السبت 20 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبد السلام بوطيب: ما بعد كورونا.. المغرب و"مجموعة البلدان الرثة"

عبد السلام بوطيب: ما بعد كورونا.. المغرب و"مجموعة البلدان الرثة" عبد السلام بوطيب
 
انتهى الصراع بين الأقطاب العالمية التي كانت تتصارع قبل الهجوم الكاسح لفيروس كرونا إلى إثبات انسحاب الولايات المتحدة الامريكية من قيادة العالم، و ترك هذا الأخير بدون قيادة. و ما أن بدأ وباء الكورونا يتمدد، حتى توجت الولايات المتحدة تركها لقيادة العالم بإغلاق حدودها أمام كبار حلفائها و غيرهم بنفس الطريقة التي يتراجع فيها الحلزون الى غشائه عند احساسه بخطر خارجي قائم. و سيبقى العالم، وفق عدد من المنظرين- تائها بدون قيادة لمدة لا تقل عن عشر سنوات، و ستكون هذه المدة كافية – حسب جل الدراسات الرصينة- لاندثار كل المؤسسات التي ورثناها عن الحرب العالمية الثانية، و أساسا الأمم المتحدة، و المؤسسات المتفرعة عنها، و لا سيما المنظمة العالمية للصحة التي عرفت في عز أكبر جائحة يعرفها العالم المعاصر انسحابات لدول مهمة و تشكيكات في ولاءاتها ، كما أن العالم سيعرف انهيار كل التسويات و التحالفات التي أعقبت سقوط حائط برلين ، و الحروب التي شنت من أجل بترول الشرق الأوسط تحت يافطات متعددة من القضاء على الأنظمة التوليتارية الى القضاء على الإرهاب الذي يتم باسم الخلفيات الدينية . و هي كذلك فترة لبناء تحالفات دولية مؤسسة على المصالح المشتركة الراهنة في وقت وجير، دون البحث عن تحالفات استراتيجية. و هي -ثالثا-فرصة للتموقع لما بعد العشر سنوات المقبلة. حيث سينتهى العالم إلى بروز تحالفين قويين: تحالف الخير و تحالف الشر،و مجموعة بلدان سوف تبقى خارج التاريخ و لا دور لها ، و لا نفع من وجودها حتى تعرف شعوب بعضها كيف تأخذها من جديد موقعها ضمن تحالف الخير.
إن تصنيفنا لهذه الدول سيبنى من خلال تعاملها داخليا و خارجيا مع جائحة الكورونا ، و من خلال تصوراتها حول مستقبل شعوبها و العالم بعدها . ذلك أن التعاطي مع الجائحة و نتائجها سيؤدي الى ظهور نوع من التحالفات الدولية، حيث ستسعى بلدان يمكن أن نسميها هنا ب "بلدان الإنسانية الإيجابية" الى تكل في محور الخير، و هي بلدان وعت - منذ اندلاع الوباء - أن العلاقة الديمقراطية مع المواطنين أحسن من العلاقة القائمة على القمع و الردع و إخفاء المعطيات و المعلومات. و ستنافسها مجموعة أخرى من البلدان، و هي التي يمكن أن نطلق عليها هنا "بلدان الإنسانية الزائفة"؛ لأنها بلدان ستكون بقيادات عنصرية شوفينية، كانت حكوماتها تخطط للوصول الى الحكم عند أول أزمة مهما كانت طبيعتها، مستغلة في ذلك كل الوسائل بما فيها الوسائل الديمقراطية ، لكنها ستحاول التبني بشكل زائف لكل قيم المجموعة الأولى و خططها السياسية و برامجها الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية، و ستكون أولى مهمتها عند الوصول الى الحكم العمل على تعميق تأكل ديمقراطياتها من الداخل . و بين المجموعتين ستظهر مجموعة من البلدان التي نسميها هنا ب"البلدان الرثة" التي لن تقدم لشعوبها، و للإنسانية عامة أي إضافة ، و لن تصلح أن تكون الا مشجبا ل "بلدان الإنسانية " الزائفة ، تعلق عليها كل أخطائها بحثا عن نوع من التميز الزائف عن "بلدان الإنسانية الإيجابية" .
و قبل أن نبدأ في إثبات هذا النعت السياسي بناءعلى المنهجية الماركسة لتحديدها مفهوم " البروليتارية الرثة.من الضروري الإشارة هنا الى أن كارل ماركس وصف "البروليتاريا الرثة" بأنها فئة تقع خارج علاقات الإنتاج الرئيسية في المجتمع ،فلا تملك وسائل إنتاج، ولا تبيع قوة عملها؛فهي توفر العيش لنفسها بطرق مشبوهة وثانوية مثل السرقة والدعارة والقمار والتهريب والقتل والسلب وغيرها.
كما أنه من الضروري التأكيد كذلك على أن صيرورة تكون و قيام الطبقات الاجتماعية ودورها في الصراع الطبقي، ليست هي نفس صيرورة قيام البلدان و صراعاتها و تحالفاتها. و أمام غياب الوازع الأيديولوجي لتصنيف الدول و تحالفاتها اليوم، سنحاول هنا اتباع منهجية ماركس في تعاطيه مع الطبقات الاجتماعية داخل النظام الرأسمالي،فللطبقات الاجتماعية مكانة هامة في الفكر الماركسي، خاصة ما يتعلق بالصراع الطبقي والتركيب الاجتماعي للمجتمع. وقد اهتم ماركس في كتاباته السياسيةالمبنية على وقائع وحوادث ملموسة بكل الطبقات والفئات التي كان لها شأن في الصراع الطبقي والاجتماعي.
كان ماركس يهتم بموقف كل فئة أو شريحة اجتماعية بموقفها من الثورة البروليتارية التي كان ينظر لها. لذا فأهم مميزات "البروليتاريا الرثة" عنده -كما أسلفت- أنها فئة تقع خارج علاقات الإنتاج الرئيسية في المجتمع ، فلا تملك وسائل إنتاج ولا تبيع قوة عملها ، فهي توفر العيش لنفسها بطرق مشبوهة وثانوية،و تتكون من "الذين بددوا أموالهم والمشكوك في وسائل معاشهم والمشكوك في أصلهم، ومع المغامرين المنفلتين من أوباش البرجوازية الفاجرين. هنالك أيضا متشردون وجنود مسرحون، وزبائن سجون مطلقو السراح، وهاربون من الأشغال الشاقة، ونصابون ،ومشعودون، ومتسكعون، ونشالون ومحتالون ،ومقامرون، وقوادون، وأصحاب مواخير، وحمالون ونساخون وضاربو ارغن وجماعو اسمال، وسنانو سكاكين، ولحامو معادن ومتسولون - وباختصار كل هذا الجمهور السائب، المتنوع، غير المحدد الذي تدفعه الظروف هنا وهناك".
ومثل هذه الفئات موجودة في كل المجتمعات كما أشار ماركس إلى ذلك في "الأيديولوجية الألمانية" 1848 " . لكن ما أثار ماركس منها هو موقفها من الصراع في فرنسا من حيث وقوفها كخادم مطيع للبرجوازية، ومساهمتها في قمع البروليتاريا وإبعادها عن المسرح السياسي في يونيو 1848. وهذا ما عبر عنه ماركس في "البيان الشيوعي" ب "أما رعاع المدن، هذه الحشرات الجامدة، حثالة أدنى جماعات المجتمع القديم، فقد تجرهم ثورة البروليتاريا إلى الحركة، ولكن ظروف معيشتهم وأوضاع حياتهم تجعلهم أكثر استعداداً لبيع أنفسهم إلى المكائد الرجعية" .
فاذا كان ماركس قد اهتم بموقف كل فئة أو شريحة اجتماعية بموقفها من الثورة البروليتارية التي كان ينظر لها، فإننا نحن هنا سنحدد موقفنا من المجموعات الثلاث انطلاقا من :
أولا: من مواجهتها الراهنة لجائحة الكورونا، و ما اذا كانت قد تعاملت بانتهازية مع هذه المصيبة التي أصابت البشرية على مستوى علاقتها بمواطنيها، وعلى مستوى علاقاتها الخارجية ؛
ثانيا: من خلال الخطط التي هيأتها للخروج من الأزمة التي تسببت فيها الجائحة ؛
ثالثا: من خلال الخطط و البرامج المستقبلية التي هيأتها لعالم ما بعد الجائحة للسنتين المقبلتين، و العشر سنوات القادمة؛
رابعا : نيتها لتموقع نفسها و شعوبها بعد عشر سنوات المقبلة، و هي نية يعبر عنها بشكل غير مباشر بطرق و مواقف عديدة.
في اعتقادنا أن ملامح التحالفات المقبلة قد بدت واضحة قبل الإعلان على الهجوم الكاسح للكوفيد 19 ، و استتبابه ببعض الدول المسماة متقدمة. و توضحت أكثر مع خنق الفيروس لإيطاليا و اسبانيا، و استتبابه بفرنسا و الولايات المتحدة الامريكية ، التي أغلقت حدودها دون أن تستشير مع أحد، و دون أن تخبر أحدا بالوقت الضروري لمثل هذه الخطوة الخطيرة. و يمكن أن نتتبع هذا التموقع الجنيني من خلال إجابة كل دول العالم على الأسئلة السياسية و الحقوقية و الاقتصادية و الاجتماعية التي طرحتها "الكوفيد19" . و قبل هذا من الضرورى الإشارة الى أن هناك دراسات مهمة جدا تنبأت بتحالفات السنين المقبلة. و منها من رأى أن تحالفات العالم المقبل بدأت مع أزمة 11 شتنبر، و أخرى رأت أن ذلك بدأ مع بروز حكام أقوياء يؤثرون سلبا على الممارسة الديمقراطية مثل بوتين ، و ناريندرا مودي، و شي جين بينج، وهم الحكام الذين أثاروا حسد الرئيس ترامب. و أخرى رأت أنها بدأت مع بداية تركيز القوة في أيادي " أوليغارشية سياسية و اقتصادية" و هو الاستنتاج الكبير الذي توصل إليه عالم الاقتصاد الفرنسي توماس بيكيتي في كتابه " رأس المال في القرن الواحد و العشرين"، و هي نفس النتائج التي كان قد توصل اليها صاحب نظرية " نهاية التاريخ" حيث أكد ان النظام الديمقراطي يمر بمرحلة تدهور و ان الدولة جرى اختطافها من قبل " جماعات المصالح الخاصة" نتيجة سيطرة أصحاب الثروة على الأحزاب و على و سائل الاعلام، و هو ما جعل هذه الدول تكف عن أن تكون دولا ديمقراطية راعية للحريات الفردية و الجماعية و ممثلة للشعب. و أخرى رأت أنها بدأت حسب سوشلنا زوبوف في كتابها " عصر راسمالية التجسس – المراقبة " مع بروز دول ديمقراطية تقنيا تعتمد في علاقتها مع مواطنيها على المراقبة و التجسس.
و بالإضافة الى خلاصات هذه الدراسات التي استطعنا الاطلاع عليها أخيرا ، فإننا سنعتمد كما قلت في التمييز بين المجموعات الثلاث من خلال التعاطي مع هذه الأسئلة التي طرحتها بلدان عديدة، و هي تحاول مواجهة "الكوفيد 19"
و لعل أول سؤال طرح الدول هو سؤال دور الدولة خلال الجائحة، فمنها من أجاب أن دور الدولة خلال الجائحة تمليه الظروف التي نمر منها ، و أن جميع تدخلاتها يجب أن تكون وفق القانون و الممارسات الديمقراطية. بينما بادر آخرون الى القول إن وجود الدولة يجب أن يتقوى، و أن عليها الأخذ بزمام الأمور حتى بعد انتهاء الأزمة بالنظر إلى أن الأسوء قادم، و هذا الأسوء ما هو الا لتخويف الناس البسطاء . و كان السؤال الثاني: هو هل ستنفعنا الديمقراطية في التصدي و القضاء على الجائحة؟ و في الإجابة عن هذا السؤال بدأت تتشكل سمات التحالفات التي نتحدث عنها هنا. اذ سارعت بعض البلدان مثل هنغاريا، و إسرائيل الى استغلال الفرصة، و الرغبة في القضاء على كل المؤسسات الاستشارية . في حين أن بلدانا أخرى عملت على إطلاق نقاش واسع بخلفية أن البلدان تكون في حاجة ماسة إلى الديمقراطية في وقت الأزمات، و إلى التعامل بيداغوجيا مع المواطنين قصد كسب ثقتهم. و الثقة عملة غالية وقت الازمات، و حث القائمين على استتباب الأمن بالابتعاد كلية عن كل الأساليب الردعية لمواجهة بعض " التمردات" لأن مثل هذه الأساليب لن تأتى بأي نتائج ملموسة. و بالنظر الى أن وقت الأزمات هو وقت انتشار الظواهر السلبية مثل الرشوة التي تنتشر بشكل مريع في مثل هذه الظروف، و لا سيما في القطاعات المعنية مباشرة بالازمة، فقد عملت على تشديد المراقبة، و فتحت قنوات متعددة للمراقبة الشعبية.
و ما أن تم الحسم في حاجتنا إلى الديمقراطية، و انتصار الدولة الداعية الى تعميمها بدل الانقضاض عليها، حتى طرح سؤال في جوهر الممارسة الديمقراطية أيضا، و هو سؤال كيفية جعل المواطنين يمتثلون لقرارات حكوماتهم الخاصة بمحاربة الجائحة. و هنا كذلك كانت الهوة شاسعة بين من انتهى إلى أن ضمان امتثال المواطنين إلى قرارات الحكومة يمر عبر إعطاء هؤلاء المواطنين أخبارا صحيحة، و وضعهم في حقيقة ما يحدث، و تقريبهم من مراكز اتخاذ القرار غبر خروج الحكومة بتصريحات يومية، و قبول الوزراء المثول أمام المؤسسات البرلمانية كلما تطلب الامر ذلك. و بين من اختار الاحتفاظ بحقيقة الأمور ضمن "اسرار الدولة"، و الاستثمار في الأخبار الزائفة، و التعامل مع المواطنين كقطيع لا يسمح له بإبداء الرأي أو بالمناقشة. و قد اتخذ هذا القمع أشكالا متعددة و متنوعة وفق اختلاف طبيعة الأنظمة، و تاريخ علاقتها مع شعوبها.
و ليس بعيدا عن الموضوع، قفزت قضيةالمراقبة الصحية الالكترونية إلى الواجهة، فتباينت مواقف الدول و شعوبها بين من لا مشكلة له في أن تكون هذه المراقبة بيد المخابرات و الشرطة.و بين من يدعو إلى ضرورة وضعها في يد جهة تسمح للمواطنين بالاطلاع على وضعيتهم الصحية، و التعامل معها وفق إراداتهم. و ما زال هذا السؤال قائما، و يثير كثيرا من الاحترازات؛ ففي المغرب ،مثلا، لم يتعد المسجلون في " وقايتي" أكثر من مليونين من البشر بالرغم من أهميته القصوى.
و لعل من أهم المواقف التي ستميز كذلك بين دول التحالفين المقبلين، هي كيفية التعاطي مع العلم و العلماء، و جعلهم في مأمن من شر تجار المآسي؛ ففي الوقت الذي دعت فيه كثير من الدول ممن ستشكل دعامة 'تحالف الإنسانية الإيجابية" الى أن مصير البشرية أصبح بين يدي العلماء، و أن القطاع يجب أن يحرز على اهتمام بالغ. قامت في بلدان أخرى دعوات شعبوية تحاول أن تبين أن العلماء "فئة" منفصلة عن الشعب، و لا تعرف أي شيء عن الواقع، بل ظهر من يشكك حتى في كروية الأرض لخلط الأوراق و سحب الثقة و المساحة التي بدأ العلماء يربحونها.
و في خضم سؤال العلم و العلماء، و البحث عن صيغ التعاطي مع عالم الغد طرح سؤال البيئة. فمن الدول من قالت إن علينا أن نبدأ من الآن في معالجة "جرائم الإنسانية ضد محيطها الطبيعى، و إن كل دقيقة نخسرها تعقد المأمورية أكثر. نادت دول أخرى بأن علينا الآن معالجة آثار الجائحة ، أما البيئة فيمكن أن تنتظر كما انتظرت منذ آلاف السنين. و الحال أن العلماء ينذروننا أنه بعد فوات خمسة و عشرين سنة من الآن يكون ستكون كل محاولة للمعالجة مستحيلة .
و بالنظر إلى ان القرارات الكبرى للسنين المقبلة تتخذ الآن ، فإن دول المجموعتين المقبلتين مختلفتان حول طرق اتخاذ هذه القرارات؛ ففي الوقت الذي تدعو فيه الدول التي ستشكل "مجموعة الدول الإيجابية" إلى اتخاذ القرارات بطريقة ديمقراطية مبنية على التشاور مع الناس، و مع العلماء والابتعاد عن نظرية المؤامرة ، والاعتماد على التضامن و المسؤولية. تعمل البلدان الأخرى على "تنمية" نظرية المؤامرة، و إشاعتها قصد تشكيك المواطنين في كل القرارات المصيرية .
اقتصاديا، الخلاف بين المجموعتين بدأ منذ الآن؛ فدول الحلف الإيجابي اطلقت النقاش السياسي الداخلي بخلفية دفع مواطنيها إلى استغلال الاختيارات الاقتصادية التي" وفرتها" لها الأزمة، و هي اختيارات لا يراها الا الاذكياء من الاقتصاديين و السياسيين ، موكدة لمواطنيها أن على الجميع العمل للتقليل من الآثار السلبية على الاقتصاد، و الاستثمار فيما سماه " جاك أطالي" ب" اقتصاد الحياة"، أي الاعتماد على الصناعات الضرورية للحياة، و المرتبطة مباشرة بالحاجات الضرورية للإنسان مثل التغذية ، و الصحة ، و التعليم ، و الثقافة ، و الإعلام ، و البحث، و التجديد الطاقي، و الصناعات الرقمية ، تجنبا للسيناريوهات الأكثر تراجييدية بعد الجائحة؛ أيالركود الاقتصادي الطويل،و ارتفاع البطالة، و التضخم، و صعود حكومات شعبوية. في حين أن الدول الأخرى تستثمر في الانغلاق على الذات و الشعبوية و السوداوية بخلفية الاستحواذ من الآن على الموارد الاقتصادية، و على دواليب الحكم.
صحيا، فالجري نحو اكتشاف اللقاح، واطلاق نقاش مغشوش حول أهميته في مواجهة الكوفيد19، سيكون كذلك ضمن المواضيع التي ستقسم المجموعتين، لأن اكتشاف اللقاح و الانتصار النهائي على المرض سيكون في صالح البلدان الإيجابية ، التي ستعمل بعد ذلك على الاستثمار في صناعة الأدوية ،و الأدوات الصحية ،و المستشفيات و المنازل الصحية ، و النظافة ، و الماء، و الأكل الصحي .
إن التعاطي مع هذه الأسئلة ، و ما سبق ذكره من خلاصات دراسات حول مستقبل العالم هو ما يؤهل الدول من الآن لتجد نفسها ضمن هذا التحالف أو ذاك.و يجب الانتباه إلى أن في الكثير من الدول اليوم حكومات كانت لها الشجاعة في الإجابة عن كل هذه الأسئلة بما يؤهلها لأن تكون ضمن دول الإنسانية الإيجابية، لكن دولها لن تستمر على هذا المنوال بالنظر إلى أن كثيرا منها ستخلفها حكومة انتهازيين شعبويين سيعرفون كيفية استغلال نتائج الجائحة لصالحهم، كما أن الدول المهزوزة ديمقراطيا اليوم ستجد نفسها ضمن تحالف الشر إسوة بكثير من الدول التي تشبه في تشكلها و مسارها هنغاريا مثلا. كما أن كثيرا من بلدان محور الشر ستسقط الى حضيض البلدان الرثة دون أمل الخروج منها الا بعد ثورة " سياسية وثقافية واجتماعية" ستتطلب زمنا ليس بالهين.
أما البلدان الرثة، فستتكون بالأساس من البلدان التي يحكمها اليوم مجموعة لا يهمها الا إثبات ايديولوجتهم في الحكم، و لم يبق من هؤلاء إلا القائلين بصلاحية مبادئ الدين في حكم الشعوب.و من البلدان التي لم تستطع حتى عشية قدوم الجائحة القيام بالمصالحة الداخلية، و التخلص من آثار حكومات العسكر أو الأحزاب الشوفينة. و من البلدان التي لم تعرف رسم مسار سياسي بعد التخلص من الأيديولوجية الشيوعية، و ذلك بالنظر الى ولادة "ما يشبه المافيا السياسية " بها خلال المدة الفاصلة بين سقوط حائط برلين و قدوم الجائحة. و من البلدان التي سوف يتخلى عنها مستعمروها القدامى بالنظر الى أن فاتورة الارتباط ستصبح غالية لأنها لم تعد تنتج معادن نفيسة و ليست صالحة لأي صناعة. و من بلدان المعتمدة فقط على تصدير ما بجوف أراضيها ، و توزيع عائداتها بين فئة صغيرة في الغالب ما يشكلون عائلة الحاكم كما هو الامر في عدد كبير من البلدان العربية المنتجة للبترول. و من البلدان التي كانت إلى اليوم تعتمد في اقتصاداتها على استقطاب الأموال المسروقة و المنهوبة، و على عائدات تجارة المخدرات و الأسلحة و البشر . و من البلدن التي ستجد نفسها متجاوزة صناعيا و إلى الابد بالنظر إلى الطفرة التي تعرفها اليوم الصناعات الالكترونية و البيولوجية .فكل هده البلدان لن يهمها الإجابة سؤال أهمية الديمقراطية لمعالجة الامر راهنا و لا مستقبلا، أو سؤال الحريات، و طبيعة الاخبار التي يجب أن تصل إلى شعوبها ، لأنها بلدان ستستمر في الاستثمار في الاخبار الزائفة ، و ستؤسس مؤسسات لترويجها، و لاتهمها طرق التعامل مع شعوبها حالا و مستقبلا ، و ليست مشغولة بالإجابة عن الأسئلة التي تطرحها المراقبة الإلكترونية ، لأنها هي بالأساس بلدان بوليسية مخابراتية، كما لا يهمها الإجابة على دور العلم و العلماء لأنها بلدان ستستمر في الاستثمار في الجهل و الفكر الخرافي، و في ترويج فكر ديني غير متنور.
و سيكون على شعوب هذه المجموعة خوض نضالات من أجل الالتحاق بمجموعة الإنسانية الإيجابية، إلا أن النضال من أجل الانعتاق في هذه البلدان سيكون نضالا عسيرا اكثر من عسر نضال العشرين سنة الماضية.
بالنسبة لبلدنا سوف لن يكون المغرب في طليعة "بلدان الإنسانية الإيجابية"، بالنظر إلى عدة عوامل أهمها الأثر السلبي لحكم الإسلاميين للبلد لمدة ثماني سنوات، و تحالف تيار كبير من البرجوازية المغربية "الرثة" معهم، تلك البورجوازية التي راكمت خدعا لتضخيم حجم مدخرتاهم المالية، و عدم استثمارهم في تنفيذ توصيات الإنصاف و المصالحة، و تشجيعهم على الردة الحقوقية، و تشبثهم بالتفسير الحرفي للنصوص الدينية الذي لا يعطى كامل الحقوق لكل مكونات المجتمع، و غيرها من الأخطاء التي لم تعالج إلا بتدخل المؤسسة الملكية. لكن البلد سيكون من أهم هذه البلدان بالنظر إلى أنه من البلدان القليلة التي تعاملت مع الجائحة بكثير من الصرامة و بكثير من الشفافية ، و بكثير من التضامن، و بكثير من الأفعال ذات البعد الإنساني التي كانت برمتها بتوجيهات ملكية صارمة.
الا أن المكوث برفقة هذا التحالف الإنساني لن يتأتى إلا بإحداث ثورة في تعليمنا بجميع أسلاكه، و ثورة مماثلة في منظومتنا الصحية، و تعليمنا الصحي و البحث العلمي، و الاستثمار كذلك في الأمن بجميع أبعاده، و بما أن هذا المستقبل سيعتمد كثيرا على الخيال العلمي فستكون الثقافة ، و لا سيما الثقافة السينمائية- أساسية لتمتين موقعنا ضمن هذه الدول.مادامت هذه الثقافة إطارا حاضنا للقيم الإيجابية ولإرادة الحياة.