الثلاثاء 16 إبريل 2024
خارج الحدود

إلياس خوري: ثلاث رسائل من طرابلس

إلياس خوري: ثلاث رسائل من طرابلس إلياس خوري مع مشهد من الانفجار الطرابلسي بلبنان

ما هي رسالة طرابلس للبنان؟

هناك إجماع سياسي وإعلامي على أن طرابلس استخدمت في أيام الغضب والحرائق منصة لإرسال رسائل مختلفة، وكأداة في الصراع السياسي على تقاسم سلطة الانهيار.

لكن ماذا لو صوّبنا المنظور، وخرجنا من أطر اللغة السائدة، وبدل قراءة المدينة كمنصة، تعالوا نحاول أن نقرأها كرسائل وجهتها أكثر مدن لبنان بؤساً وفقراً وبطالة.

 

أرادت طرابلس أن توجه رسائلها، حتى لو سلمنا بأن هناك من تسلل إلى داخل الانفجار الطرابلسي، ودفع به إلى الحرائق، فإن هذا لا يغير من بلاغة الرسائل، بل يزيدها أهمية.

وحين نتكلم عن طرابلس فنحن نتكلم عن مدينة كبرى وليس عن مدينة هامشية. طرابلس هُمشت وليست هامشية، وأفقرت، لكنها ليست فقيرة.

 

طرابلس هي أجمل مدن لبنان على الإطلاق، بعمارتها وأحواشها وقلعتها المدهشة وقصبتها وأسواقها المجللة بسحر العمارة المملوكية، وبجوامعها ومدارسها التاريخية وحماماتها، ومينائها، والجزر التي تزين شاطئها.

رئتها سهل عكار، وسقفها القرنة السوداء وأرز الرب. إنها ميناء الداخل السوري، شقيقة حمص وحماة. طرابلس الشام وطرابلس لبنان وطرابلس النور.

طرابلس قدمت الصرخة الأولى للتغيير في لبنان، من علي ومن بعده خليل عكاوي، إلى فجر 17 أكتوبر.

 

من نسي علي عكاوي وثورة الغضب التي أطلقها في السبعينيات، ومن تناسى خليل عكاوي (أبو عربي) الذي حوّل باب التبانة إلى بؤرة ثورية، لا يستطيع أن يفهم ماذا يجري في طرابلس.

حوصرت الفيحاء مرات عديدة، حاصرها الانتداب عبر عزلها عن مداها الجغرافي الشامي، وحاصرتها الدولة اللبنانية بالإهمال والتهميش والإفقار. وحاصرها زعماء المدينة لأنهم خافوا من ثوريتها وعروبتها، واليوم يحاصرها نظام 4 غشت الانهياري، لأنه يريد القضاء على ذاكرة انتفاضة 17 أكتوبر.

لماذا يريدون تحويل المدينة إلى ساحة يُذبح فيها حلم الانعتاق من العبودية؟

خلال انتفاضة 17 تشرين، قدمت ساحة عبد الحميد كرامي- ساحة النور، مشهدية احتمالات التغيير على مستوى لبنان بأسره. كانت قلوبنا تتجه إلى الشمال، وعيوننا تراقب الفيحاء بمزيج من الإعجاب والغيرة.

ماذا جرى في طرابلس في زمن الثورة المضادة، وتكالب أطياف سلطة الانهيار على حماية نظام تآكل من الداخل.

 

طرابلس الفقيرة والمُفقرة قالت ما تقوله الأغلبية الساحقة من اللبنانيات واللبنانيين. سلطة 4 غشت، التي أفلتت علينا وحش كورونا في فترة الأعياد، تقوم بتحويل الوباء إلى أداة للإفقار والإذلال. سلطة تسعى إلى السيطرة على الأجساد، بعدما فشلت في السيطرة على الفضاء العام.

 

لقد كشفت صرخة الغضب في طرابلس حقيقة تفكك السلطة وعجزها عن الحكم. انتهى الأمر، لم يعد لصوص المصارف وناهبو المال والعام وتجار الكهرباء قادرين على الحكم، وعلى بناء نصاب سياسي قابل للحياة.

 

يتحكمون بدل أن يحكموا.

 

يثيرون ضجيجاً فارغاً عن حقوق الطوائف في السلطة وعن تقاسم مقاعد مجلس الوزراء، وهم يعلمون أن هذه اللعبة ستطيل الأزمة، والأزمة تعني تأجيل كل شيء.

 

رئيس الجمهورية يعرف أنه دخل التاريخ بصفته رئيس زمن الانهيار، ورئيس الحكومة المكلف يعلم أنه لم يعد يصلح أن يكون ظلاً شاحباً لزمن الوعود الحريرية وأوهامها، ورئيس المجلس النيابي يعرف أن الناس صارت تترحم على عهود تبادل الرئاسة الثانية ولو بين ثلاثة أسماء.

 

كلهم يعرفون أنهم فقدوا السلطة، وأن وسيلتهم الوحيدة للبقاء هي التسلط الطائفي.

لكن الخطاب الطائفي لم يعد يُقنع أحداً. إنهم يجرجروننا إلى ما يشبه الحرب الأهلية التي لن ندخل في لعبتها الخادعة من جديد.

لقد ورثوا ما يشبه الوطن وحولوه إلى أشلاء.

من ركام الأشلاء ارتفعت صرخة طرابلس لتوجه ثلاث رسائل:

 

الرسالة الأولى هي سقوط النظام، فالسلطة تفككت في طرابلس قبل أن يعلن حريق مبنى البلدية ذلك. نعم لقد سقط النظام السياسي والاقتصادي الحاكم، ولم يعد إنقاذه ممكناً. اللعبة انتهت، لم تعد مصارف لبنان والكازينو وسياحة التجول بين النفايات تغري أحداً. حاكم مصرف لبنان المدجج بالجوائز افتضح أمره وهو اليوم أمام المساءلة. كلهم أمام أسئلة لا يحسنون الإجابة عنها، وكلهم فقدوا القدرة على الكلام.

وحين تصاب الطغمة الحاكمة بالخرس، تلجأ إلى اللغة الطائفية.

فالطائفية في لبنان هي لغة البُكم.

 

الرسالة الثانية هي أن هذا الانهيار الشامل ليس بسبب الحصار الخارجي فقط. فلبنان محاصر بالفساد والنهب ولعبة الكشاتبين على طريقة الهندسات المالية. الطغمة الحاكمة حاصرت لبنان بالفقر والجوع، قبل أن يأتي زمن التطبيع الاستبدادي ويحول المشرق العربي إلى ملعب إسرائيلي، وساحة لصراع إقليمي طائفي وحشي.

 

أما الرسالة الثالثة فتقول إنه آن الأوان لإعادة تفكير جذرية في كيفية بناء وطن من هذا الركام. لم يعد إصلاح النظام ممكناً. إن ضمور الانتفاضة الشعبية، التي خرجت بعفوية جارفة وهي ترفع شعار إسقاط النظام، يعود إلى حقيقة أنها كانت تضمر إصلاح النظام.

 

فإسقاط النظام تعني بناء مجموعة من الرؤى والقيم الجديدة، ومؤسسات اجتماعية راسخة، وقيادات سياسية تأتي من الحاضر والمستقبل وليس من الماضي. أما إصلاحه فمستحيل.

 

أرسلت طرابلس رسائلها، وقالت بدماء أبنائها إن الانفجار مخيف ويفتح احتمالات مأساوية شتى، وأن علاج الانفجار ومنعه يحتاج إلى ثورة.

 

وطرابلس لن تستسلم...

 

- إلياس خوري، كاتب وروائي لبناني