غالبا ما تتواجد نوافذ كبيرة تغطي واجهات الكثير من المنازل القديمة في هولاندة، و التي تسمح للمارة بإلقاء نظرة على الداخل و العكس صحيح. عادة تعكس فكرة الوضوح والشفافية التي يتميز بها هذا الشعب.

حُملت زوجة السيد "هليل" إلى المستشفى في حالة حرجة. ظل الزوج يتابع بنظراته البئيسة انصراف السيارة عن الحي وهو يمسح دموع حمزة التي تنسكب على خده. إنهما في حاجة لشخص يسمع اختناقهما الصامت ويفهم نظرات عينيهما الحزينة التي تنم عن ألم كبير.

اقتاد طفله في اتجاه باب العمارة بعدما غابت الأضواء عن الأعين. لمح بصره " ماريا" وهي تتابع المشهد. تبادلا النظرات. تبعتها تنهيدات عميقة. ثم تابع سيره إلى البيت.

تبا للغربة! هذا ما يروج في ذهن السيد "هليل" لا محالة.

تمنى "هليل" لو أن أحد أفراد عائلته يقاسمه هموم هذه المحنة. ولكن، للأسف الشديد مسافة طويلة تفصله عن بلاد الأناضول.

لزم السيد"هليل" وابنه البيت طيلة مدة الحجر الصحي. لحسن الحظ تكلفت إحدى المساعدات الاجتماعية بإيصال كل ما يحتاجه السيد "هليل" من مواد غذائية إلى بيته بانتظام.

ترى - لو لم يحصل على هذه المساعدة- كيف سيكون مصيره؟

بعد مرور بعض الأيام بدأت حالة السيد "هليل" الصحية تتدهور هو الآخر . جدران شقته الهرمة لم تمنع من وصول صوت سعاله الحاد و المستمر إلى باقي الجيران.

مرت هذه الجولة التي اعتادت "ماريا" القيام بها رفقة الكلب بسرعة فائقة، بعدما حكت الكثير عن أسرة "التوركي" لجارها. ولازالت في جعبتها الكثير من "المشاهد" التي أثارت و تثير فضولها. و أسئلة كثيرة تود الحصول على إجابتها و اقتسامها مع باقي الجيران الهولنديين.

غير أن الفرصة لم تسنح لها بعد لتشفي غليلها. أسرة " التوركي" كانت تتحاشى الدخول في أحاديث مع الجيران. و هؤلاء هم أيضا لم يبادروا قط بالقيام بخطوة في هذا الاتجاه. طبعا عامل اللغة يشكل عائقا كبيرا, ولكن ربما هناك أسباب أخرى تقف حاجزا أمام تواصل الطرفين.

عادت سيارة الإسعاف من جديد لنفس الحي، وتوقفت أيضا أمام نفس العمارة. كان الوقت ليلا. و كما كان متوقعا ، أسدل الستار لتطل "ماريا" من وراء نافذتها. لم تصدق هذه المرة ما شاهدته بعينيها. ولم تلتزم مكانها كما فعلت في المرة السابقة.

ولو أن الوقت كان متأخرا. لبست معطفها البني الذي يلازمها طيلة الفصول الباردة ثم هرولت إلى الباب.

" بإمكان "حمزة" البقاء معي!"

مخاطبة جارها التوركي.

أغرور رقت عينا السيد "هليل" بالدموع. حملق في وجه "ماريا" وشكرها على مبادرتها ثم امتطى سيارة الإسعاف صحبة ابنه في اتجاه المستشفى, في اتجاه مصير مجهول.

 

مصطفى الخداري/ نائب مدير مدرسة ابتدائية بأمستردام