Wednesday 21 May 2025
كتاب الرأي

جواد شفيق: بلاغة العروي والبلاغ..

جواد شفيق: بلاغة العروي والبلاغ.. جواد شفيق

في كتابه الشيق والعميق "استبانة" الصادر سنة 2016 ، والذي يمكن اعتباره استمرارية لكتابيه "السنة والإصلاح" و"من ديوان السياسة" من حيث مواصلة العروي مساءلة ذاته ووطنه عبر طرح سلسلة مركبة من الأسئلة الأنطولوجية والإبستمولوجية ليجيب عنها بمزج عصارة رأسماله المعرفي الكبير من علوم التاريخ والاجتماع والسياسة والنفس والأنثربولوجيا... ليقدم لنا أجوبة قوية وعلى درجة عالية من التعقيد.

 

في "استبانة" التي حبلت بمائة وأحد عشرة سؤالا تراوحت بين الشخصي الصرف والوطني الجماعي، حضر سؤال الوطنية المغربية بقوة: إرهاصاتها، ميلادها، نشأتها، وحدتها وتفرقتها، قوتها ووهنها، صوابها وخطؤها. وبعد أن عرف الوطنية مبدئيا بأنها ثلاثية المرتكزات: شعور (اعتزاز بالذات وبالأجداد)، سلوك (إيثار)، وتطلع (طلب للحرية والرفاهية)، وبعد أن ميز بين الوطنية والمقاومة واعتبرهما حركتان مختلفتان لأن المقاومة لا تنتمي لجنس "الوطنية العصرية"، وبعد غزارة في المعطيات والتحليل سيخلص العروي إلى:

"أن الوطنية المغربية في أغلب مراحلها -وقد تناول بالتحليل والدرس الفترة الممتدة بين 1830 و1956، أي منذ احتلال الجزائر إلى ما بعد استقلال المغرب- هي إفراز للمخزن، أي الدولة المغربية العتيقة"، مضيفا بأن "من يقول بإلغاء دور المخزن بوصفه دمية في يد إدارة الحماية، من خلال استلهام تجارب (تونس، ومصر، والهند، إلخ) لا يعرف جيدا المغرب. فالمخزن شبح، لكنه شبح والد "هامليت" يسير حركات الأحياء".

 

عتاقة دولة المخزن مع حرصها على ديمومة طقوسها ومظاهرها لتتجاور مع الاختراقات التحديثية للدولة العصرية ستشكل موضوعة كتب أخرى للعروي لعل أبرزها "خواطر الصباح: مغرب الأماني أو المغرب المستحب 1999/ 2007".

 

لقد "حمل" المخزن العتيق على عاتقه مسؤولية إفراز وطنية مغربية ترافقه في رحلة "احتضان الاستعمار ومقاومته"، وهو دور يحسب له لا عليه، وفي ذلك ربما تفسير لحالة التكامل والاحتضان المتبادل التي حصلت في أوجها بين الوطنية المغربية والسلطان محمد بن يوسف الذي لقب بأب الوطنية المغربية.

 

في حوار آخر له، حول بمقارنة منسوب الوطنية بما هي -شعور، سلوك وتطلع- لدى نخب الماضي والحاضر، سيطلق العروي حكما شديدا: نخب الحاضر أقل وطنية!

 

في حالتنا الراهنة، الموسومة بهذا الدمار المسترسل لكورونا (وتاريخ الأوبئة القريب والبعيد يعلمنا بأنها عصفت بدول وأنظمة ومجتمعات)، تبدو حاجتنا حيوية وماسة وضرورية وإلزامية لكثير من الوطنية.. لدى العامة ولدى الخاصة والنخبة خاصة. وطنية تشعر بوضع الوطن ومواطنيه، وتتحلى بكثير إيثار وتغليب للعام على الخاص، وتتطلع إلى أن نتجاوز المحنة بأقل ضرر وكلفة واهتزاز.

وطنية تقدر أن قدرنا الجماعي الآن هو أن نعبر منطقة الزوابع بوحدة وسلم اجتماعي، وبتدبير ناجع للجائحة وتداعياتها الصحية والاجتماعية والاقتصادية، وبتلازم بين الحزم وضمان الحقوق، وبين الطوارئ وضمان سريان الحياة العامة.

وطنية لا صوت فيها يعلو على صوت التضامن الوطني الفعلي لكل فئات الأمة.

 

ولكن، ولأن كورونا أعطبت نسبة جد معتبرة من أبناء الأمة، وكشفت هول هشاشتها الاقتصادية والاجتماعية، ولأن كورونا عرت حقيقة طبقة وسطى مهترئة، وحقيقة نسيجنا الاقتصادي المهيكل والعشوائي، ومحدودية مواردنا وهوامش تحركنا، ولأن كورونا عرت حقيقة لوبيات وكارتيلات محتكرة وجشعة...

 

ولأن كورونا كشفت أيضا متانة ومركزية بنيان كثير مؤسساتنا وعلى رأسها مؤسسة الملك: رئيس الدولة، أمير المؤمنين والقائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية.

ولأن آثار الجائحة ليست إلا في بداياتها، مما سيستوجب مجهودا وطنيا مضاعفا لاستمرار دورة الحياة الوطنية بأقل درجات "الاستثناء"، فإن إجراءات طارئة ومستعجلة وحازمة تفرض نفسها على الدولة في تدبيرها وترشيدها لمواردها الشحيحة، وفي قدرتها أيضا، كراعية ومسؤولة عن ضبط توازنات المجتمع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، على توجيه وحث نوع من القطاع الخاص الذي دأب على الربح ولم تمسسه الجائحة إلا بالنزر القليل، وبعضه ازداد دخلا (قطاع الأبناك، التأمينات، الاتصالات، المحروقات، الفوسفاط ، الفلاحة التصديرية، وذوو للامتيازات والإعفاءات والرخص....) ليتخلى عن أنانيته ويكون أكثر سخاء وعطاء وتضحية، مساهمة في إنقاذ المركب الذي يقله ومنكوبي الأمة من ضحايا كورنا، والذي إذا غرق بجميع من فيه.

 

بقدر ما أبرز بلاغ الديوان الملكي حول مجلس المنافسة وموزعي المحروقات، وهو يسمي الوقائع والأشخاص بمسمياتهم، عن مستوى عال ومشرف  من الشفافية في التدبير الملكي لشؤون الدولة، وعن الحرص الواضح على "استقلالية وحسن سير المؤسسات"، فقد أنبأنا بأن واقعة إصلاحية طال انتظارها تعترضها صعوبات ومقاومات وصلت حد انقسام أعضاء مؤسسة دستورية وتبادل الشكاوى إلى الديوان الملكي  .

 

منذ خطوة بنكيران الليبرالية جدا القاضية بتحرير أسعار قطاع المحروقات... وأسعار المحروقات وأرباح موزعيها على جدول أعمال النقاش العمومي الافتراضي (المقاطعة) والواقعي والمؤسساتي... ورغم التقلبات الإيجابية في غالبيتها للسوق العالمية للمحروقات منذ قرار حكومة بنكيران، فقد استمرت هوامش الربح في الاتساع، مثلما توسعت دوائر الغضب والتنديد من الاحتكار الجاثم على القطاع ونزوعه الجماعي (فيما يشبه اتفاقات غير معلنة يجرمها قانون المنافسة) إلى منطق الربح ولا شيء غير الربح.

 

لقد كان جيدا أن يكشف بلاغ الديوان الملكي عن معطيات الواقعة كما تفاعلت داخل مجلس المنافسة وأن يعين لجنة للبحث فيها وتقديم نتائج البحث في أقرب الآجال... وهو ما يعني منطقيا بأنه ملف سيتم الحسم فيه.

قد يكون رئيس مجلس المنافسة أخطأ، وقد يكون فقط حرك عش دبابير، ومهما يكن الإجراء الذي سيتخذ لحماية مؤسسة دستورية يجب أن تنزه عن العبث، (إذا كان فعلا قد لحقها وإذا كان رئيسها قد أوحى فعلا بأنه يتصرف بناء على تعليمات أو على أجندة شخصية وخرق مقتضيات قانونية).

قد يكون حصل هذا وسيترتب عنه ما يجب أن يترتب، ولكن المعطى المركزي في القضية الذي هو أسعار وأرباح واحتكار توزيع المحروقات يجب أن يعالج  بنفس درجة الصرامة والحزم، لأنه كما من مسؤولية الدولة القوية العادلة أن تحمي مؤسساتها، فإن من مسؤوليتها الثابتة أن تحمي شعوبها ومجتمعاتها، بالقانون وبالتحكيم الحكيم وباستمرار المساهمة في إفراز أجيال ونخب جديدة من الوطنية المغربية بما هي: شعور وسلوك وتطلع...